هذا ليس مقالًا نقديًا، وإنما تأملات اخترت عنوانها تحيةً لكتاب إيمان مرسال البديع “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”، والذي كان الشروع في إعادة قراءته أول فكرة طرأت إلى ذهني خلال مشاهدة فيلم المخرج بسّام مرتضي “أبو زعبل 89” في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لا لشيء لأن الفيلم يساهم -كما فعل الكتاب- في طرح فكرة جديدة، إنسانية، مسكوت عنها في أغلب الحالات، مفادها أن الأبوّة -كما الأمومة في كتاب مرسال- ليست مفهومًا مطلقًا يرتبط بداهةً بحزمة من الممارسات والأفكار والمشاعر.
إذا طلبنا عشوائيًا من أول عشرة أشخاص نقابلهم في الشارع الحديث عن الأبوّة أو الأمومة، ستأتينا في أغلب الأحوال إجابات متشابهة، محفوظة ومعلّبة، عن التضحية والحنان والمسؤولية والسند، وغيرها من المصطلحات التي صارت ملتصقة -حتى على الصعيد اللغوي- بالمفهومين. إما إذا جلس نفس الأشخاص العشرة على مقعد محلل نفسي وتحدثوا بانفتاح عن علاقتهم بوالديهم، فلا أبالغ في توقع أن نصفهم على الأقل سيمتلك علاقة بوالديه أكثر تعقيدًا من باقة الكلمات الجميلة التي يُسارع اللسان في سكبها كلما سمع كلمة أم، أو أب.
عنوان مراوغ
حسنًا، سنتوقف هنا عن ذكر الأم في كل جملة لنُركز قليلًا على موضوع فيلم بسّام مرتضى ذي العنوان المراوغ، فمن يسمع اسم “أبو زعبل 89” أو يقرأ ملخصه الذي يسترجع المخرج فيه تبعات اعتقال والده الناشط السياسي داخل أسوار السجن الشهير عام 1989، سيعتقد في الأغلب أن الفيلم سياسي تاريخي نضالي، لكن المشاهدة تفاجئنا بأننا أمام عمل تتوارى فيه كل الشعارات، لتصير مجرد خلفية لأسئلة أكثر عمقًا وأكثر إيلامًا عن الأب والابن، فمن الجميل -والسهل- أن تفخر بكون والدك مناضلًا، لكن هل خوض التجربة بالسهولة ذاتها؟
الابن يدفع ثمن اختيارات والده، دون أن يسأله أحد إن كان راغبًا في خوض هذه التجربة.
ثمن اختيارات الآباء
كان بسّام طفلًا صغيرًا، يمتلك بالكاد القدرة على تكوين ذكريات، عندما تم انتزاع والده من المنزل ليوضع وراء القضبان بتهمة الانضمام لتنظيم شيوعي يُشجع عمال المصانع على الإضراب، ليكون على ابنه الصغير وزوجته الوحيدة التعايش مع الحياة العسيرة لآل السجين، فكما يُقال في الفيلم الأهل يتعذبون أكثر كثيرًا من ذلك المحتجز وراء الجدران، يعانون في كل تفصيلة يومية، قانونية ومالية وإنسانية، لكن الأهم الذي يطرحه الفيلم بخفوت بالغ الذكاء هو انقلاب الآية: الطفل ذو السنوات الخمس يصبح بشكلٍ أو بآخر مسؤولًا عن والده البالغ، الابن يدفع ثمن اختيارات والده، دون أن يسأله أحد إن كان راغبًا في خوض هذه التجربة.
لو سألنا هذا الطفل أو أي طفل آخر سيختار في الأغلب أن يبقى في حضن والده، نفس الأب الذي يحلم على الجانب الآخر بتغيير العالم، بمستقبل أفضل لكل الأبناء ومنهم ابنه، حتى لو كان الثمن حاضره، غير أن المستقبل غير مضمون، أقرب للمقامرة منه للحقيقة، بينما الحاضر من لحم ودم، من لمسات وقبلات ولحظات حميمية يُضحى بها المناضل من أجل قضيته، ويخرج فيجد أن التجربة قد غيرت كل شيء، فلم يعد نفسه قادرًا على الاستمتاع بما كان يحلم به وراء القضبان.
وبينما تبدو تجربة الاعتقال السياسي هامشية، تحدث لندرة من البشر وإن تواترت في أدبيات الثقافة المصرية، فإن جوهر “أبو زعبل 89” يلامس ما هو أكثر عمومية: أزمة التوقعات المتبادلة بين الآباء والأبناء. المعضلة التي لا نبالغ إن قلنا إنها المُشكّل الرئيسي لهوية كل رجل في العالم بصورة أو بأخرى. سواء كان الأب خيّرًا أم فاسدًا، حاضرًا أم غائبًا، مُحبًّا أم قاسيًا، ففي كل الأحوال سيترك حاله هذا نُدبة لا تندمل داخل روح ابنه، وروحه بالتزامن.
ينظر الابن لأبيه باعتباره الإنسان الكامل، الأقوى والأصدق والأقدر، ويحلم كل أب لابنه أن يكون أفضل منه، يحقق ما لم يحققه. وبما أننا بشر ممتلئون بالعيوب، وأن الأب ليس أحسن آباء العالم والابن ليس خير الأبناء، فما تجربة النضج إلا سلسلة من السقوط المتوالي للتوقعات المثالية، من اكتشاف كل طرف عيوب الآخر الكثيرة، ومنّا من يتمكن من تجاوز هذا الاكتشاف فيغدو بين الناضجين حاملًا عيوبهم، أو من لا يتجاوزه فيعيش للأبد أسيرًا لماضٍ ثقيل ومستقبل لا يريد أن يأتي. بعبارة أخرى متأثرة بإيمان مرسال: لا مجال للالتئام من الانفصال عن الأب بغض النظر عن نجاح الانفصال من عدمه.
“يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية”.
– إيمان مرسال
الأب العام والخاص
منذ أن جاء ابني الوحيد إلى العالم قبل قرابة السبع سنوات يسيطر عليّ هاجس مؤرق حول ما سأكونه بالنسبة له. لا يتوقف عقلي عن طرح الأسئلة ورسم السيناريوهات المتباينة التي تنطلق كلها من مخافة ألا أكون الأب الذي يحتاجه، أو أن يرث بعدي ما لم يختره: علاقات أو خلافات أو مشاعر سلبية لا ذنب له فيها. أما الرعب الأكبر فهو أن يأتي يوم اكتشف فيه أنني كنت غائبًا عن حياته، مشغولًا بمحاولة أن أكون مؤثرًا في حياة الآخرين.
يحضرني طيلة الوقت هاجس موقفين عايشتهما وتركا فيّ -على بساطتهما- أثرًا عميقًا. الموقف الأول في حفل تأبين الناقد الفلسطيني الراحل بشّار إبراهيم، الذي كان لي بمثابة الأخ الأكبر وربما الأب. نتحدث كل يوم في الأمور المهمة والتافهة، يراجع كتاباتي لغويًا ويناقشني في محتواها كي تصير أفضل. عندما رحل بشّار مبكرًا بسبب سرطان الحنجرة تحدث عنه الجميع بحفاوة وأسرفوا في وصفه بلقب “حارس السينما الفلسطينية”. أقام مهرجان دبي السينمائي حفلًا لتأبينه حضرته ابنته التي لم يحدثني عنها أبدًا، أمسكت الميكروفون لتلقي كلمة قالت فيها ما معناه: “والدي كان حارسًا للسينما الفلسطينية، كان إذا رآني أشاهد فيلمًا جيدًا يطلب مني أن أغلقه وأشاهد فيلمًا فلسطينيًا بدلًا منه”.
لا أحتاج أن أكون عبقريًا لأعرف أن هذا الحوار لم يحدث، وأن الابنة المكلومة اخترعته لأنها تعتقد أنه سيجعل صورة والدها أفضل أمام الحضور، وأنها لم تقرأه، ولا تعرف انحيازه للسينما الجميلة بغض النظر عن جنسيتها، ولا تعرف عالمه الذي يبدو موقف كهذا فيه أقرب للإساءة منه للإحسان. هي فقط فتاة مسكينة أرادت أن تمدح والدها وفق معرفتها الطفيفة به، بينما أنا الذي أعيش في بلد آخر أبدو معرفيًا أقرب للرجل منها.
بطلة الموقف الثاني هي ابنة نجيب محفوظ التي خرجت بعد سقوط نظام مبارك لتدلي بدلوها وتقول إنها وشقيقتها اكتشفتا أن قلادة النيل التي تقلدها أديب نوبل لم تكن من الذهب الخالص وإنما مطليّة به. وقتها انبرى الجميع في الهجوم على الرئيس الراحل وعصابته، بينما ما يدور داخل عقلي هو سؤال: كيف عرفت المرأة هذه المعلومة؟ هل ذهبت إلى صائغ لتقدر سعر بيع أغلى وسام تمنحه مصر لأبنائها ففاجأها بحقيقة القلادة؟ والحكايات كثيرة عمومًا عن عائلة محفوظ وعلاقتهم بأدبه وتراثه الفكري.
في الحالتين لدينا رجل عظيم، ذو أثر عميق في نفوس بشر يضعونه موضع الأب وربما أكثر، لكن الأثر نفسه يغيب عن الأبناء من صلبه، ربما لأنه في خضم الانشغال بما يقدمه للعالم نسي أن في البيت من يحتاجونه أكثر، تمامًا كما يعترف محمود مرتضى في “أبو زعبل 89” إنه سأل نفسه لائمًا: هل ما فعلناه كان يستحق بالفعل ما دفعناه من أثمان؟
مواجهة هواجس الماضي
يضع صانع الفيلم يده على السؤال الصحيح بمهارة مؤلمة، بانفتاح من اعتاد الوجع فقال لنفسه “لماذا لا نواجهه مرة أخرى لعلها تكون الأخيرة؟” ربما كان هذا سبب السنوات الطويلة التي احتاجها بسّام مرتضى لإنهاء فيلمه الذي يبدو في صورته الإنتاجية الأخيرة أصغر من أن يحتاج سبع سنوات كي يخرج للنور، لكنها في الأغلب رحلة دخلها المخرج دون ضمانات، فإما أن تساعده على التصالح والتجاوز، وإما يتعثر خلالها فلا يحقق حلمه، لكنه سيكون قد خفف الاحتقان ولو قليلًا بالحديث عنه، وذلك أضعف الإيمان.
لحسن الحظ وصلت السفينة إلى وجهتها بصورة مُرضية، حتى وإن أسقط القدر منها في الطريق أحد أكثر شخصيات الفيلم وهجًا: الأم فردوس، تلك الشخصية الروائية بامتياز على كافة المستويات، والتي كانت سببًا آخر في تداعي الأفكار والمواقف في رأسي خلال المشاهدة، فصورة بشار إبراهيم الأخيرة في ذاكرتي كانت مماثلة، بالحنجرة البديلة التي تخلق مفارقة مكتملة، مرئية ومسموعة، يكون فيها السبيل الوحيد التي يحافظ فيها الإنسان على وجوده وتواصله مع الآخرين، أن يصير نسخة آلية من ذاته. كي يظل نفسه عليه أن يتحول شيئًا آخر. والعجيب أنه مرض لا يختار إلا المتحدثين المفوهين، أرباب الكلام ومحترفيه، ليمنحهم نهاية سينمائية تليق بهم.
يُبحر صانع “أبو زعبل 89” وسط تلك المتناقضات بقلب طفل يبحث عن والده، يحاول تأمل المفارقات واستخلاص الحكمة منها كالكبار، لكنه ينتهي في كل مرة على تساؤل عمره 35 سنة: أكان لا بد يا أبي أن أذهب إلى المدرسة وأنا أعلم أني سأعود منها فلا أجدك؟
المُرعب في السؤال أننا لا نتوقف عن دفع أولادنا لامتلاكه، حتى لو لم يكن غيابنا قسريًا وراء أسوار سجن، والحقيقة أن “أبو زعبل” -رغم حضوره في العنوان وفي ثنايا الحكاية- يبدو هنا مجرد مجاز لأي تجربة قد تأخذ أب من ابنه، ثم يعود منها بعدما تغير الجميع ولم يعد استكمال الحياة كما كانت من قبل خيارًا ممكنًا (هل نذكر مثلًا رجوع شاكر من الخليج في “عودة مواطن” لمحمد خان؟ لاحظ أن شاكر وإن كان الأخ الأكبر لكنه لعب في حياة إخوته دور الأب، في حضوره وغيابه).
وفي النهاية
التأملات السابقة تظلم صنعة الفيلم التي تستحق أن تُحلل باهتمام، لا سيما مشاهد إعادة خلق الذاكرة التي صوّرها المخرج على خام السينما فأضاف مُعادلًا بصريًا ممتازًا للذكريات التي تبقى داخلنا ضبابية كمشهد في فيلم قديم، وكذلك توظيف القصيدة كأداة درامية تظهر في الوقت المناسب لتمنحنا جرعة شعورية نحتاجها (وكلنا نعلم قيمة الشعر في أدبيات السجون المصرية). لكني كما قلت في البداية لا أسعى لكتابة مراجعة نقدية، وإنما للتعبير عما هو أهم: قدرة “أبو زعبل 89” على حشد الأفكار والذكريات والمشاعر داخلك.
فإذا كان الهدف الأسمى للسينما هي أن تحرك مشاعر جمهورها وتدفعه للتفكير، في حياته الشخصية قبل الأمور العامة والقضايا الكبيرة، فإن بسّام مرتضى قد نجح في فيلمه الطويل الأول أن يحقق هذا الهدف ببراعة، ويأخذنا في رحلة إنسانية تتحدث عنّا كما تروي حكاية المخرج وأسرته، وتترك في القلب والعقل ما يبقى طويلًا.