ظننته خيالا أعيش فيه
ظننت الكون ملكي
وعاش الظن معي زمننا
حتى أخبرتني الطبيبة أنه اضطراب
“اللى عندك اسمه اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة”، أهدتني الطبيبة أول الخيط في رحلة إدراكي لما سبق. لست ذلك الحالم الذي يعشق التخييل، إنما أنا مجرد رجل مضطرب، يتحرك كثيرا نعم، لكن في غير المكان الصحيح.
نقطة المنتهى
ذهبت إلى موعد جلسة العلاج السلوكي مبكرا كالعادة؛ أحارب الزمن حتى أصل إلى نقطة المنتهى، وأثق تلك المرة في أنها النهاية، فلن أضطر مرة أخرى إلى سب الناس عندما يضعون أنوفهم في حياتي، أو عندما يسرقون مني قدرتي على الخيال. الآن، والآن فقط. كل ما أحتاجه أن أتنفس طويلا كما أخبرتني الطبيبة، شهيق، زفير، شهيق، زفير. تدريب سحري يخفي من أمامك كل صاحب سوءة، أو فهم معطوب.
أخبرت الطبيبة برغبتي في الابتعاد عن الناس، وأخبرتها عن التفكير الدائم في الانتحار: “يوميا أفكر في الانتحار، أرى نفسي طائرا بجناحين من نافذة شقتي، ليس حلما إنما تفكير يأسرني طيلة يومي، وأراني أقفز بطريقة بهلوانية لأستقر على قضبان المترو، وعندما يقترب أمد يدي مثل سوبر مان فيتوقف ثم يستقبلني الناس استقبال أبطال مارفل، شعور البطولة يأسرني، لكنها بطولة زائفة، تنتهي غالبا بالانتحار”.
في جلسة أخرى حضرت إليها أحمل مجموعة من الكتب والخطابات والصور، “بدأت قبل شهرين سلسلة مقالات عن الخطابات، مزجت فيها بين الشخصي والعام، أجد نفسي أكثر بين الأوراق القديمة، قبل يومين اشتريت صندوقا مليئا بالورق القديم دفعت فيه ألفا جنيه، يظنني الناس مجنونا، لكنهم لا يعلمون أن المدفوع ثمن بسيط؛ ربما وجدت نفسي في أحد تلك الأوراق!”.
اقرأ أيضا
ظننت أن متاعبي انتهت
قبل عقود ثلاث، ونحن نسكن غرفة مستأجرة بمنزل الحج لبيب في قرية كفر غطاطي، تسللت خلسة أسفل الأريكة وأشعلت عود ثقاب في كراكيب أمي، في المساء ألهب سوط أبي جسدي، وشلّني صوته.
بمرور الوقت ظننت أن متاعبي انتهت، لكنها زادت مع السنين، ومع السنين اختفى سوط أبي، وشاخ صوته، كلما رآني شق عليه جفوتي: “لماذا لا تجلس معي؟ لماذا لا تأكل معنا؟”.
مات أبي فلم أذرف عليه الدموع كالمعتاد، وبعد عام بكيت رحيله، ولم أحضر إلى قبره منذ خمسة عشر عاما. لكن اليوم، وأنا أكتب لكم، قررت زيارته بصحبة أولادي الصغار، سوف أعاتبه لأنني تألمت من سوطه كثيرا، وسوف أعتذر إليه لأنني غبت عنه كل تلك السنوات!
كيف أحبه وأنا أحمل في قلبي عتابًا منذ سنين طول، منذ سوط أبي وصوته، فلم يظهر ليمنعهما عني، وفي كل مرة آلمني سوط أحدهم خلال ثلاثة عقود تركني أتألم.
لا ترى الطبيبة أن أزمتي في علاقتي بأبي، ولا في نشأتي، تقول إن اضطرابي الموصوف ADHD وراثي، يولد مع أصحابه، حتى قبل أن يحصلوا على اسم، أو وطن أو دين، يأتي اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ثم يلحقه أي شيء آخر. تقول إن أزمتي الفعلية في علاقتي بالله، ترى أنني أحمل في قلبي عتابا أخفيه وأخشى البوح بتفاصيله، ترى أننى عندما أبوح يزول تعبي، لكنني حتى لو صدقتها –وهو أمر صعب– فلن أملك القدرة على البوح، ولن أملك الجرأة على العتاب!
خائف من المواجهة
في الخطابات التي أجمعها عثرت على مجموعة من شرائط الكاسيت، تحمل رسائل من أسرة عاشت في أمريكا في التسعينيات إلى عائلتها في القاهرة، ومن بين تلك الشرائط رسالة تملأ شريطا كاملا مرسلة إلى الشيخ شفيق أحد مشايخ الطريقة التيجانية، قلت في نفسي ربما كان ذلك مؤشرا فبدأت بالبحث عن الطريقة ربما وجدت ملاذي في التصوف، لكنني لم أجد ما يصلني إلى الشيخ شفيق التيجاني، فحدثت أحد الأصدقاء المهتمين بالتصوف فأرسل رابطا على موقع فيس بوك قال إنه لأحد شيوخ التيجانية، “أخبره أنك من طرفي”.
لم أخبره ولم أتصل حتى الآن؛ تقول الطبيبة إننى خائف من المواجهة: “عادة ماينفعش نتكلم عن الدين مع المريض، محصلش معايا قبل كده واتكلمت عن الله مع مريض عندي، لكن إنت اللى فتحت الموضوع معايا بالتالي لازم ننهيه بالعلاج”.
كلما حدثتها عن الإخوان تقاطعني: “مال الإخوان بالدين؟”، أرد ضاحكا: “عندك حق هم أصلا مايعرفوش ربنا”. ثم أنهي جلستي وأخرج على موعد آخر باللقاء، فقد حددت الطبيبة جلستين في الأسبوع أحضر إليها وأبدأ في الكلام، كلام كثير، أتحدث كثيرا، أذكر أن إحدى الجلسات امتدت ساعتين، وعندما سألتها لماذا لم تنبهني بانتهاء موعد الجلسة قالت: “طول ما إنت عايز تتكلم ما أقدرش أنهي الجلسة، دي طريقتي ولكل شيخ طريقة”. وفي جلسة أخرى أخبرتها أنني مللت الكلام، أريد علاجا ناجزا: “سئمت الخسارة، خسرت كثيرا آخر عامين، عملي، أصدقائي، سمعتي، أريد العودة مرة أخرى لأحفظ حقي المسلوب”. ردت بكل هدوء: “الفكرة مش في الكلام الكتير، الفكرة إنك لازم تحكي كل اللى جواك لحد ما تخلص كل الكلام فتبدأ تحكي اللى إنت مخبيه ومش عايز تقوله”.
أرى نفسي طائرا بجناحين من نافذة شقتي، ليس حلما إنما تفكير يأسرني طيلة يومي، وأراني أقفز بطريقة بهلوانية لأستقر على قضبان المترو، وعندما يقترب أمد يدي مثل سوبر مان فيتوقف ثم يستقبلني الناس استقبال أبطال مارفل
طلبت طبيبتي كتابة خطاب إلى الله أعاتبه فيه، فعجزت عنه لأكثر من مرة، وفي جلسة أخرى طلبت كتابة خطاب إلى إحدى حبيباتي أيام المراهقة، ترى أنني أحمل لها اعتذارا لاختفائي المفاجئ عنها. محظوظ أنا بالطبيبة التي ساقتني إليها كثرة أزماتي مؤخرا، فهي خفيفة الروح، حالمة، ورومانسية، وجميعها صفات تشجعني على تغييرها والبحث عن طبيب آخر، فقد سئمت الرومانسية، وسئمت الحالمين.
خطاباتي القديمة
أترك تدريباتي المطلوبة من تنفس وغيره وأعيش مع الخطابات القديمة، أقلب فيها جيدا، أقرأها كلمة كلمة، وأسرح بخيالي مع أسرارها؛ فمهما كانت بسيطة إلى العالم الخارجي فهي كل شيء إلى أصحابها.
أغلب الخطابات تدور حول الحب، إما افتقاده لسفر الحبيب، أو جفوة لحزن بينهما، أو شوق ولوعة، ورغبة في اللقاء، أو سعى إلى الله وأمل في جوار أوليائه. كلها خطابات في فلك الحب. ربما كان ذلك مؤشرا آخر إلى أن أزمتي في الحب، ربما لو أحببت زال الألم. لكن.. أنا أحب فعلا، ومع ذلك الألم موجود، هل قصدت الخطابات الحب بمعناه الأكبر، حب الله؟ لكن كيف أحبه وأنا أحمل في قلبي عتابًا منذ سنين طول، منذ سوط أبي وصوته، فلم يظهر ليمنعهما عني، وفي كل مرة آلمني سوط أحدهم خلال ثلاثة عقود تركني أتألم.
اقرأ أيضا
سامح فايز يحكي: حكاية ميلاد بائع كتب وقع في غرام الجوابات القديمة
الموضوع مرهق بالفعل، طلبت من الطبيبة الحديث في شيء آخر، ومرت أكثر من جلسة وأنا أتحدث عن مواضيع مختلفة لا علاقة لها ببعضها، مثل: غزة، فلسطين، المعارضة، ولماذا يجب أن يكون المثقف على يسار السلطة؟ وعن قطع الأشجار، وعن أصحابي من اليمين الليبرالي واتهامهم المستمر وطعنهم في أفكاري ومدى جديتها، وعن اليسار المريض الذي رحل وتركنا نطوف حول أحلام الماضي.
وفي آخر جلسة أخبرتني الطبيبة أن الموعد المقبل مؤجل لما بعد العيد. أظنها فرصة مناسبة لزيارة أبي في مقابر العائلة بمحافظة بني سويف، لم أذهب إلى مسقط رأسي منذ أعوام توقفت عن عدها، ربما كانت تلك الرحلة فرصة للبدء من جديد!