أحدث الحكايا

من باريس للقاهرة يا قلبي فلتحزن!

مين اللي ما يحبش باريس؟!

سؤال استنكاري يحمل إجابته المفترضة: الكل يعشق باريس. ولكن عن أي باريس نتحدث؟ أهي باريس الطهطاوي في تخليص الإبريز أم باريس طه حسين حيث تغلب صورة السوربون بوصفه مكانا مقدسًا للمعرفة في أرقى صورها، ثم الريف الفرنسي الخلاب حولها، أم باريس الثائرة على الأنظمة الاجتماعية والفكرية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، أم باريس اليوم بكل ما فيها من تناقضات؟

 

صورة باريس تشبه الأسطورة التي تتحرك عبر الزمن بقوة المخيلة العالمية التي تمارس انتخابا يستبعد السلبي ويحتفظ بالإيجابي، ما أضفى على باريس ألقابا من أهمها مدينة النور La Ville-Lumière، غير أن الأماكن تتغير كالإنسان ومن خلاله، وباريس اليوم ليست الصورة التي تخايل السائح.

 

هناك أزمة اندماج واضحة في المجتمع الفرنسي ككل وهذه الأزمة تظهر بوضوح في باريس؛ حيث تبدو التجمعات العرقية كأنها جزر منعزلة، بل وتموج المسافات بينها بالريبة الاجتماعية الموجعة التي تخلق توترا حرجا تحت السطح.

 

القصة تبدأ من الحلم بباريس التي عرفتها من الطهطاوي وطه حسين وتوفيق الحكيم وأفلام السينما المبهرة التي تروج لباريس الخالية من الشوائب وآخرها “Midnight in Paris”. لكني في أولى زياراتي لباريس عام ٢٠١٦ واجهت المسافة بين الخيال والواقع، وكان من الطبيعي أن ألوم نفسي على توقعاتي المحلقة في الفضاء بلا ضابط من منطق.

 

رأيت الكثير من الباريسيين وقد علت وجوههم “تكشيرة” غير مفهومة إلا إن ربطتها بباقي العاصم الغربية حيث الإنسان مربوط في ساقية الرأسمالية البربرية التي تطحن أي شيء وكل شيء في سبيل فرض قوانينها، وإطلاق يد السوق في تسليع الحياة بكل تفاصيلها المادية والمعنوية بما في ذلك القيم والمشاعر.

 

الكاتب د. أيمن بكر وفي الخلفية باريس وبرج إيفيل

 

باريس عاصمة مأزومة بتناقضات كثيرة أهمها تراث ثقافي تنويري عظيم، لكنه محمل بجرائم فرنسا الاستعمارية المخيفة -شأنها شأن كل القوى الاستعمارية- ويكفي أن تزور الجناح المصري في اللوفر لتعرف كم النهب الذي مارسته فرنسا الاستعمارية على مصر مثلا.

 

 

باريس ليست واحدة، إنها تمثيل لحقب مختلفة من تاريخ الأمة الفرنسية بحلوه ومره، ولكننا سعيا لتنقية صورة باريس ننسى فترات الظلام والقمع والانحطاط التي واجهتها ونتمسك بكل جميل ومبدع وهو كثير ويستحق المحبة والاحترام.

 

ونستكمل باقي المقال الأسبوع القادم.

 

 

عن د. أيمن بكر

حاصل على الدكتوراة في جامعة القاهرة، أستاذ الأدب والنقد والدراسات الثقافية في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت. ورئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية. له عدة كتب في النقد الأدبي والثقافي منها السرد في مقامات الهمذاني (1998)، وتشكلات الوعي وجماليات القصة (2002)، وقصيدة النثر العربية (2009)، انفتاح النص النقدي، بالإضافة إلى مؤلفاته الشعرية مثل ديوان «رباعيات» بالعامية المصرية، والروائية مثل «الغابة». فاز بكر ٢٠٢١ بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى عن كتاب بعنوان: الطقوسية، السردية، المبالغة، نحو نظرية للشعر العربي الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *