أحدث الحكايا

توماس جورجيسيان يحكي: «عاش جابو».. فراشات ماركيز الصفراء تحيي جنازته

لو كان قد شاهد ما شاهدناه ليس فقط كان سيدهشه ويبهره المشهد الحي الصاخب في جنازته، بل غالبًا كان سيعلن عن رغبته العارمة في أن يكون بين الحضور ومعهم، مشاركًا ومستمتعًا ومأخوذًا بما تم فيما أسموه.. “جنازته”.

الكاتب الكولومبي العظيم جابرييل جارثيا ماركيز توفي يوم ١٧ أبريل ٢٠١٤ وعمره ٨٧ عامًا، وآخر طلة له على عشاقه وأمام الكاميرات كانت يوم ٦ مارس من العام نفسه -يوم عيد ميلاده- أمام منزله بمكسيكو سيتي، وفي عروة جاكتته الوردة الصفراء. تلك كانت زهرته المفضلة وذلك كان لونه المفضل الذي طغى على مراسم الاحتفاء به وبحياته في جنازته. الورود الصفراء والفراشات الورقية الصفراء… كانت في كل مكان!

ماركيز في آخر طلة له والوردة الصفراء تزين الجاكت الذي يرتديه

 وكنا قد قرأنا وسمعنا كثيرًا عن الفراشات الصفراء في حديقة جدة ماركيز وهو الطفل الصغير يطاردها جريا، وأحيانا بالطبع كان يشعر بأن الفراشات هي التي تطارده. ومن هنا تكرر المشهد في إبداعه العظيم، لذلك كان من الحكمة والوفاء أيضا أن تظهر الفراشات الصفراء حتى لو كانت ورقية في جنازته. وكان من الطبيعي عندما تساقطت وتطايرت هذه الفراشات أن تطلعت إليها العيون وابتهجت النفوس. والبعض من الحضور أطلق الصيحات والبعض الآخر اكتفى بالصمت والدموع بعينيه.

جنازة ماركيز
الفراشات الصفراء في جنازة ماركيز
جانب من جنازة ماركيز

مراسم الجنازة

مراسم الجنازة بدأت في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاثنين ٢١ إبريل ٢٠١٤. وما جرى كان احتفاء بحياته الحافلة وذكراه الطيبة. وجرت مراسم وطقوس البهجة والاحتفاء في قصر الفنون الجميلة بمكسيكو سيتي (عاصمة المكسيك) بحضور الرئيسين المكسيكي والكولومبي، وأيضًا آلاف ممن عاشوا وعشقوا كتاباته ورواياته. وحسب ما شاهدت وسمعت وقرأت عن هذا الحدث، من الصعب بل من المستحيل تسمية ما جرى بأنه كان جنازة وتلقي عزاء وكلمات تأبين؛ إذ كانت المشاهد مبهجة وصاخبة بالحياة والبشر وأيضا حافلة بالموسيقى والأغاني وقراءات من أعماله داخل وخارج القاعة، كما تم عزف الألحان المفضلة لديه سواء كانت شعبية أم كلاسيكية وانطلقت الصرخات مثل «عاش جابو» (هكذا كان اسمه المتداول) واحتد التصفيق أحيانا..

أحد قراء ماركيز في جنازته
Mercedes Barcha (R), widow of late Colombian Nobel laureate Gabriel Garcia Marquez, her son Gonzalo Garcia Barcha (L) and her grandson stand next to an urn containing Garcia Marquez’s ashes for public viewing in the Palace of Fine Arts in Mexico City, April 21, 2014. REUTERS/Edgard Garrido (MEXICO – Tags: SOCIETY OBITUARY) – RTR3M51T

وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الفراشة مهما كان حجمها أو لونها كانت ومازالت في قاموسنا الشعوري والنفسي هى الانطلاقة والخفة والجمال والتوق الى الضوء والاحتراق به وأيضا التحول من يرقة تزحف الى فراشة تحلق وتطير في دوائر صغيرة أو كبيرة ثم ماذا أيضا عن رعشة أجنحة لدى الفراشة وتلاقح الزهور وتدفق المشاعر وحرية التعبير والحركة .. وما يقال دائما عن أثر الفراشة. ذاك الذي قال محمود درويش عنه «أثر الفراشة لا يرى .. أثر الفراشة لا يزول».

وداع نيويورك تايمز

ولا أنسى أبدًا أن «نيويورك تايمز»، الصحيفة الأمريكية الكبرى، صدرت في اليوم التالي لوفاته وعلى صدر صفحتها الأولى صورة لماركيز ونظرته الثاقبة. أحد كبار مسئولي الصحيفة كشف فيما بعد أن في اجتماع التحرير الساعة الرابعة بعد ظهر يوم وفاة ماركيز حُسم الأمر بأن ماركيز سيكون في صدارة الصفحة الأولى. ومعه مقالتان مطولتان تحتفيان بالأديب الكبير وإرثه وأثره وتأثيره.

ثم جاءت الصحيفة نفسها وفي اليوم التالي لجنازته أو الحفل الاحتفائي لكى تنشر تقريرا كتبه اثنان من مراسليها من مكسيكو سيتي ليصفا لحظات الاحتفاء المبهج ومشاعر الحاضرين الفياضة، وكيف أن العلبة السوداء الحاوية والحاملة لرماد جسده بعد أن دخلت بها الزوجة مرسيدس والابنان رودريجو وجونزالو. وبعد أن تم وضعها على المنضدة ضجت القاعة بالتصفيق لأكثر من دقيقة.

وذكر التقرير أيضًا وجود رئيسي البلدين (بلد النشأة كولومبيا وبلد الاستضافة أو المنفى الاختياري المكسيك)، وبأنهما بعد إلقائهما لكلمتيهما لم يغادرا المكان وظلا هناك إلى انتهاء الاحتفاء بماركيز.

كما ذكر في التقرير الصحفي نفسه أن طوابير طويلة من مقدمي العزاء والتقدير للكاتب الكبير كانت متواجدة في المكان وربما خارج القاعة، إلا أنه تقرر أن يظل الاحتفاء ساريا لحين انتهاء كل من في الطابور من أدائه لواجب العزاء.

صحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي لوفاة ماركيز

المشهد الاحتفائي والاحتفالي عاشه عن قرب المئات، وعايشها عن بعد الآلاف ممن عشقوا ماركيز وكتاباته، ومن وجدوا فيه صديقا صادقا وعزيزا وبين سطوره سكنا لخيالهم وأفقا لأحلامهم. ولذلك كان فراقه مؤلما والاحتفاء به ضروريا.

جانب من جنازة ماركيز

سحر الواقع

ماركيز، صاحب «مئة عام من العزلة» نبهنا كثيرًا لسحر الواقع، وبالتأكيد سنكتشفه أكثر فأكثر اذا دققنا النظرة وتأملنا اللحظة التي نعيشها بكافة تفاصيلها. كما أنه هو نفسه ذكرنا بالحب الذي يولد ولا يموت أبدا وأن ذاكرة القلب (بعكس ذاكرة العقل) في إمكانها أن تغفر وتتسامح وقد تضمد الجراح وتلملم النفس لتعاود السير من جديد. والأهم أنها أي «ذاكرة القلب» على امتداد الطريق وأيضا في نهاية المطاف تحافظ على وتحتفظ بما هو عشق وود وذكرى حلوة. ولهذا نحن نظل أحياء وتستمر حياتنا!

الروائي العالمي جابرييل جارسيا ماركيز

ولعل أهم قيمة نقلها ماركيز لنا، أو فلنقل تركها لنا، لعلنا نتعلم حتى من جنازته، أن ننظر دائما لحياتنا من جديد وبطريقة أكثر تأملا وتمعنا عن ذي قبل، وأكثر التصاقا واحتضانا لها ولتفاصيلها الدقيقة.. وأن «نعيش لنتذكر» وأن «نتذكر ما نريد أن نتذكره» سواء كان هذا في رواية أو في فيلم أو خلال «لقاء عابر» أو «جلسة مطولة» أو ضمن «دردشة» أو «فضفضة» أو كان بحضورنا لـ «حفل عرس» أو «جنازة». وأن نتساءل أيضا ترى هل تغيرت رؤيتنا وفهمنا لقلقنا وشعورنا تجاه الحياة أو الموت؟!.. أعتقد أن ماركيز كان يريد منا أن نتذكر هذا ونتعلم من هذا.. لكى تكون حياتنا أكثر سحرا ومتعة وقيمة وسعادة وبهجة.

عن توماس جورجيسيان

كاتب وصحفي مصري أرمني يعيش في أمريكا. رحلته مع الكتابة والصحافة بدأت وهو طالب في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة وكانت في مجلة "صباح الخير" منذ أكثر من أربعين عاما. في العقود الثلاثة الأخيرة عمل مراسلا من واشنطن لصحف منها «الأهرام» و«التحرير» و«الوفد» و«النهار» اللبنانية. له كتابات عديدة بالعربية والإنجليزية والأرمنية في مجلات وإصدارات ثقافية وسياسية. صدر له كتابان «الطيور على أشكالها تطير» و«في قلوبنا عشق».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *