أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: الأفوكاتو مفيدة.. سيدة القانون المصرية الأولى

كانت نساء مصر دائما تسبقن بإنجازاتهن خيال المبدعين، فكما سبقت جيرترود نسيم مؤلف فيلم “للرجال فقط” بحوالي عشرين عاما، سبقت مفيدة عبد الرحمن مؤلف فيلم “الأفوكاتو مديحة” بحوالي إحدى عشرة سنة.

إعلان فيلم الأفوكاتو مديحة

 

في مطلع الخمسينيات أنتجت السينما المصرية فيلمين عن دخول المرأة مجال المحاماة، الأول هو “الأفوكاتو مديحة” بطولة مديحة يسري وهو فيلم اجتماعي يعالج التغير النفسي الذي يحدث لفتاة اختارت العمل بالمحاماة وبدأت النظر إلى أسرتها وعاداتها بطريقة مختلفة، والثاني هو “الأستاذة فاطمة” بطولة فاتن حمامة وكمال الشناوي وهو فيلم أقرب إلى التصنيف الكوميدي خصوصا مع وجود عبد الفتاح القصري، والفيلم يقاوم فكرة فشل المرأة في المحاماة لكنه ينتهي باختيارها ترك المحاماة للزواج في النهاية بعد نجاحها في تبرئة ساحة خطيبها المحامي من اتهام بالقتل.

الأولى

لكن المرأة التي نتحدث عنها سبقت الفيلمين بأكثر من عقد وربما كانت ملهمة لمؤلف الفيلم بكتابته، فهي مفيدة عبد الرحمن التي كانت المرأة المصرية الأولى التي تعمل بالمحاماة في مصر.

في حي الدرب الأحمر بالقاهرة وفي 20 يناير من عام 1914 ولدت فتاة لأب متعلم كان يعمل موظفا في هيئة المساحة، لكنه يتميز بحسن الخط وهو الأمر الذي ربطه بالكتب ثم بالقرآن الكريم الذي نسخه بيده عدة مرات ليصل إلى أحسن نتيجة، فوصل عدد النسخ إلى 19 نسخة، كانت الفتاة هي الثالثة في عقد إخوتها، ولها أخت غير شقيقة غير أنها ابنة خالتها، فقد تزوج الأب من سيدة ماتت وهي تنجب ابنتها الأولى، فتزوج من أختها التي أنجبت له باقي أولاده.

أطلق الأب على المولودة اسم مفيدة، نشأت طفلة في وسط القاهرة في بيت يقدر العلم والقراءة وفي جو يتراوح بين حماس الثورات المصرية وصخب الحياة القاهرية وسط أجواء الحرب العالمية الأولى.

مفيدة عبد الرحمن

 

تعلمت الفتاة، وأكملت تعليمها حتى الثانوية التي دخلت امتحانها وفشلت فيه عام 1933، وكانت قد تعرفت على أحد الكتاب المترددين على أبيها وبادلته الإعجاب فتقدم للزواج منها لكن الأب رفض وأصر على أن تستكمل تعليمها لكنها أصرت على الزواج.

إقرار بالموافقة

في شهر العسل أصر العريس على أن تذهب العروس إلى الامتحان لكي تعوض ما فاتها وبالفعل نجحت في اجتيازه، ودعمها الزوج في دخول الجامعة، وكان العميد حين علم أنها متزوجة قد أصر على حضور الزوج بنفسه أمامه ليكتب له إقرارا بالموافقة على التحاق زوجته بكلية الحقوق، وبالفعل قام الزوج بذلك الإقرار لتصبح مفيدة عبد الرحمن أول امرأة وأول زوجة تلتحق بكلية الحقوق في مصر، وكانت توازن بين واجباتها الزوجية وبين مذاكرتها بمساعدة زوجها الذي كان حسبما تذكر يقوم أحيانا ببعض مهام المنزل لتتفرغ لمذاكرتها، وهذا أمر غريب على فترة الثلاثينيات.

تخرجت مفيدة من كلية الحقوق عام 1939 وعملت لبضعة شهور بالحكومة لكنها اختارت القيد في جداول المحاماة وبدأت بالفعل في ممارسة المهنة منذ نوفمبر 1939 كأول محامية مصرية.

أول محامية مصرية مفيدة عبد الرحمن

 

كان محمد عبد اللطيف زوج مفيدة عبد الرحمن كاتبا وصاحب مطبعة موجودة في حي شعبي وكان بعض جيران العمل يواجهون مصاعب قانونية فيطلبون من زوجها أن تحضر معهم أمام المحكمة فكانت لا ترد أحدا، وتقول في لقاء تليفزيوني أجرته في أواخر الثمانينيات أنها كانت لا تحصل منهم على أجر مالي لكن هؤلاء الموكلين كانوا يهدون إليها “رأس سكر أو عشر بيضات أو أوقية تفاح” وكانت تعتبر هذا أجرها كمحامية مبتدئة.

النائبة

بدأت مفيدة عبد الرحمن في نيل شهرتها كمحامية بعد تصديها للدفاع عن درية شفيق الناشطة النسائية التي كونت الجمعيات واقتحمت البرلمان عام 1951 مع مجموعة من زميلاتها لعرض مطالب نسائية عليه فتم القبض عليها، ثم لتصديها للدفاع عن متهمين في محاكمات سياسية مختلفة، وهو ما أهلها لدخول معترك الانتخابات البرلمانية عام 1959 لتصبح نائبة عن الغورية والأزبكية لمدة تسع عشرة عاما حتى 1976.

 

وعلى الرغم من إنجابها لتسعة من الأبناء فقد كانت نشطة في الحياة العامة بصورة لافتة، فقد عينت عضوا في مجلس إدارة بنك الجمهورية، ونقابة المحامين، ومجلس الاتحادات الجامعية، والمؤتمر الوطني للاتحاد الاشتراكي، والاتحاد الوطني، ومجلس هيئة البريد، وعملت أيضا على تأسيس جمعية «نساء الإسلام»، وشغلت منصب رئيسة الجمعية لعدة سنوات.

في عام 1994 تقاعدت عن العمل عندما بلغت الثمانين من عمرها، ونظرا لعملها الناجح في المحاماة والبرلمان، ومع تربيتها لتسعة أبناء، فقد أطلق على مفيدة لقب “الأم العاملة المثالية”، نظرا لتعدد اهتماماتها ونجاحها في تربية أبنائها الذين اجتازوا تعليمهم الجامعي وكان منهم من صار زميلا لها في مهنة المحاماة.

وقد توفيت في الثالث من سبتمبر عام 2002 عن ثمانية وثمانين عاما.

 

ومن المفارقات اللطيفة أنها كانت الأخت الصغرى للدكتورة توحيدة عبد الرحمن أول طبيبة مصرية تعمل بالحكومة المصرية وهي التي سوف خصصنا لها حكاية سابقة.

اقرأ أيضا

د. هيثم الحاج علي يحكي: الدكتورة توحيدة عبد الرحمن.. الأولى زميلة الأوائل

كانت مفيدة إذن أول طالبة مصرية تلتحق بكلية الحقوق وأول زوجة وأم تدرس بالجامعة وأول محامية مصرية، وأول محامية مصرية تترافع أمام محكمة النقض وأمام المحاكم العسكرية.

وقد احتفى بها موقع جوجل أكبر وأشهر محرِّكات البحث على الإنترنت في يناير 2020، في ذكرى مرور مائة وستة أعوام على مولدها.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *