أحدث الحكايا

شريف الشافعي يحكي: ثالوث نوبل بأصابع الكاريكاتير

بعدما جمعت أصابع الكاريكاتير في معرض دولي ضخم بين نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911-30 أغسطس 2006)، والأديب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز (مارس 1927-إبريل 2014)، جاءت الذكرى الـ 113 للروائي المصري العربي الأبرز، منذ أيام قليلة، لتجمع بينه، كاريكاتيريًّا أيضًا، وبين الأديب والفيلسوف الهندي رابندراناث طاغور (مايو 1861–أغسطس 1941).

هذا المعرض الأخير (محفوظ – طاغور)، في ديسمبر الجاري، استضافه متحف نجيب محفوظ في تكية أبو الدهب بجوار الجامع الأزهر، ونظمته سفارة الهند في القاهرة، بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية، ومتحف الكاريكاتير في الفيوم، ومنصة إيجبيت كارتون. أما المعرض الأول (محفوظ – ماركيز)، فقد انعقد في متحف محمود مختار بالقاهرة، بالتعاون بين العلاقات الثقافية الخارجية، وقطاع الفنون التشكيلية، وسفارتي كولومبيا والمكسيك في القاهرة، والجمعية المصرية للكاريكاتير.

كاريكاتير للفنان عمر زيفالوس – بيرو

فضاءات شاسعة

عشرات البورتريهات، الفردية والثنائية، يقدّمها فنانون مبدعون من سائر أرجاء العالم للأدباء الثلاثة، الذين يجمع بينهم النبوغ الإبداعي والابتكار الاستثنائي، كما أنهم يشتركون في الفوز بجائزة نوبل في الآداب عن أعمالهم التحولية الفارقة، إذ حصل عليها محفوظ في عام 1988، ونالها طاغور في عام 1913، وتوّج بها ماركيز في عام 1982.

فضاءات شاسعة يجدها رسامو الكاريكاتير، من مصر والوطن العربي والعالم، في تفاعلهم الحيوي مع ثالوث نوبل، بالغوص في شخصياتهم الإنسانية الحقيقية، إلى جانب الإبحار بالريشة النابضة في عوالمهم الفنية؛ برموزها وأبطالها وأيقوناتها وخيالاتها وطقوسها السحرية. ومن هؤلاء الفنانين: أحمد علوي، غادة مصطفى، حسن فاروق، خالد صلاح، فاروق موسى (من مصر)، أركان الزيدي (العراق)، أحمد خبالي (المغرب)، ماهر عاشور (السعودية)، أنس اللقيس (لبنان)، ماريان أفرامسكو (رومانيا)، كيتي راديفسكا (مقدونيا)، عمر زيفالوس (بيرو)، ذاكر ساجيتوف (روسيا)، سيزار أندرس (أورجواي)، هوانج جنجو، كوانج زوهاي (الصين)، وغيرهم.

محفوظ وطاغور للفنان المصري أحمد علوي

مفاتيح سرية

تحمل أعمال الفنانين رؤى طليعية في تعاطيهم مع الأدباء الثلاثة الكبار وتجاربهم الثرية، إذ لا يتوقف فن البورتريه الحديث عند رسم الشخصية بتصوير ملامحها وقسماتها وتعبيراتها فقط، وإنما يهتم في المقام الأول بقراءة الأعماق الداخلية للشخصية، وتقصي مشاعرها ومكنوناتها الجوانية، والتقاط طبائعها النفسية، والعناصر والمفردات المكونة لمزاجها، وبلورة مفاتيحها السرية، وكشف تفاصيلها الخاصة.

محفوظ وطاغور بريشة الفنانة غادة مصطفى

 

ويقود التقاء الكاريكاتير مع البورتريه إلى أعمال أكثر شفافية في تعبيرها عن الشخصيات والعوالم، ذلك أن الكاريكاتير هو فن الرهافة الفائقة والحساسية البالغة، وفن الغوص تحت الجلد من أجل قنص الجوهري والكامن والمستتر، وفن المبالغة والتضخيم والمفارقات الدالة، وتحريف الأبعاد المحسوبة والقياسات المنضبطة. 

طاغور في بورتريه ذاتي_1935

 

ومن ثم، فإن ثيمة البورتريهات الكاريكاتيرية، بما تملكه من انطلاق وانفلات وكسر للسائد، هي الأقدر على سبر أغوار الشخصية وكينونتها، والوصول إلى دقائق ماهيّتها، والإلمام بمقوّماتها وهالاتها الضوئية وظلالها المتدرجة المحيطة بها، وبعث الحياة في خلاياها بوعي وبعفوية، وذلك من خلال مواقف ومشاهد دينامية ودرامية، متحللة من الضوابط والقيود والنظم المنهجية والقوانين المدرسية.

محفوظ وطاغور – ماريان أفرامسكو – رومانيا

الإنسان والكاتب

في أعمالهم، يتبارى فنانو الكاريكاتير في إثبات أن لغة الصورة المختزلة، بوخزاتها المؤثرة وصدماتها القوية، بإمكانها أن تتخطى العبارات المطولة، وتتفوق على المقالات الشارحة والتنظيرات المدبجة، في ملامسة شخصيات كل من محفوظ وماركيز وطاغور ككتّاب وكآدميين، واستدعاء أشيائهم ومتعلقاتهم الحميمة وسلوكياتهم الخاصة، وطرح مقدراتهم الإنسانية والفنية العريضة على الطاولة، دون مراوغة أو مواربة.

محفوظ للفنان كوانج زوهاي – الصين

 

في الحالة المحفوظية، مثلًا، ينوّع الفنانون اتجاهاتهم التجريبية ومعالجاتهم البصرية الحديثة للبورتريه الكاريكاتيري، من خلال رسومهم التي تتعاطى مع محفوظ الذي يعرفونه، والذي يتصورونه، والذي يحسون به. ولا تقتصر اللوحات النابهة على استدعاء نجيب محفوظ كوجه مرسوم بطبيعة الحال، وإنما تقصد إلى استلهام حضوره كفكرة ومعنى ورمز وأب روحيّ وصديق مقرّب، وكأديب وثيق الصلة بالطبقات الشعبية في نسيج المجتمع. 

تحت هذه المظلة، تستوحي لوحات البورتريه الكاريكاتيري المحفوظية كل ما قد يستثيره محفوظ الإنسان والكاتب المخضرم، وروائعه الإبداعية، وشخصياته الشهيرة في قصصه ورواياته. وتشعل هذه الاستيحاءات كلها خيالات الفنانين البصرية، ومن ثم تأتي الأعمال مشحونة بأمرين واضحين. الأول: رؤية الرسام الشخصية لمحفوظ؛ إنسانًا وكاتبًا. والثاني: علاقة الرسام الخاصة بمؤلفات نجيب محفوظ الروائية والقصصية، وشخصياته وعوالمه الإبداعية، لاسيما مطولاته وملاحمه التي تسرد سيرة البشر والأمكنة وتفاصيل الجغرافيا والتاريخ والحياة ف ي أحياء القاهرة الشعبية، ومنها: ثلاثية “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، “الحرافيش”، “خان الخليلي”، “زقاق المدق”، “القاهرة 30″، وغيرها.

محفوظ – أنس اللقيس – لبنان

 

يضاف إلى ذلك أيضًا، ما قد ينجذب إليه الفنانون من المشاهد واللقطات والكادرات السينمائية المصوّرة في أفلام ومسلسلات مستقاة من مؤلفات محفوظ، مثل عمل الفنانة غادة مصطفى “بين السماء والأرض”، الذي يظهر فيه محفوظ متوسطًا مجموعة الممثلين المشاركين في فيلم “بين السماء والأرض” للمخرج صلاح أبو سيف (1959)، المأخوذ عن قصة لمحفوظ، تصوّر أشخاصًا يعلقون معًا في أحد المصاعد. 

قفزات التخييل

يبدو فنانو البورتريهات الكاريكاتيرية وكأنهم يستعيرون في أعمالهم سمات أقلام محفوظ وماركيز وطاغور التقدمية الجريئة، المتطلعة دائمًا إلى التجديد ومخالفة المألوف وخلخلة النمطي. وهكذا، تأتي اللوحات قفزات تخييلية مجنحة، قادرة على تخطي المشاهد الثابتة، والوثب فوق حدود الواقع القائم.

من ذلك، مثلًا، ما يصوّره الفنان حسن فاروق، إذ يبرز مغادرة نجيب محفوظ؛ ابن حي الجمالية، منطقة “بين القصرين” في قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي، ممسكًا عصاه الشهيرة، ومتوجهًا إلى جغرافيا ماركيز، حيث يمكن للحب أن يصلح أرض الكوليرا. ويرتدي كل منهما في اللوحة ميدالية جائزة نوبل، وتحيط به شخصيات أعماله الروائية. ويزداد لقاء الأديبين الافتراضي أسطورية، مع حرص الكاتب الكولومبي على التقاط صورة “سيلفي” لهما معًا بكاميرا هاتف جوال حديث.

محفوظ وماركيز – حسن فاروق – مصر

 

ومن هذه الأعمال أيضًا، ما يصوّره الرسام العراقي أركان الزيدي، حيث يجلس في لوحته محفوظ وماركيز معًا في مقهى نوبل، وهما يطلقان الضحكات المبهجة ويتبادلان أطراف الحديث، ومن حولهما تتراص الكتب القيّمة، وتغمر الموسيقى والسعادة أجواء المقهى والعاملين به.

محفوظ وماركيز – أركان الزيدي – العراق

 

ويقود الخيال الرسام الصيني هوانج جنجو إلى تجسيد محفوظ برأس عظيم يحوي فكرًا عظيمًا، وقد امتطى صاروخًا ليصعد به إلى الفضاء، وهذا الصاروخ ليس إلا القلم المحفوظي القادر على بلوغ الدرجات الرفيعة العالية، معنى وحقيقة ومجازًا. ويجسّد الرسام عمر زيفالوس، من بيرو، رأس محفوظ الممتلئ بفكره العظيم، جامعًا بينه وبين هرم خوفو الأعظم في مشهد يستحضر الجمال والجلال والخلود.

محفوظ – هوانج جنجو – الصين

عن شريف الشافعي

شاعر وكاتب مصري، من مواليد 1972، صحفي بمؤسسة "الأهرام" المصرية. صدرت له ثمانية دواوين، منها: «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، و«كأنه قمري يحاصرني»، و«هواء جدير بالقراءة». صدر له كتاب «نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع». تُرجمت أعماله الشعرية في كتب منفردة وأنثولوجيات إلى لغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والصينية. شارك في مهرجانات شعرية دولية في فرنسا والولايات المتحدة والصين والمغرب ولبنان والأردن والسعودية وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *