ربما مررت مرة أو أكثر في شارع فريد سميكة بمصر الجديدة واندهشت من الاسم غير المعروف، وتساءلت عن صاحب هذا الاسم الذي هو تصغير كلمة سمكة، هل له علاقة بالصيد أو البحر، هل هو اسم عالم أو بطل قومي.
في صيف عام 1992 استضافت مدينة برشلونة دورة الألعاب الأولمبية، ولأن فرق التوقيت لا يتعدى الساعات الأربع فقد كان الأصدقاء يتجمعون في بيت أحدهم ليشاهدوا منافسات رياضية لألعاب لا يشاهدونها في العادة. وفي ظهيرة أحد هذه الأيام كنا نتجمع في منزل صديق وبالصدفة كانت المنافسات المذاعة هي منافسات رياضة الغطس التي لم أكن قد شاهدتها من قبل، بل إنني اندهشت جدا في ذلك الوقت، وتساءلت عن معايير احتساب النقاط، فكلهم يقفزون تقريبا القفزات نفسها لدرجة أنني تساءلت عن كون الفائز هو من يحدث (طرطشة) أقل!!
لم يكن هناك منافسون مصريون في المباراة التي كنا نشاهدها، لكن المذيع المصري كان كنزا من المعلومات، يتحدث عن تاريخ الأولمبياد وقوانينها، ثم فجأة قرر أن يمنحنا المعلومة الأهم: “نتذكر المرحوم فريد سميكة الحائز على فضية الغطس للسلم الثابت 10 متر، وبرونزية الغطس للسلم المتحرك 3 متر، في أولمبياد أمستردام 1928”.
منذ ذلك الحين التصق الاسم بالذاكرة حتى فوجئت بالشارع المسمى باسمه، فتطابقت المعلومات، فمن هو فريد سميكة؟ الذي كانت ميداليتيه هي الأولى ليس فقط على المستوى المصري بل على المستوى العربي كذلك، وظلت حتى وقت قريب من الميداليات المعدودة في تاريخنا.
في الثاني عشر من يونيو عام 1907 ولد فريد باسيلي سميكة في الإسكندرية لأسرة مسيحية من أعيان الإسكندرية، وكان عمه هو مرقص باشا سميكة عضو مجلس الشورى ورئيس مصلحة السكة الحديد، وهو أي عمه هو من أنشأ المتحف القبطي، كما كان والده باسيلي بك سميكة مديرا للجمارك.
وقد حرص والده على تعليمه في أرقى المدارس بها كما حرص على اختلاطه بأبناء طبقته فالتحق بنواديهم وبدأ في تعلم السباحة كأي سكندري لكنه استهوته تلك الرياضة التي لم تكن معروفة على نطاق واسع وقتها وهي رياضة الغطس التي برع فيها وكان من روادها المصريين.
وحين اشتركت مصر في الألعاب الأولمبية بأمستردام كان من أوائل المسافرين حين كان في الحادية والعشرين من عمره، وحصل في الأساس على الميدالية الذهبية بمنافسات السلم الثابت حتى أنه تسلم الميدالية، وتم عزف النشيد الوطني المصري، لكن بعد يومين تم سحبها منه وحصوله على الفضية بعد أن اعترض ممثلو الغطاس الأمريكي صاحب المركز الثاني بيتي ديسجارينز، وبعد ذلك اجتمع حكام المنافسة للتصويت على القرار ليتم منح ديسجارينز الذهبية! وعلى الرغم من اعتراض مدربه الأمريكي فقد تقبل سميكة النتيجة وسلم الميدالية الذهبية لهم وحصل على الفضية، أما الميدالية البرونزية فقد أحرزها بعد ذلك في منافسات الغطس من السلم المتحرك.
وقد كانت أولمبياد أمستردام تمثل نجاحا مصريا كبيرا حيث حصل كل من السيد نصير على ذهبية رفع الأثقال، وإبراهيم مصطفى على ذهبية المصارعة، كما وصل فريق مصر لكرة القدم إلى دور نصف النهائي ليفوز بالمركز الرابع في إنجاز لم يتكرر حتى الآن.
بعد ذلك بأربع سنوات شارك فريد سميكة في بطولة العالم للغطس باليابان وأحرز فيها المركز الأول ونال إعجاب كل المشاركين والمتابعين، حتى أن مدربه الأمريكي عرض عليه السفر إلى أمريكا فسافر بعد أن قام بجولة حول العالم بصحبة الأمريكي هارولد سميث قاما فيها بعمل قفزات استعراضية الغرض منها توعية الشباب بأهمية الرياضة وجذبهم لها، ثم قام بتدريب المنتخب المصري الأوليمبي المشارك في دورة برلين 1936، ليعتزل بعدها اللعب والتدريب ويتجه إلى الولايات المتحدة للعمل بالسينما من خلال ظهوره كدوبلير في المشاهد الخطرة في أفلام: طرزان مع جوني فايسمولر وفيلم ما وراء البحار، كما شارك بقفزاته في زوج من الأفلام الوثائقية الشهيرة من إنتاج مترو غولدين ماير عن رياضة الغطس وهما الغطس المزدوج عام 1939، والرياضات المائية عام 1941.
الفصل الأخير
كانت بداية الفصل الأخير من حكاية فريد سميكة حين التحق بالجيش الأمريكي في صيف العام 1942، وبعد شهور من التدريب المتواصل، وبسبب معرفته السابقة بالطيران حصل فريد على رتبة ملازم ثان بسلاح الجو الأمريكي.
ويتحدث بعض زملائه عن دوره كمصور جوي لمواقع اليابانيين، وفي وقت غير معلوم من نهاية العام 1943 سقطت طائرة مقاتلة من طراز « B -42 » كانت تقل فريد، واعتبرته الولايات المتحدة مفقودا، حيث أصبح فريد أسير حرب بيد اليابانيين الذين كان يتمتع بشعبية طاغية في بلادهم قبل الحرب لسبق فوزه ببطولات عدة في اليابان ولشهرته العالمية.
يروي الغطاس التاريخي سامي لي – وكان فريد المثل الأعلى له – أنه التقى مصادفة في أحد المستشفيات بقائد السرب الجوي الذي يضم طائرة فريد، وأنه أخبره أن سباحا أوليمبيا أمريكيا آخر وقع في يد اليابانيين في أثناء الحرب واقتيد إلى نفس معسكر الاعتقال الذي قضى فيه فريد فترة من الزمن، وأنه عند دخوله إلى المعسكر شاهد مجموعة من الرؤوس المقطوعة علقها اليابانيون على أسوار المعسكر، وكان ذلك في أوائل العام 1944 لإثارة ذعر الأمريكيين، وقد تعرف منها على رأس صديقه السابق فريد سميكة.
وقد اعتبرته الحكومة الأمريكية شهيدا في العام 1945 وكرّمته بوسام عسكري هو صليب الطيران الفخري الأمريكي.
إذا كانت أول مشاركة أوليمبية مصرية قد تحققت بمشاركة أحمد حسنين (الذي صار فيما بعد رئيسا للديوان الملكي) في دورة ستوكهولم في سلاح الشيش ولم يحقق فيها نتائج ذات بال، وإذا كانت أول ميدالية عربية ذهبية قد حصل عليها المصارع إبراهيم مصطفى، فإن إنجاز فريد سميكة يبقى في تحقيقه لميداليتين للمرة الأولى في دورة واحدة وفي لعبة لم نحقق فيها بعد ذلك أي إنجاز.
وتبقى دائما الإشارة إلى أن أهم الإنجازات الأولمبية المصرية كانت على مستوى الألعاب الفردية التي لا يمكن مقارنة الاهتمام بها بالاهتمام بالألعاب الجماعية التي لم تحقق أي ميدالية أولمبية حتى الآن، وهو الأمر الذي يستدعي دهشة من نوع خاص، وربما تساؤل حول طبيعة النظام الذي لا يستطيع توفير مناخ للعمل الجماعي المنتج، وتبقى كل إنجازاته فردية.