أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي: الولي الخفي.. عن رجل عاش بالحب وللحب

لن أتكلم عمن يرتدون العمائم الخضراء ويرفلون في الحرير ويظهرون للناس في أبهى زينة على أنهم أولياء ومن آل البيت، وإنما عن ذلك الولي الخفي، الذي يحضر بيننا وهو غائب عنا. يبلغنا رسالة ولا يعلن عن نفسه. لا يلزمنا صراحة أو ضمنًا بأن نعلن الطاعة والولاء له، وكثيرًا ما يغادرنا دون أن نعرف حقيقته أمره.

في حديث أركان الإسلام والإيمان جاء إلى النبي رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ولم يعلن عن نفسه، وبعدما مضى كشف النبي لأصحابه حقيقته قائلًا: “هذا جبريل أتاكم يعلمكم معالم دينكم”.

ما يعني أن بعض الملائكة قد يتجسد ـ بإذن الله ـ في هيئة بشرية ويعلمنا أو يبلغنا رسالة ثم يمضي دون أن نعرفه.

وثمة مرويات كثيرة عن شخصيات جوّالة عبر الزمن وهبها الله بقاءً متعدد الصور أشهرها الخضر عليه السلام، الذي قد يزورك في مستشفى أو يحج معك وأنت لا تعرف كرامته.

ما يجعل الولاية الخفية أمرًا قائمًا، لأنه لا يشرّع لنا طريقة إلى الله، تحمل اسمه، ولا يريد أتباعًا يرفعون بيارق تعلن ولايته، ولا يُنصب له ضريح يحج إليه عارفو فضله.

يغبطهم الأنبياء

جاء في الحديث الشريف: “إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله عز وجل. فقال رجل: من هم وما أعمالهم؟ لعلنا نحبهم. قال: قوم يتحابون بروح الله عز وجل من غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها بينهم، والله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”.

هذا الحديث يعرّف الأولياء هنا بأنهم “أناس” و”عباد الله”، في أسلوب أقرب إلى التنكير والتجهيل، يُخفي الذوات، ويُعلن الأحوال والصفات. فقد يكون من عباد الله من يكنس الشوارع أو فلاح لم يتعلم القراءة والكتابة. وربما لا يكون الولي نفسه مدركًا لسر ذاته.

ولعل أهم الأحوال والصفات التي أوضحها الحديث: حب الناس في الله، بغير صلة قرابة ولا مصلحة أو تجار.

وعدم الخوف، فهم يعيشون بشجاعة متوكلين على الله حق التوكل، لا يخشون فقرًا محتملًا، ولا يتحسرون على ما مضى، وإنما هم في لحظة فعّالة وشجاعة من الحب والعطاء والكسب والقناعة.

ثالث الصفات عدم الجزع والحزن لشدة إيمانهم بأقدار الله، وأن الله كتب على نفسه الرحمة، وكل ما كتبه لعباده خير وإن لم نفهمه بمقاييس وعينا.

وأخيرًا ذلك النور البادي والرضا على وجوههم، نتيجة لما سبق: معية الحب، وشجاعة التوكل، والرضا بالقضاء وتصاريف القدر خيره وشره.

محبوب في الأرض

كثيرًا ما فكرتُ في علاقتي بأبي ولا أقصد أبوة الصدفة البيولوجية المثبتة في الأوراق الرسمية، ولا المبالغة النرجسية لإضفاء أوهام المكانة على رجل عاش فلاحًا وعاملًا بسيطًا وخادمًا لبيت من بيوت الله.

وإنما قصدتُ التفكر فيما تبين لي من علامات يشهد لها بها الجميع؛ فطوال أكثر من نصف قرن، لم أسمعه يتحدث عن أحد بسوء، ولم أره يفعل سوءًا، ولم أسمع من والديه وإخوانه وأخواته، وأصهاره، كلمة واحدة ضده. بل غمر الجميع بمن فيهم أولاده، وغمرني وأصدقائي بفيض الحب، حتى الغرباء وعابري السبيل والدواب كان لهم نصيب من عطفه ومحبته.

عاش أبي بالحب وللحب وفي معيته، وقبل شهرين فقط التقيت رجلًا تجاوز الستين كان يبحث عن عروس لابنه، وروى لي أنه رأي أبي في المنام يدخل عليه بلفة فيها طفل، وعندما استيقظ الرجل اعتبرها علامة وسأل إذا كان لدى أبي أي بنت كي يزوجها لابنه، وبالفعل تمت المصاهرة وتزوج نجل الرجل إحدى حفيدات أبي، بسبب منام الحب.

الحب أيضًا هو ما دفع رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة (دراويش الحياة) كي يأتي فجرًا إلى باب بيتنا فور إعلان خبر الوفاة، ويظل قريبًا منا ثم يمشي في جنازته ويُجلس المعزين بنفسه برغم أننا لا نفهم كلمة واحدة مما كان يقول.

وحين اتصلت بي صديقة للتعزية حدثتني حديثًا غريبًا عن علاقة الأرواح بالطيور والحيوانات، وقالت إنني سوف ألحظ تصرفات غريبة من طيور أو حيوانات كأنها تحمل لي رسالة.

لم آخذ كلامها على محمل الجد، فربما المسألة مجرد أوهام تصيبنا لفرط تعلقنا بمن رحل، مع ذلك نبهني كلامها أننا ونحن نجلوس في العزاء نسمع الشيخ الطبلاوي، هبطت حمامة أقرب إلى اللون البني وبدا أنها متعبة أو مصابة، تخبطت أمام عيني في الأرض حتى هممتُ أن التقطها بيدي، لكنها طارت بصعوبة ناحية رصيف بيت عمي.

وحين ذهبنا ب “الرحمة والنور” لزيارة أبي عصر يوم الجمعة ـ ثاني يوم لوفاته ـ وجدتُ أحد أحبابه نقش اسمه على القبر: “الحاج صالح عبده علي صالح” وأسفل الاسم كتب “حبيب الكل”.

هذا ما رأيتُه ويشهد به الجميع.

شجاعة الحياة

ليست الشجاعة في القوة والتهور والاندفاع، بل في ذلك الشعور بأن أمان الله يحاوطنا، وفي التوكل عليه في كل ما نقول ونفعل، وهكذا كان أبي، ظل لآخر لحظة يعلم نفسه بنفسه، فنال شهادة محو الأمية وأجاد القراءة والحساب، ولم يتردد في الإصغاء إلى كل ما يفيد في الراديو والتلفزيون.

خاض حربًا طويلة قرابة عشر سنوات بين عامي 1964 و1973، في سلاح المهندسين العسكريين، وكان على الخطوط الأمامية في الجبهة، يبني ويعمر ويشيد الجسور والطرق والمطارات.

واستمر هكذا في الحياة لا يقبل أن ينقص بيت الله شيئًا، فهو يغسله ويجمله على الدوام ولا ينسى أن يبني حوضًا صغيرًا تشرب منه القطط أمامه، وهو كبير العمال في المستشفى كان يتولى إعطاء الحقن والأدوية للمرضى ويقوم بالتحاليل اللازمة، ويسلك البلاعات ويبني أي جدار يتهدم.

صورة تعبيرية بالذكاء الاصطناعي

 

 

عاش فلاحًا بنّاء عاملًا، تاجرًا، نجارًا، وكهربيًا. هدم بيتنا وأعاد بناءه مرتين في حياته، ومعظم ما به من مقاعد وطاولات ووصلات كهربية صنعها بنفسه، وفي كل ما كسب لم يشغل باله قط بالثراء، ولا غرته شهوات الدنيا، وإنما رضي بما قسمه الله وتعفف عن الكثير من المباح.

أذكر في مرضه الأخير سألته عن عقد ربع فدان باعته له أمه (جدتي) فلم يتذكر أين ذهب، وقال “بسيطة” يقصد أنه غير مهم سواء الأرض في حيازته أو حيازة أخوته.

ويشهد شارعنا مرات لا حصر لها كيف كان أبي يقوم بكل شيء لراحة وإسعاد الجميع، كي لا تكون فيه حفرة ولا تنقصه إضاءة.

هكذا هي شجاعة الحياة ليست في الجشع والأنانية، بل في العمل والعطاء والإضافة إلى الحياة الدنيا بما يخدم جميع الناس، كي نغادرها وهي أفضل مما كانت حين جئنا إليها.

الرضا بقضاء الله

كان أبي لا يحب حضور المآتم والرسميات، لكنه لا يترك جنازة لتوديع الميت بنفسه إلى مثواه الأخير والدعاء له، ولا يتردد في تغسيله، وهو راض بقضاء الله، وأن الرحلة محتومة فلا مهرب من الموت، ولا ملجأ من الله إلا إليه.

لذلك لا يتوقف لسانه عن ذكر الله وحمده والترحم على من يعرفهم من الأموات، حيث كان يملك ذاكرة حافظة لا تنسى أحدًا.

أذكر كنا نمر في سيارتي بالقرب من السنانية على مشارف دمياط؛ وفيها كان يعيش أحد أبناء عمومته، وعلى الفور تطلع أبي إلى البيوت وردد بتلقائية: “الله يرحمك يا كريم يا ابن عمي”.

هذا الرضا بالقضاء، وعدم الانشغال بالأشياء والحوادث، أبقى قلبه عامرًا بذكر الله متصلًا بالمعية، فكم مرة تركتُ باب غرفتي مفتوحًا كي أسمعه إذا احتاج شيئًا فيصلني صوته في جوف الليل عاليًا رنانًا: “يا حبيبي يارب”.

بالمحبة والتوكل والعطاء والرضا، بان النور على وجهه حيًا، وغمر وجهه المسجى ونحن نشيعه إلى دار البقاء.

فمن دون تنظير وتفلسف، علم أبي حقيقة الحياة وعاشها بالحب سعيدًا راضيًا كريم النفس واليد، واصلًا رحمه مهما تباعد حبل القرابة، فأحسبه على درجة من الولاية الخفية التي لا تعلن لنا عن نفسها، أو صاحب نفحة وكرامة، تركها لها في سيرته وحب الناس له سواء من عرفوه عن قرب أو سمعوا به.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *