أحدث الحكايا

شريف الشافعي يحكي: العمّ نجيب محفوظ قارئًا للكف

في الجزء الأخير من “أحلام فترة النقاهة” (دار الشروق) للعم نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006)، الذي نحتفي هذه الأيام بذكرى ميلاده، تبدو المفارقة الأكثر تجليًّا مقرونة بمقدرة هذه الأحلام الفريدة على استشراف فضاءات مستقبلية واسعة، تخص المجتمع المصري، والوطن العربي، بل والعالم كله، في حين أنها تنبني في الأساس على الاختزال الشديد، واستدعاء الماضي بما تفيض به هذه الأحلام من ذكريات.

هذه “الأشياء الصغيرة التي لا تزيد على حجم الكف، ويقول بعض الكرماء إنـها قصص”، بحد وصف أديب نوبل، تتجاوز بالفعل إطارها القصصي النمطي نحو تأويلات عميقة لحركة الحياة، في داخل مصر، وخارجها.

النكات المحفوظية

أما ربط الأحلام بـ”الكفّ”، ففيه مفارقة أخرى، لعلها إحدى “نكات” نجيب محفوظ، المحسوبة بالضرورة كسائر كتاباته وتعليقاته. فهي بمثابة قراءة في “كف” الواقع، بإحداثياته الزمانية والمكانية، إذ تتجلى فيها ما يمكن تسميته بإضاءات استكشفها “العرّاف”، حول أحداث ومصائر أثبتها التاريخ في وقت لاحق. وبالطبع فإن ما لمسه الكاتب المحنك من الملامح الكابوسية للعصر الذي عاشه وخبره، كان له الأثر الملموس في تلك النبوءات التي فجرتها أحلامه الخاطفة.

في حلمه (217)، يسير الراوي في مظاهرة حاشدة (لم تكن حدثًا مألوفًا في حياة نجيب محفوظ)، وفي تلك المظاهرة يصطدم المتظاهرون بقوات الأمن، في مشهد قريب الصلة بما شهدته ثورات الربيع العربي، بل ويتعالى سقف المطالب إلى المناداة بدستور جديد يلائم العصر. يقول محفوظ واصفًا “المظاهرة التي ملأت الشوارع والميادين”: “تعالت الهتافات تنادي بدستور جديد، يناسب العصر، ولم تستطع قوات الأمن تفريقها، وبدت كأنها مصممة على النصر”.

السخرية الشعبية

هذا التجرؤ “الشعبي”، يعززه حلم آخر أسبق، هو الحلم (71)، الذي تتجلى فيه السخرية، “الشعبية” أيضًا، من السياسي أو الدبلوماسي العربي المرموق، على نحو هزلي كاريكاتيري، إذ يبدو تناقض صارخ بين تفاهة موكبه القديم، وفخامة ملبسه العصري، وبين روحه المرحة الهزلية ومنصبه الراقي الجليل، وبين مظهره المثير للضحك وشخصيته القوية الوقور، يقول محفوظ:

“كان أجمل ما في عهد شبابنا صديق نادر المثال. آية في خفة الروح وحلاوة النكتة ورشاقة القفشة وبراعة القافية وثراء الحكايات والنوادر، وإلى ذلك كله لم يكن يضن علينا عند الطلب بالغناء والرقص وسائر فنون اللهو. هكذا أمتعنا دهرًا، حتى وقع عليه الاختيار لشغل وظيفة مرموقة عرفت في بلادنا بالجلال والوقار. وتوجسنا خيفة أو سرعان ما تحقق تخوفنا فقال لنا وكأنه يرد عنا إنه قرر تغيير حياته من الألف إلى الياء، ولم يراجعه أحد وسلمنا أمرنا لله. وكان إذا قابلنا في مناسبة حيانا بوقار شديد يعمق شعورنا بالغربة والأسى. ووهنت العلاقة الحميمة وقاربت التلاشي، ولم نعد نسمع عنه إلا في نشرة التنقلات والترقيات. وأخذنا نتناسى حتى نسيناه أو كدنا. وباعد الزمن بيننا وبينه حتى شاء القدر أن نلتقي على غير ميعاد، ذلك عندما احتفلت البلاد بعيدها القومي الجديد. خرجنا للمشاركة والفرحة، وعزفت الموسيقى النحاسية، ودقت الطبول. وتقدمت فرقة من الجيش تبعتها فرقة من الشرطة تبعتها سيارات الصفوة، وهنا طالعنا صديقنا القديم ولكن على حال لم تجئ لنا في خاطر. رأيناه يمتطي حمارًا، ويتجلى التناقض صارخًا بين تفاهة موكبه وفخامة ملبسه. وكان يثير الضحك أينما ظهر. لكنه والحق يقال لم يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا حاد شعرة عن وقاره”.

ويبدو هذا “الحراك” الشعبي، الذي تجسده الأحلام المحفوظية السبّاقة، بمثابة نتائج منطقية لتوغل مركزي فادح، تبرزه أحلام أخرى، تتجلى فيها سمات ذلك المناخ الخانق، الذي صارت القوة فيه عنوانًا للعنجهية، وتلفيق التهم، وإسكات أصوات الحرافيش. يقول محفوظ في الحلم (277):

“رأيتني جالسًا مع المرحوم (ك)، في شرفة بيته الريفي تحت ضوء البدر الساطع، وفي حضن ليل الريف الساجي، وكان يقول لي: أنت تعلم أني لا أهتم بالسياسة، وعلى الرغم من ذلك انقض عليَّ زوار الفجر، وساقوني معصوب العينين إلى حجرة مظلمة قضيت فيها شهرًا دون تحقيق ولا معرفة لسبب ذلك. ولما عُدت إلى قريتي، كانت أعصابي قد اختلت، ثم كانت النهاية. فقلت له: لقد سار في جنازتك جميع الحرافيش وهم يتساءلون”.

ويقود ذلك إلى حلم آخر أسبق، هو الحلم (100)، وفيه يبلغ الظلم الفادح مداه من القاضي “رمز العدل”، الذي يقضي بأغلظ عقوبة “الإعدام”، على مَنْ هو “خارج القضية” أصلًا. يقول نجيب محفوظ:

“هذه محكمة وهذه منصة يجلس عليها قاضٍ واحد، وهذا موضع الاتهام يقف فيه نفر من الزعماء، وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقًا لمعرفة المسئول عما حاق بنا. ولكني أحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل، حتى اعتدل القاضي في جلسته استعدادًا لإعلان الحكم باللغة العربية، فاسترددت للأمام، ولكن القاضي أشار إليّ أنا، ونطق بحكم الإعدام، فصرخت منبهًا إياه بأنني خارج القضية، وأني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي!”.

أحلام فترة النقاهة بريشة محمد حجي

فن القتل

وعلى صعيد آخر، أكثر اتساعًا على المستوى الإنساني، حيث زيادة مدى العنف في عالمنا الراهن، يستشرف العم نجيب في أحلامه الاستباقية ما أثبتته الأيام من تحول “الموت” إلى “اختراع”، و”القتل” إلى “فن”، له أصول علمية حديثة. يقول في الحلم (269):

“دعاني المرحوم المهندس (د) لمشاهدة اختراعه الجديد، فجلست مع الجالسين، وقال المرحوم إنه محرك جديد وقد جربه بنجاح، ودخل سيارة صغيرة وجلس أمام عجلة القيادة وضغط على زر، وإذا بالنار تلتهم السيارة وما فيها، وما زالت رائحة الموت تملأ خياشيمي“.

أما “الأصول العلمية الحديثة لفن القتل”، و”المعهد العصري للجريمة”، في عالم بات يكرس كل قواه للدمار الشامل وتفكيك الشعوب والقتل المجاني، فيستعرضها العم نجيب محفوظ في الحلم (87)، إذ يقول:

“في الصباح الباكر اكتشفت الجريمة الوحشية. وما لبثت وحشيتها أن صارت حكاية على كل لسان. ولكني لم أجد موضعًا للاختباء إذ أن المكان كله يتقاسمه رجال الشرطة وطبيبات المرض النفسي. وأصبحت فريسة للقلق، حتى استدعتني إلى حجرتها كبيرة الطبيبات. وقالت لي: الأكثرية هنا يفسرون وحشية هذه الجريمة بالقسوة الكامنة في طبيعة القاتل، أما أنا فأفسرها بقلة خبرته وجهله للأصول العلمية الحديثة لفن القتل، لذلك قررت إلحاقه بالمعهد العصري للجريمة. والله ولي التوفيق!”.

عن شريف الشافعي

شاعر وكاتب مصري، من مواليد 1972، صحفي بمؤسسة "الأهرام" المصرية. صدرت له ثمانية دواوين، منها: «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، و«كأنه قمري يحاصرني»، و«هواء جدير بالقراءة». صدر له كتاب «نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع». تُرجمت أعماله الشعرية في كتب منفردة وأنثولوجيات إلى لغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والصينية. شارك في مهرجانات شعرية دولية في فرنسا والولايات المتحدة والصين والمغرب ولبنان والأردن والسعودية وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *