أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): كيف نفهم الموت؟

في طفولتي رأيت مرة فلاحين يأتون برضيع البقرة الذي وُلد ميتًا وينزعون جلده بمهارة، ثم يحشونه بالتبن ويقيمونه على أرجل من الجريد، ليقف أمام أمه عند حلب لبنها صباح مساء. كان الأمر ينطوي على خدعة وأنا أرى البقرة تتشمم جلد رضيعها وتلعقه بلسانها كي تدر لبنًا؛ أي يحقق الفلاح مصلحته ولو بالتلاعب بفكرة الموت والحياة. هل تستطيع البقرة أن تدرك بغريزتها موت ابنها، وأن المتجسد أمامها ليس سوى “لعبة” كالحصان الخشبي في الملاهي؟

منذ ذلك التاريخ، قبل أكثر من أربعين عامًا لم تنقطع أسئلة الموت في داخلي. ومرت بي لحظات كنتُ قاب قوسين أو أدنى، منه. فهل الموت نقيض الحياة؟ ماذا وراء ذلك المجهول؟ هل حقًا ثمة ثواب وعقاب وجنة ونار وخلود ومتع ونِعَم؟ أم هل تظل الأرواح تتناسخ في تجليات مختلفة كما تقول بعض العقائد؟

صورة تعبيرية

 

مواجهة شجاعة

يستهل نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) روايته الخالدة “الحرافيش”، أحد أجمل استهلالات الرواية العربية عمومًا: “في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرآة من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا”.

غلاف رواية ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ

 

كأنه يصور الموت والحياة كعقدتين على طرفي حبل، علامتين بينهما ممر عابر، ضفيرتين تمتزجان معًا مثلما تمتزج الظلمة بنور الفجر، والمعاناة بالمسرات الموعودة.

لا أعرف كاتبًا انشغل بالتفكر بالموت مثل محفوظ، هو من قال في أحاديثه ببساطة إنه لا يخشى الموت، وصاحب العبارة الخالدة “الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة”، لأن الحياة تتطلب قلبًا شجاعًا، والشجاعة تعني قبول التغيير والاستعداد للرحيل.

نجيب محفوظ

 

يطرح محفوظ في فلسفته وكتابته، تصورات مبهرة عن “الموت” كفعل تراجيدي، لا تنتهي عنده الحياة، بل تستأنف ذاتها وصيرورتها عبر أطوار مغايرة. يتحدث أيضًا عن عبثية إنكاره وتحديه كما حاول “جلال صاحب الجلالة” في “الحرافيش” حين سعى لمطلق القوة ومطلق الخلود، وكأنه أراد أن يصبح إلهًا لا بشرًا فانيًا، فجاءت نهايته هزلية ساخرة.

إن حياة محفوظ المديدة نفسها تقدم نموذجًا في تجاوز الموت، بشجاعة الحياة والعيش بأفضل القيم الممكنة. فطالما عشناها بشجاعة ونبل، ما الداعي للخوف مما بعدها؟

 

“اختار تولستوي الهروب من ملذات الدنيا، وشهوة التملك، وبات أقرب إلى راهب عجوز متجول، حتى عثر عليه ميتًا في محطة قطار”.

هروب شجاع

يقدم الكونت ليو تولستوي (1828 ـ 1910) تصورًا مغايرًا نسبيًا لمحفوظ، فالنبيل الروسي صاحب كتاب “مملكة الرب في داخلك” (ملكوت الله في داخلكم)، انشغل بالموت باعتباره تجربة انفصال مؤلمة. وعاش حياته مصلحًا أخلاقيًا عطوفًا على الفقراء ومعلمًا لهم. ثم اختار قرب النهاية الهروب من ملذات الدنيا، وشهوة التملك، وبات أقرب إلى راهب عجوز متجول، حتى عثر عليه ميتًا في محطة قطار.

زهد تولستوي في الحياة، ومل أكاذيب البشر، فهرب نحو الموت بإرادته. أراد حرية خالية من كل قيود وإكراهات الدنيا. ليس لأنه أقل شجاعة من محفوظ، بل ربما كان أكثر انغماسًا منه كمناضل إصلاحي، لرفع الشقاء عن البشر. لكنه في آخر المحطة قرر الهرب من كل ما انغمس فيه. كأنه يخوض تجربة انتظار وتقبل الموت.

جرب تولستوي الانغماس في الحياة، والخروج منها، ففي كتابه “طريق الحياة” (ترجمة: يوسف نبيل) يرفض مقولة: “ادخل إلى ذاتك، وستجد الهدوء بداخلها”، ومقولة: “اخرج من ذاتك، وحاول أن تنسى نفسك، وستجد السعادة والرضى”. ويرى أن السعادة ليست في داخلنا ولا في خارجنا، إنها في الله. أحب الله وستجد فيه ما تبحث عنه. وساعتها لن نخاف شيئًا ولن نرغب في شيء.

غلاف كتاب طريق الحياة لليو تولستوي

 

كما يتحدث عن الموت بوصفه اكتشافًا لأنانا الحقيقية، فهو بمثابة تحرر من الوجود الشخصي المحدود. فالشخص المستعد للموت بشكل إرادي، يموت مسرورًا، ويتخلى عن إرادة العيش، لأنه لم يعد بحاجة إلى المزيد من الوجود الشخصي.

ما أسميته “هروبًا” وأسماه تولستوي “تخليًا” لا يختلف كثيرًا عن موقف محفوظ سوى في درجة الالتزام، بمعنى أن محفوظ -بوعي الموظف المنضبط- ظل ملتزمًا بشجاعة ممارسة الحياة بكل تفاصيلها حتى يأتي الموت وهو ينتظره بكل سرور. بينما فضّل تولستوي أن يتخلى عن أي التزام تجاه الحياة، ويهرب نحو الحرية الكاملة من علائقها، وهو ينتظر الموت بكل سرور.

تصوّر مغلوط

في رأي كريشنا مورتي أننا نحاول فهم الموت بمنطق الحياة، بمعنى أننا نرغب في الاستمرارية، أن تبقى ذاكرتنا ونبقى مستمرين في حياتنا وما كسبناه فيها من زوجة وأولاد وعقارات، لذلك صرنا خائفين من الموت، نبحث عن علاقة بينه وبين الحياة، مؤمنين باستمرارية ما بعد الموت، عبر الجنة أو الخلود أو التناسخ.. بالتالي نحن نريد أن نعرف كيف نستمر وليس أن نعرف الحياة نفسها والتي تشمل الموت. لكن لا يمكن أن يكون هناك إمكانية لجديد إلا حين تنتهي الاستمرارية. أو على حد تعبيره “حين نموت كل يوم إزاء ما هو قديم، يمكن أن يكون هناك جديد”. هذا الجديد هو الخلاق، المجهول، أو هو الله. فمعنى الموت يكمن في إنهاء الاستمرارية، وساعتها يوجد التجديد.

كريشنا مورتي

 

حسب فهمي لمورتي؛ كل لحظة هي ولادة وموت، استمرار وانفصال، وعلينا ألا نفكر في استمراريتنا ومعلومنا ومألوفنا، بل في اللحظة ذاتها باعتبارها جديدة، أو قابلة لولادة جديدة. فكل موت، هو ولادة جديدة لا تخيف.

ألوان الموت

يتحدث المتصوفة الكبار مثل ابن عربي عن أنواع من الموت لكل منها لون خاص بها:

ـ الموت الأبيض (تحمل الجوع)

ـ الموت الأسود (احتمال أذى الآخرين)

ـ الموت الأحمر (مخالفة النفس)

ـ الموت الأخضر (لبس الخرقة)

الكلام هنا ليس عن الموت كحقيقة بيولوجية يتوقف فيها الجسد الإنساني عن النبض والشهيق والزفير، بل كتعبير مجازي يعبر عن أحوال تتطلب وأد الشهوات كالأكل، ورغبات النفس، والصبر على أذى الآخرين، والرضا بالقليل. ففي إماتة الغرائز تصفو الروح وتمتلك القابلية للتماهي مع المحبوب/الله. على حد تعبير ابن عربي بأن الموت “فراغ لأرواحنا من تدبير أجسامها”، والكلام هذا على معنييين، معناه البيولوجي الذي يدل على انقطاع صلة الروح بجسدها وفراغها من تدبيره، ومعنى صوفي دال على تحرر الروح من سطوة الجسد ورغباته.

صورة تعبيرية

 

معنى الانفصال لدى ابن عربي، يشابه ما طرحه مورتي ضد الاستمرارية، ولا يختلف كثيرًا عن تخلي أو هروب تولستوي من الحياة وهو عائش فيها، أو شجاعة التزام محفوظ بها وفق قيم معينة لا يتخلى عنها أبدًا.

فالموت ليس مجرد توقف نبض القلب، وإنما هو مغزول في صميم الحياة ذاتها، ممتزجًا بها امتزاج ضفيرتين معًا، وحسب طريقة وعينا بالموت، يكون تقبلنا له، وسعينا إليه -حقيقة أو مجازًا- من ثم ينعكس هذا الوعي على سلوكنا في الحياة وما نلتزم به من قيم، وما نهجر من عادات وأطماع. فألوان الموت هي التي تحدد لنا ألوان الحياة التي نعيشها.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *