في بدايات القرن العشرين كان الطموح المصري كبيرا على الرغم من أنها كانت تحت نوعين من الاحتلال، فقد كانت محتلة من الدولة العثمانية باعتبار أن الموقف السياسي الذي رسخته معاهدة لندن في عام 1841 لم يتغير من حيث منح حكم جزئي مستقل لأسرة محمد علي بشرط الاعتراف بالتبعية للسلطان العثماني، وكان هناك الاحتلال العسكري الإنجليزي الذي ثبّت نفسه بالاتفاق مع الخديوي في عام 1882.
على الرغم من ذلك كانت الهوية المصرية الوطنية الحديثة قد بدأت في الظهور وكانت سببا في أن كثيرين من أبناء المصريين قد بدأوا في العمل على تطوير مجتمعهم والخروج من أسر التقاليد القديمة ليساعدوا وطنهم في بناء نهضته الخاصة، وكان من أهم ما ركّز عليه المصريون في تلك الفترة التعليم، حين علموا أنه السبيل الوحيد لبناء مجتمع حقيقي وبلد يفخر به أبناؤه.
هذا الإيمان بقدرة العلم على الفعل قد تضافر مع الرغبة في تعليم البنات، تلك التي بدأت في النمو منذ إنشاء مدرسة السنية كمرحلة أولى تلاها مراحل أخرى لخروج الفتاة من مجرد تعلم المهارات المنزلية إلى مشاركة الرجل في كل أشكال التعليم والعمل به، ولذلك ظهرت نماذج من بطلات مصريات اقتحمن العديد من المجالات للمرة الأولى.
بطلات مصريات
ومن هؤلاء الطبيبة المصرية الأولى التي تم تعيينها في الحكومة المصرية وهي الدكتورة توحيدة عبد الرحمن واحدة من بطلات النضال المصري في القرن العشرين، وهي الأخت الكبرى للمحامية الأولى مفيدة عبد الرحمن، والتي اعترفت مفيدة لها بأنها كانت السبب الأساسي في أنها أرادت استكمال تعليمها.
الابنة الثالثة
في عام 1906 أنجب عبد الرحمن أفندي مصطفى الموظف بهيئة المساحة ابنته الثالثة، التي كانت الأولى من زوجته الثانية التي تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى التي كانت أختها.
كان عبد الرحمن أفندي نموذجا للرجل المثالي الذي لا يفرق بين الذكور والإناث والذي يهتم بالثقافة، بل إن حُسن خطّه جعله يشعر بأن عليه مهمة تثقيفية لمجتمعه فاهتم بها وبخاصة في نسخه للقرآن الكريم، ولأنه كان هذا النوع من الرجال فقد اهتم بتعليم بناته قبل أبنائه، ومن هنا بدأت توحيدة في سن التاسعة الدراسة في مدرسة السنية، لكنها لم تكتف بذلك وكانت القراءة هي هوايتها الأكبر التي ميزتها على قريناتها، فكانت محط أنظار الجميع وأولهم المديرة الإنجليزية للمدرسة في ذلك الوقت ميس كارتر التي رشحتها للدخول في مسابقة لنيل منحة لدراسة الطب في إنجلترا، المنحة التي قررها الملك فؤاد باقتراح ودعم جمعية كتشنر لإرسال ست بنات مصريات للدراسة في أوروبا عام 1922.
وعلى الرغم من تقدم الخُطّاب لها فقد قرر الأب أن العلم هو السلاح الأهم حتى لو كان في بعثة مدتها عشر سنوات، والغريب أن وافقته الأم كذلك، وهو ما يعد غريبا بل ثوريا في ذلك العصر، وهو يتواءم مع نصيحته لها قبل أن تركب السفينة من ميناء بورسعيد بأن تخلع اليشمك، فالملابس على حد قوله لن تؤثر على أخلاقها التي يثق فيها كما أنها يجب أن لا تشذّ عن المجتمع الذي سوف تعيش فيه.
بعثة الستة
كن ست فتيات هن: الآنسة هيلانة سيداروس، والآنسة أنيسة ناجى، والآنسة كوكب حفني ناصف، والآنسة حبيبة عويس، والآنسة فتحية حامد، والآنسة توحيدة عبد الرحمن، سافرن في سن الخامسة عشرة لبعثة ستمتد إلى عشر سنوات بعيدا عن أي اتصال مع الأهل والوطن ليعدن وقد صرن طبيبات.
كانت الإقامة في سكن الطالبات حيث لم يكن مسموحا بالخروج إلا في الفسح الجماعية لزيارة أماكن تاريخية وثقافية، وظلت الطالبة توحيدة على هذا الحال من الانقطاع للدراسة على مدار سنواتها، انقطاع لم يتخلله إلا زيارة من الوالد والأخ عبد المنعم للبحث عن فرصة دراسة لم تسنح إلا في فرنسا لدراسة الطباعة، وزيارة رسمية للملك فؤاد التقى فيها بالطالبات المصريات ليحدثهن عن دورهن في محاربة الجهل والمرض وأن المنحة ليست للحصول على شهادة بل لتحصيل العلم عموما، وهي الكلمات التي أثرت كثيرا في توحيدة فرفضت عرضا للحصول على الجنسية الإنجليزية والبقاء هناك مواطنة من الدرجة الأولى.
الأولى زميلة الأوائل
حين نتحدث عن أول طبيبة مصرية فسوف نجد أننا أمام ثلاثة أسماء كلهن من طالبات هذه البعثة وهن الدكتورة هيلانة سيداروس ابنة طنطا، وأولى العائدات من البعثة، وهي أول طبيبة مصرية، والدكتورة كوكب حفني ناصف (أخت ملك حفني ناصف باحثة البادية) أول طبيبة جراحة في مصر، والثالثة هي الدكتورة توحيدة عبد الرحمن أول طبيبة يتم تعيينها بالمستشفيات الحكومية المصرية، والتي تسلمت وظيفتها في مستشفى شبرا العام بعد عودتها عام 1933، وبعد أن رفضت تحويل الشقة التي أهداها لها والدها في وسط القاهرة إلى عيادة خاصة حيث رأت أنها لم تسافر بأموال المصريين لتعود وتنشئ مشروعا تجاريا على حد تعبيرها.
ونتيجة لإخلاصها الشديد في العمل ومتابعة القصر الملكي لها فقد منحها الملك فؤاد لقب “هانم” رسميا وهو ما لم تستحسنه الدكتورة توحيدة ولم تضفه إلى الأوراق الرسمية كعادة هذا الزمن.
تزوجت بعد عودتها بقليل من محمد محمود عبد اللطيف وكيل النائب العام الذي صار بعد قليل واحدا من ألمع قضاة مصر بعد توليه الحكم في عدة قضايا مهمة مثل قضية السيارة الجيب الخاصة بتنظيم الإخوان وبعض قضايا الجاسوسية، مما جعله في بعض الأحيان عرضة لمحاولات الاغتيال التي واجهتها الزوجة بشجاعة، وأنجبت سبعة من الأبناء عملت على تربيتهم تربية صالحة منتمية إلى مجتمعها وتقاليدها.
تدرجت الدكتورة توحيدة في المناصب، حتى وصلت لمنصب كبيرة طبيبات وزارة المعارف ومديرة الصحة المدرسية، وهي التي أصرت على تطبيق نظام التغذية المدرسية الأساسية في الستينيات، بعد أن سافرت للخارج أكثر من مرة لدراسة أفضل السبل لتطبيق هذا النظام.
وبعد وفاة زوجها في عام 1972 أصيبت بالسرطان حيث لاقت ربها في العاشر من سبتمبر من عام 1974 عن ثمانية وستين عاما بعد أن قامت بدورها كأم وطبيبة ومسئولة ومواطنة مصرية على وجهه الذي نفتخر به.
ونشرت مذكراتها في كتاب الدكتورة “لما كانت مصر مصر بتحرير مؤمن المحمدي”.
شكرا على هذا المقال وهذه السلسلة المهمة