أوضحنا في المقال السابق كيف عرفت مصر القطار في فترة مبكرة عند منتصف القرن التاسع عشر. وبدأنا في تتبع كيف أصبح القطار بحق ظاهرة مهمة في تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي.

اقرأ:

د.محمد عفيفي يحكي حكاية القطار بمصر (1-2): يا وابور الساعة 12

 

ربما لا يعرف البعض منا أن السكك الحديدية لم تكن كلها مملوكة للدولة؛ إذ استثمرت الدولة بشكل أساسي ومنذ القرن التاسع عشر في السكك الحديدية، وخاصةً نقل الركاب، لأن ذلك كان يخدم فكرة الدولة المركزية في مصر، ونقل البريد “البوسطة” التي كانت غاية في الأهمية آنذاك، سواء على المستوى الحكومي، أو حتى على مستوى التواصل الإنساني. لذلك كان المقر الأول للبوستة داخل محطة مصر، محطة السكك الحديدية، لتسهيل نقل البوستة عبر القطار، لكن مع التوسع في البريد لم يعد المكان داخل محطة مصر يكفي، لذلك تم نقل البوستة إلى مقرها الشهير في العتبة.

لكن الشركات الخاصة استثمرت في قطارات نقل البضائع، وكان أشهر الأمثلة على ذلك قطار تجميع القطن من القرى والنواحي في الوجه البحري، عندما كان القطن هو الذهب الأبيض، عماد الاقتصاد المصري. أما في الوجه القبلي “الصعيد” استثمرت شركات صناعة السكر في إنشاء سكك حديدية خاصة لتجميع ونقل القصب من المراكز الإقليمية، ونقله إلى مصانع تكرير السكر، وكانت بعض هذه المصانع- وبالتالي قطارات نقل أعواد القصب- مملوكة لأجانب أو متمصرين.

القطار والسياسة

ودخل القطار في مجال الحياة السياسية بشدة؛ ففي أثناء الثورات، أو حتى الانتفاضات الشعبية، كانت مسألة قطع خطوط السكك الحديدية من أخطر حوادث تلك الفترة، والمثال الأكبر على ذلك أثناء ثورة 19، وقطع الفلاحين خط الصعيد لعرقلة انتقال جنود الاحتلال الإنجليزي عبر القطار، مما أدى إلى ضرب الإنجليز أسيوط بالطائرات.

وكان الزعماء يفضلون القيام بجولات عبر القطار، في إطار حملات الدعاية السياسية لهم، فلدينا العديد من الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لهذه الظاهرة سواء في العصر الملكي أو العصر الجمهوري. كان الملك فاروق يفضل استخدام القطار في جولاته الإقليمية، ولدينا العديد من الصور للزعيم الوفدي المشهور مصطفى النحاس في جولاته وهو يلوح للجماهير، بل وهناك صورة لطيفة للنحاس في فترة خروجه من الحكم، وهو نائم على دكة خشبية في محطة القطار.

 

وفي العصر الجمهوري كان عبد الناصر يفضل استخدام القطار في جولاته، وهناك العديد من الصور وهو يبتسم ويلوح للجماهير، وربما كان السادات هو آخر الزعماء الذين استخدموا القطار؛ إذ انهارت منظومة السكك الحديدية بعد ذلك، كما أنها لم تعد تتفق مع الاتجاهات الأمنية الجديدة، وأساليب الحراسة غير التقليدية.

القطار في الفن

وفي مجال الفن نجد العديد من الأغاني عن القطار، لعل أشهرها أغنية عبد الوهاب “يا وابور قل لي رايح على فين”، هذه الأغنية التي تعود إلى عام 1938، ووضع كلماتها الشاعر المعروف “أحمدرامي. وإذا انتبهنا جيدًا إلى كلمات الأغنية، فإنها ترسم في الحقيقة عالمًا خاصًا محوره القطار، دلالة على أهميته بالنسبة للمجتمع المصري. تقول كلمات الأغنية:

عمال تجري قبلي وبحري تنزل وادي تطلع كوبري

دلالة على أهمية القطار في ربط الوجهين: الوجه البحري والوجه القبلي، وكأن القطار بمثابة الملك مينا موحد القطرين، باستدعاء التاريخ المصري القديم.

كذلك تحدثنا الأغنية عن الحياة الاجتماعية التي تنشأ داخل القطار بين ركابه، لا سيما مع طول السفر:

إن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب

بـعــد شـويـة يـبــقـــوا أحـبـاب وده يعرف ده رايح على فين!

للاستماع إلى الأغنية عبر هذا الرابط 

أفلام وقطارات!

 

كما أصبح القطار محورًا أساسيًا للعديد من الأفلام المصرية، لعل أشهرها فيلم “سيدة القطار” إنتاج عام 1952، وإخراج يوسف شاهين وبطولة ليلى مراد. وفي العام التالي 1953 يقوم عز الدين ذو الفقار بإخراج فيلم “قطار الليل”، هذا الفيلم الملئ بالمغامرات، بطولة سامية جمال وعماد حمدي واستيفان روستي.

ولعل أشهر الأفلام في مجال القطار والسكك الحديدية الفيلم الشهير “باب الحديد” الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1958، وقام ببطولته مع فريد شوقي وهند رستم.

 

حكاية القطار في مصر حكاية طويلة، شيقة أحيانًا، ودرامية أحيانًا أخرى، ومأساوية في حوادثها أيضًا.