لأنها في أحضان الحضارة الفرعونية، فقد تحدثت الحضارة الصينية بهذه الطلاقة في عام الشراكة المصرية الصينية الجاري. احتفلت الحضارتان الصديقتان، في خريف 2024، بمرور عشر سنوات من التعاون الاستراتيجي الشامل بين البلدين. سردت ثقافة الصين قصتها الشيقة المدهشة على ضفاف النيل، بمجموعة من الإبداعات المسرحية الحركية المتميزة لفرقة “تشانغ دو” الصينية المرموقة، على المسرح المكشوف في دار الأوبرا المصرية، بالتعاون مع قطاع العلاقات الثقافية الخارجية، والسفارة الصينية، والمركز الثقافي الصيني في القاهرة.
تابلوهات كاشفة
الأداء المسرحي الحركي الصيني بالملابس التقليدية والمظلات والمراوح الملونة، المصحوب دائمًا بالمعزوفات الموسيقية على الآلات المحلية العريقة كالمزمار والأرهو (الربابة الوترية الصينية)، هو إبداع مختلف، بالغ الخصوصية، تلتقي فيه فنون المسرح والباليه والعرائس والرقص والغناء والأكروبات وغيرها، ويتجسد من خلاله الفلكلور الشعبي بوجوهه المتنوعة المعبّرة عن تاريخ الصين وجغرافيتها وعاداتها وتقاليدها وجوانب حياتها المعاصرة وموروثاتها الراسخة التي لا تندثر عبر العصور.
تابلوهات الحفل المسرحي هي ببساطة بانوراما تتقصى تفاصيل الحضارة الصينية وثقافتها الثرية، من خلال استعراضات الشاي، والحرير الطويل، والزهور التي تتفتح، والتطريز، والدمى المتحركة، والتنزه في الربيع، والأكروبات، وتغيير الوجوه، والحظ السعيد، وسيوف الأحلام، وضوء القمر فوق بحيرة اللوتس، والصين تحت الأضواء.
في تناغم هارموني ساحر، تمتزج الرقصات التراثية الفلكلورية، مع رقصات الباليه الغربي، وحركات الأكروبات الصينية الصعبة، والغناء الشعبي والإنشادي والأوبرالي، والموسيقى المعزوفة بالنايات وآلات النفخ والوتريات الفائقة الحساسية، وإيقاعات الطبول، في حالات مناخية ومزاجية تتراوح بين النهار المضيء والليل المظلم، وفي أثناء الصحو وأثناء المطر، وجميع الأوقات.
تتناول العروض في مشاهدها السريعة أو اسكتشاتها المتلاحقة، مواسم الزراعة والجني الخاصة بالمحاصيل الأساسية في فصول العام ومناخاته المختلفة، وأشهر الأشغال اليدوية والصناعات التقليدية، وفنون النقش على الحجارة والتجميل وحياكة الأزياء، وغيرها.
تتطرق السرديات القصصية الوامضة أيضًا إلى مكتسبات ثورات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الصين، وغيرها من الموضوعات أو العناوين العريضة التي يجري تلخيصها من خلال لغة الجسد والتعبير الأدائي الراقص، إلى جانب استخدام بعض الرموز والأدوات التراثية الصينية الشهيرة، مثل المراوح الصغيرة في أيدي الراقصات، والمظلات الملونة، وزهور اللوتس، والنباتات البحرية، وغيرها. ولا تغفل العروض الاستفادة من مفردات المسرح الحديث المتفوق على مستوى التجهيزات والمعدّات أيضًا، كما يتضح في الصوتيات ووسائل الإضاءة وشاشة السينما الذكية في خلفية المسرح، وغيرها من لوازم المعاصرة ومواكبة تطورات المسرح العالمي.
الحركة التعبيرية
المسرح الصيني هو دائمًا مسرح حركة لا تنتهي على مدار العرض. وليس مهمًّا في أحوال كثيرة أن تكون هناك صياغة درامية بالمعنى البنائي المكتمل المتعارف عليه، إذ يكفي أن تكون هناك قصة مبسّطة أو لقطة مستوحاة من التراث أو الواقع المجتمعي أو الخيال. ولكنّ الأهم والضروري هو الاشتغال الفني على هذه السردية الحكائية الصغيرة، بأسلوب بصري خاص، مختلف، يلائم ذلك المسرح الفريد، الجذاب.
وفي هذه التمظهرات الحديثة الراهنة، فإن المسرح الصيني لا ينفصم عن تمثلاته النمطية التي تعود إلى آلاف السنين. فالفرق المسرحية المعاصرة، الحكومية وغيرها، تقدّم أعمالًا معتمدة في المقام الأول على ذلك الإبهار الأدائي الجسدي، مع فتح الباب على مصراعيه للمسات الأوبرالية المرنة، والرقص الشعبي التعبيري، والباليه، والغناء، والموسيقى، والألعاب الأكروباتية، وغيرها من الأبجديات التي تتصدر المشهد، فيما قد يأتي التمثيل والحوار والحدث المتنامي في خلفية الصورة البرّاقة، التي تخطف العين وتسلب الحواسّ.
فصول قصة الحضارة
هكذا، تتنقّل فقرات العرض بين التقاليد والعادات والمراسم والمناسبات والمعاملات الاجتماعية المتعددة، والقواعد الأخلاقية، والطقوس الروحية، لتنطوي كل لقطة من اللقطات على يومية من اليوميات، أو تفصيلة من التفاصيل، أو جانب من جوانب الحياة في الصين القديمة أو المعاصرة، في هذا الإقليم أو ذاك، بحسب ما يقتضيه السياق التعبيري، الحركي الراقص على طول الخط.
من أبرز هذه البورتريهات التي صوّرتها فقرات العرض، تلك العناصر الثقافية الصينية المدرجة في قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو”، ومنها مثلًا زراعة الشاي وأساليب تحضيره بأنواعه ومذاقاته المختلفة بالطرق التقليدية التي تشكّل رمزًا روحيًّا للأمة الصينية.
وينطوي برّاد الشاي الصيني على عصور طويلة من الحضارة الصينية، بكل ما تتسع له من معاني الوئام والاندماج والإخاء والسلام والتسامح والتفاعل الإيجابي مع الآخر. وتعبّر اللوحات المسرحية برشاقة وسلاسة عن مراحل زراعة الشاي الصيني التاريخي، الأسود والأحمر والأبيض والأخضر والأصفر والمعطر بالزهور المتنوعة، ومواسم حصاده.
كما تعبّر هذه اللوحات الاستثنائية، المصحوبة بمشاهد أرشيفية مصورة تعرضها شاشة سينمائية في خلفية المسرح، عن أساليب تحضير الشاي التقليدية بوصفها فنًّا تراثيًّا، وجلسات شرب الشاي، وتوزيع الأكواب على الحاضرين من الضيوف وأهل البيت، وغيرها من البروتوكولات الشعبية الدالة على خصوصية البلاد، التي تعد الموطن الأشهر للشاي عبر التاريخ، وتنتج قرابة ألفي نوع من الشاي، بين مشروب مائدة أساسي، ومشروب صحي علاجي. وفي جميع الأحوال، فإن شرب الشاي ممارسة ثقافية اجتماعية، ولذلك اعتمدته اليونسكو عام 2022 ضمن قائمتها الخاصة بالتراث الثقافي غير المادي، ككنز للإنسانية.
التوحّد مع الطبيعة
ولا يخلو وجه واحد من سرديات العرض من هذه النزعة الواضحة إلى التوحّد مع الطبيعة الأم. فالبشر، والأشجار في الحقول الخضراء، والأقمار والنجوم في السماء، والأمواج في البحار، والرمال في الصحراء، هم إخوة وشركاء في هذه الحياة التي تتسع للجميع بمحبة ضافية.
وتتفق جميع المشاهد التعبيرية المسرحية على هذا المفهوم، الذي يعيد الإنسان إلى خميرته الصلصالية الأولى ككائن نقي، لم تلوّثه أدخنة العصر الحديث وتقنياته البائسة الجوفاء. وتتوغل لوحات العرض في استقصاء رحلة هذا الإنسان منذ عصور طريق الحرير، وطريق الشاي والحصان، في السجل التاريخي الصيني الحافل، حتى لحظتنا الحالية، التي يسعى فيها الإنسان إلى التصالح مع ذاته.
والمسرح الحركي الصيني في عمومه، كما يريده صُنّاعه ومبدعوه منذ عهود البلاط الإمبراطوري حتى اليوم، هو مسرح له دور وظيفي في الأساس، إضافة إلى فنياته وجمالياته المجرّدة بطبيعة الحال. وهذا المسرح الخاص هو فضاء ثقافي ومعرفي من فضاءات القوة الناعمة، المؤثرة محليًّا وخارجيًّا من جهة. كما أنه، من ناحية أخرى، سجلّ من سجلّات التوثيق التاريخي.
ويتحقق ذلك كله، ليس بواسطة الرسائل المباشرة التوجيهية والتلقينية والدعائية كما في مسرح الخطابيات مثلًا أو المسرح الملتزم في تعريفاته وتمثلاته الساذجة، وإنما يتأتى من خلال المعالجات البصرية المرهفة الشفيفة، التي تراعي بتلقائية توصيل هذا التراث الصيني، في محطاته ومراحله التاريخية المتعاقبة، وتجليات الحضارة الصينية الرفيعة إلى ذائقة المتلقي، داخل الحكاية المبسطة، التي تنصهر في السياق الحركي المسرحي الراقص.
والعاصمة بكين، على وجه الخصوص، هي أكثر المدن الصينية التي أخذت على عاتقها تطوير المسرح الصيني، الذي تعود إرهاصاته البدائية إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام بالتمام والكمال. وقد لعبت أشكال الأوبرا المتنوعة التي ظهرت تباعًا في الصين دورًا ملموسًا في هذا التطوير المسرحي، وعلى رأسها أوبرا بكين، التي نشأت في أواخر القرن الثامن عشر من رحم المسرحيات الإقليمية في الصين القديمة. وعملت أوبرا بكين عبر آلاف العروض المتتالية على مزج الدراما الشعبية والغناء والرقص والألعاب الأكروباتية، إلى جانب الاستفادة من الفنون الغربية، خصوصًا في مجال الموسيقى السيمفونية، والتوزيعات الأوركسترالية.