أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي التاريخ الشفاهي لهوليوود (3): جريفيث ودي ميل وستروهايم.. كبار السينما الصامتة

نواصل رحلتنا في الكتاب الممتع “هوليوود: التاريخ الشفاهي” للكاتبين والمؤرخين جينين باسنجر وسام واسون، اللذين قاما برحلة في الاختيار بين عشرة آلاف ساعة مسجلة من التأريخ الشفاهي لكل شيء في السينما الأمريكية، تضم شهادات ثلاثة آلاف ضيف، خبراء في كافة المجالات من مخرجين ومؤلفين وممثلين، وحتى خبراء الديكور والملابس والصوت، وكافة التخصصات السينمائية، للخروج برواية شيقة، متماسكة، حول تاريخ هوليوود، مركز صناعة السينما في العالم.

في هذا المقال نُلخص بعض ما قيل عن أساطير السينما الصامتة، المخرجين الثلاثة الذين ساهموا في صياغة فن السينما كما نعرفه. د. و. جريفيث الذي يعتبر أحد المخترعين الأساسيين لفن المونتاج وكيفية توظيفه في الحكي عبر فيلمه الأشهر “مولد أمة Birth of a Nation”، سيسيل بي دي ميل أول مخرج أفلام هائلة الضخامة الذي حوّل الفيلم الواحدة صناعة تدر الملايين، وإريش فون ستروهايم، الألماني الذي وصل هوليوود ليخرج ويُمثل ويقدم للسينما الأمريكية تصوّرًا جديدًا عن الطريقة التي تُصنع بها الأفلام.

د. و. جريفيث.. العبقري الوحيد

د. و. جريفيث

 

ويليام بودين (مخرج): “بينما كان د. و. جريفيث يعمل، لم أكن واعيًا لحقيقة أنه كان يفعل الأشياء بشكل مختلف عن إنتاجات الشركات الأخرى مثل باثي وإديسون، ولوبين وكل هؤلاء الرجال. لم أتمكن من المقارنة، لأني لم أمتلك عقلًا تحليليًا. أعني أنها كانت مجرد وظيفة بالنسبة لي.

لم أقابل أحدًا شعر بالألفة مع جريفيث، لم يكن رجلًا تشعر برغبة في وضع ذراعك على كتفه. كأن هناك دومًا شاشة تفصل بينك وبينه. لا أعرف إذا كان هو من طلب ذلك، ولم يكن بحاجة لأنه يطلبه، لقد كان الأمر حقيقة قائمة. لقد كان دائمًا لوحده، كان الجواب عليه: نعم يا سيد جريفيث. لم يناده أحد باسمه الأول مطلقًا. لم يناد أبدًا أيًّا من الممثلين باسمه الأول حسب معرفتي. ثمّة شعور مستمر أن عليك الحفاظ على مسافة بينكما”.

راؤول والش (مخرج): “جريفيث اكتشف اللقطة المقربة وأتقنها كما لم يفعل أحد قبله. كان الإخراج قبله هو تحضير المشهد ثم وضع الكاميرا على الأرض لتصور الحدث كما لو كانت تصور عرضًا مسرحيًا”.

هنري هاثاوي (مخرج مرشح للأوسكار): “كان التمثيل لديهم يساوي التمثيل بكامل الجسد. لو نظرت للأفلام القديمة ستجد أجسام الممثلين كاملة دائمًا. الوحيد الذي استمر لاحقًا بنفس الطريقة هو تشارلي تشابلن، الذي اعتبر نفسه وقدميه ويديه والعصا والأحذية وكل شيء، جزءًا منه، فصار المثال الوحيد للممثل كامل الجسد. نادرًا ما ترى تشابلن في لقطة مقربة. آلان دوان أخبرني إنه عندما بدأ جريفيث في استخدام اللقطة المقربة، اشتكى أصحاب قاعات العرض من وجود رؤوس بلا أجساد على الشاشة”.

جورج كوكور (مخرج حاصل على الأوسكار): “اعتاد جريفيث أن يُبقي الناس على مسافة، كان ساحرًا ويسهل تمييزه، ويتصرف بشكل جيد للغاية، لكني أعتقد أنه لم يكن سعيدًا. لقد أحببته، لكن… لا يمكنك حقًا معرفة الكثير عن هويته الحقيقية. قررت نقابة المخرجين أن يكون أول من يحصل على عضوية مدى الحياة. عُقد اجتماع عظيم وتم تقديمه، ووقف الجميع وفيهم كل المخرجين العظماء ينظرون إليه، وكانوا جميعًا يتوقعون.. شيئًا ما. لكنه بطريقة خجولة وسخيفة اكتفى بأن يقول: “أوه.. اذهبوا إلى الجحيم” ثم جلس. كانت رغبته أن تكون مزحة، لكنها بدت مفتقدة للباقة بشكل هائل. كانوا يتوقعون من الأستاذ أن يقول شيئًا لأنهم يحترمونه بصدق”.

راؤول والش: “كان رجلاً يعيش في فندق بمفرده ويأتي للعمل بمفرده ويعود إلى البيت بمفرده. كان اهتمامه الوحيد هو صنع الأفلام. حياة جريفيث كانت فقط الأفلام الأفلام الأفلام”.

اقرأ أيضا:

أحمد شوقي يحكي التاريخ الشفاهي لهوليوود (1): البدايات بين الهواية والنميمة

سيسيل ب. دي ميل.. رجل الإنجازات السينمائية

Cecil B. DeMille, American producer, director, screenwriter, actor. Considered the founder of the Hollywood motion picture industry. Taken at the Paramount Studios. (Photo by Gaby/Getty images)

 

تشارلز هيستون (ممثل حاصل على الأوسكار): “كان دي ميل صعبًا للغاية. لم يكن طاغية، ولكن كان لديه سيطرة صارمة على موقع التصوير. لم يفلت منه شيء. لم يرفع صوته أبدًا، كان بإمكانه أن يغدو شديد الصرامة مع مساعدي المخرج وعمال الديكور وأمثالهم لو لم يقدموا ما يتوقعه. لقد قلت ذات مرة لشخص ما، بعد أن مزق أحد عمال الديكور: “السيد دي ميل صعب للغاية”، فقال الرجل: “لا، إنه ليس قاسيًا. إنه يتوقع فقط يومًا جيدًا من العمل، يومًا جيدًا جدًا من العمل”. وهذا ما حصل عليه من الجميع”.

تاي جارنيت (مخرج وكاتب وممثل): “في الصناعة، بين الكتاب والمخرجين والمنتجين، لم يكن دي ميل يحظى بتقدير كبير حقًا. لقد كان يحظى باحترام بسبب روحه الاستعراضية، ولكن كمخرج، كان يُعتبر من الطراز القديم، عبثيّ قليلًا، وثقيل اليد. كانت هذه هي الآراء الشائعة حوله بين محترفي السينما. لكن دي ميل كان يعرف ما يريده الجمهور أكثر من أي شخص آخر في هذا المجال. لقد كان يكسب باستمرار أموالاً ضخمة. كانت أفلامه تعج بكبار النجوم، أنفق المال وكأنه جاهز للموت. لكن لم يكن هناك أي شخص في هذا المجال يجني هذا القدر من المال باستمرار من خلال الأفلام، حتى جاءت ديزني. أفلام دي ميل الصامتة مذهلة. قطع رائعة من الحرفة. فقط مذهلة. إنه الأعظم حقًا”.

ميرفن ليروي (مخرج مرشح للأوسكار): “في بداية حياتي المهنية عملت ضمن فريق التصوير في أحد أفلام دي ميل. وكان يقول باستمرار أنني من اخترعت البؤرة الناعمة soft focus، لأني كنت أصور كل شيء بشكل خاطئ خارج البؤرة out of focus”.

ريدجواي كالو (مساعد مخرج في 79 فيلم أمريكي): “كان دي ميل أستاذًا في السيطرة على المجاميع، كان يطالب بالصمت التام عندما يتحدث لدرجة أنه يمكن للمرء سماع صوت سقوط الإبرة. كان يخاطب المجاميع ذات يوم عندما سمع سيدة تتحدث إلى صديقتها في الخلفية، فقال: “عندما أتحدث، أيتها السيدة الشابة، ماذا أهم لديك لتقوليه الآن؟”. كانت الفتاة المعنية كومبارس معروفة اسمها شوجار جيسي، وهي فتاة استعراض سابقة شديدة الذكاء والجرأة. وبشجاعة، ردت. “لقد قلت فقط لصديقتي متى سيتوقف ابن العاهرة ذو الرأس الأصلع لتناول طعام الغداء؟”. كانت هناك بضع ثوان من الصمت المخيف، قبل أن يصيح السيد دي ميل: “وقت الغداء!” لقد كان يتمتع حقًا بروح الدعابة”.

تاي جارنيت: “في البداية، كان هناك تنافس شديد بين معسكر جريفيث ومعسكر دي ميل، لكن مع وصول دي ميل لمكانته الهائلة كان حضور جريفيث قد خفت كليًا. جريفيث انزلق بشدة بنهاية العصر الصامت، لكن دي ميل لم ينزلق أبدًا. لقد كان رجلاً ذكيًا ويتمتع بإحساس بما يريده الجمهور من أي فنان عرفته على الإطلاق. وكان يعطيهم ما يريدونه باستمرار. لا أعتقد أنه تعرض أبدًا للإخفاق”.

تيت كارل (خبير للدعاية والعلاقات العامة): “كان لديه فريق دعاية خاص به مستقل عن فريق الاستوديو. فريقه عمل على دعاية “الوصايا العشر” بما يمكن أن أقول إن فيلم “ذهب مع الريح” لم يمتلك حملة كاملة ومفصلة ومتعمقة كما فعل فريق دي ميل. حملة الوصايا العشر لم تركز فقط على الفيلم كفيلم، بل تعمقت للتفتيش عن الجماهير الخفية أو المفقودة ممن توقفوا من فترة عن الذهاب للسينما بسبب العمر أو لأي سبب آخر. عرف دي ميل بوضوح أنه لو أراد جمع قدر هائل من المال فلا يمكنه الاعتماد فقط على من يذهبون للسينما بانتظام، كان عليه أن يخرج ويحفر بحثًا عن جمهور آخر”.

اقرأ أيضا:

أحمد شوقي يحكي التاريخ الشفاهي لهوليوود (2): أساطير الكوميديا في السينما الصامتة

إريش فون ستروهايم.. البصمة الألمانية

إريش فون ستروهايم

 

راي ريناهان (مدير تصوير حاصل على جائزتي أوسكار): “فون ستروهايم كان فون ستروهايم. كان مهووسًا بالتفاصيل. إذا كان لديه صف من الجنود ورأى شيئًا ما، كان ينزل ويغير زرًا على صدر سترة أحد الرجال أو شيء من هذا القبيل. كان يراقب كل شيء. أتذكر ذات مرة كنا في مترو جولدوين ماير، وكنت واقفًا على ارتفاع أربعة أقدام حتى نتمكن من التقاط لقطة عالية للمشهد، وكان فون ستروهايم معي وراء الكاميرا ورأى ياقة رجل مرفوعة للأعلى، ليخرج مباشرة من المنصة كي يضبط الياقة. لم يكن واعيًا بأنه يقف على ارتفاع أربعة أقدام، سقط وكسرت ساقه. فقط لتعديل ياقة جندي وسط المجاميع! كان بإمكانه استدعاء مساعد أو أي شخص للقيام بذلك، ولكنه ليس من يفعلها. لقد كسر ساقه بدلًا من ذلك”.

لويس مايلستون (مخرج حاصل على جائزتي أوسكار): “أحببت العمل معه كممثل. أخرجت فيلمين من بطولته. لم يسبب لك أي مشكلة أبدًا. لقد كان رجلاً منضبطًا جدًا. وعندما كان يمثل، كان يمثل فقط. لم يتدخل قط. إذا تحدثت معه عن مشهد ما، فبالتأكيد، كأي ممثل، سيكون لديه بعض الاقتراحات، لكن كان من السهل جدًا التفاهم معه. نعم، أحببت العمل معه، وكذلك فعل بيلي وايلدر”.

بيلي وايلدر (مخرج أسطوري حاصل على ست جوائز أوسكار): “لطالما أحببت أفلامه وأحببته. عندما كنت طفلاً صغيرًا في برلين، كنت أجمع توقيعاته التي يرسلها للمعجبين. عندما قررت أن أصنع فيلم “خمس قبور نحو القاهرة Five Graves to Cairo” اقترحوا عليّ أن يلعب دور روميل. لم يكن ممثلًا حقًا، ولكنه كان شخصية هائلة. لقد وصل من باريس، حيث كان يعيش، بينما كنا بالخارج في إنديو نصور مشاهد الدبابات في الصحراء. عندما عدت إلى الاستوديو، أخبروني أن فون ستروهايم في قسم الأزياء الغربية يجرب زيّ روميل. لم قد سبق لي أن التقيت به من قبل في حياتي، ولما كان قسم الأزياء الغربية في أستوديوهات باراماونت قريبًا، فقد أسرعت لأعبر الطريق وألتقيه. نقرت على كعبي، وقلت: “اسمي وايلدر”. فرد: “كيف حالك؟” وددت أن أكون لطيفًا معه وأجعله يشعر بالارتياح، فقلت، “من كان يتخيل أن وايلدر الصغير سيخرج فيلم لستروبيم الكبير؟”، رأيته يميل معجبًا برأيي فأكملت: “هل تعرف المشكلة يا إريش؟ أنك كنت دائمًا سابقًا عصرك بعشر سنوات.” فنظر إليّ مباشرة وقال: “عشرين!” كان هذا كل شيء. كان ذلك ستروهايم”.

هال مور (مدير تصوير حاصل على جائزتي أوسكار): “عندما أفكر في طريقته أجد أن فون ساهم كثيرًا في فن السينما. يجب أن تدين له هذه الصناعة وتبقيه دومًا في الذاكرة بالرغم من كل نقاط ضعفه. كانت هناك عديد من الأشياء الخاطئة بخصوص فون ستروهايم، لكني أعتقد أنه أسهم إسهامًا عظيمًا في الفن السينمائي”.

لويس مايلستون: “عندما تأثر الفيلم الأمريكي وقام بالخطوة الأولى إلى الأمام، كان هذا التقدم في الحقيقة بفضل الألمان. لقد اخترع الألمان الزاوية. لقد أحدثوا ثورة في شكل موقع التصوير. كانوا يبنون موقعًا حقيقيًا، يقدم لك كل مكان فيه زاوية تصوير مثيرة للاهتمام. أتذكر أنه قبل مجيء الألمان، إذا كان لديك مطبخ وغرفة طعام وغرفة معيشة، كنا نبني ثلاثة جدران كأنها خشبة مسرح، وكانت تلك هي خطة الكاميرا. لذلك كان عليك دائمًا أن تصور من موقع هذا الجدار المفقود. بمعنى آخر، كنا تحت سيطرة المسرح ونخضع لسيطرة تقاليده. ما علمني إياه الألمان وعلموا كل شخص آخر هو أن الأفلام ليست خشبة مسرح، وأن لديك الحرية المطلقة التي يمكنك من خلالها جعل الجمهور يتبعك إلى حيث تريد. يمكنك جعلهم يمرون عبر ثقب المفتاح، من خلال ثقب في الأرض، يمكنك جعلهم ينظرون من خلال فتحة في السقف، أينما تريد الذهاب، يمكنك جعل الجمهور يرى ما تريد منهم أن يرونه. إذن هناك حرية مطلقة”.

 

**سنتوقف عن هذه السلسلة قليلًا خلال الأسابيع المقبلة لمتابعة أفلام مهرجان كان السينمائي وحكاياته، ثم نعود لنستكمل التأريخ الشفاهي المدهش لهوليوود.

 

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *