لو كان قد شاهد ما شاهدناه ليس فقط كان سيدهشه ويبهره المشهد الحي الصاخب في جنازته، بل غالبًا كان سيعلن عن رغبته العارمة في أن يكون بين الحضور ومعهم، مشاركًا ومستمتعًا ومأخوذًا بما تم فيما أسموه.. “جنازته”.
الكاتب الكولومبي العظيم جابرييل جارثيا ماركيز توفي يوم ١٧ أبريل ٢٠١٤ وعمره ٨٧ عامًا، وآخر طلة له على عشاقه وأمام الكاميرات كانت يوم ٦ مارس من العام نفسه -يوم عيد ميلاده- أمام منزله بمكسيكو سيتي، وفي عروة جاكتته الوردة الصفراء. تلك كانت زهرته المفضلة وذلك كان لونه المفضل الذي طغى على مراسم الاحتفاء به وبحياته في جنازته. الورود الصفراء والفراشات الورقية الصفراء… كانت في كل مكان!
قرأنا وسمعنا كثيرًا عن الفراشات الصفراء في حديقة جدة ماركيز وهو الطفل الصغير يطاردها جريا، وأحيانا بالطبع كان يشعر بأن الفراشات هي التي تطارده. ومن هنا تكرر المشهد في إبداعه العظيم، لذلك كان من الحكمة والوفاء أيضا أن تظهر الفراشات الصفراء حتى لو كانت ورقية في جنازته. وكان من الطبيعي عندما تساقطت وتطايرت هذه الفراشات أن تطلعت إليها العيون وابتهجت النفوس. والبعض من الحضور أطلق الصيحات والبعض الآخر اكتفى بالصمت والدموع بعينيه.
حسب ما شاهدت وسمعت وقرأت عن هذا الحدث، من الصعب بل من المستحيل تسمية ما جرى بأنه كان جنازة وتلقي عزاء وكلمات تأبين؛ إذ كانت المشاهد مبهجة وصاخبة بالحياة والبشر وأيضا حافلة بالموسيقى والأغاني وقراءات من أعماله داخل وخارج القاعة، كما تم عزف الألحان المفضلة لديه سواء كانت شعبية أم كلاسيكية وانطلقت الصرخات مثل «عاش جابو» (هكذا كان اسمه المتداول) واحتد التصفيق أحيانا..
لا أنسى أبدًا أن «نيويورك تايمز»، الصحيفة الأمريكية الكبرى، صدرت في اليوم التالي لوفاته وعلى صدر صفحتها الأولى صورة لماركيز ونظرته الثاقبة. أحد كبار مسئولي الصحيفة كشف فيما بعد أن في اجتماع التحرير الساعة الرابعة بعد ظهر يوم وفاة ماركيز حُسم الأمر بأن ماركيز سيكون في صدارة الصفحة الأولى. ومعه مقالتان مطولتان تحتفيان بالأديب الكبير وإرثه وأثره وتأثيره.
ثم جاءت الصحيفة نفسها وفي اليوم التالي لجنازته أو الحفل الاحتفائي لكى تنشر تقريرا كتبه اثنان من مراسليها من مكسيكو سيتي ليصفا لحظات الاحتفاء المبهج ومشاعر الحاضرين الفياضة، وكيف أن العلبة السوداء الحاوية والحاملة لرماد جسده بعد أن دخلت بها الزوجة مرسيدس والابنان رودريجو وجونزالو. وبعد أن تم وضعها على المنضدة ضجت القاعة بالتصفيق لأكثر من دقيقة.
صحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي لوفاة ماركيز
المشهد الاحتفائي والاحتفالي عاشه عن قرب المئات، وعايشها عن بعد الآلاف ممن عشقوا ماركيز وكتاباته، ومن وجدوا فيه صديقا صادقا وعزيزا وبين سطوره سكنا لخيالهم وأفقا لأحلامهم. ولذلك كان فراقه مؤلما والاحتفاء به ضروريا.
ماركيز نبهنا كثيرًا لسحر الواقع، وبالتأكيد سنكتشفه أكثر فأكثر اذا دققنا النظرة وتأملنا اللحظة التي نعيشها بكافة تفاصيلها. كما أنه هو نفسه ذكرنا بالحبن الذي يولد ولا يموت أبدا وأن ذاكرة القلب (بعكس ذاكرة العقل) في إمكانها أن تغفر وتتسامح وقد تضمد الجراح وتلملم النفس لتعاود السير من جديد.
ولعل أهم قيمة نقلها ماركيز لنا، أن ننظر دائما لحياتنا من جديد وبطريقة أكثر تأملا وتمعنا عن ذي قبل، وأكثر التصاقا واحتضانا لها ولتفاصيلها الدقيقة.. وأن «نعيش لنتذكر» وأن «نتذكر ما نريد أن نتذكره» وأن نتساءل أيضا ترى هل تغيرت رؤيتنا وفهمنا لقلقنا وشعورنا تجاه الحياة أو الموت؟!.. أعتقد أن ماركيز كان يريد منا أن نتذكر هذا ونتعلم من هذا.. لكى تكون حياتنا أكثر سحرا ومتعة وقيمة وسعادة وبهجة.