أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: 3 أيام في أرمينيا.. خواطر عن السينما والحروب في مهرجان المشمش الذهبي

المكان مزرعة عتيقة لتخمير النبيذ تبعد قرابة ساعة بالسيارة عن وسط العاصمة الأرمينية يريفان، في الحديقة حفل موسيقي وطاولة تجمع الطعام الأرميني الشهي بالنبيذ المحلي بالفاكهة المدهشة التي يحمل مهرجان البلد السينمائي اسمها: المشمش الذهبي، الذي يجعلك طعمه تعيد التفكير في حقيقة الفاكهة التي نتناولها في بلادنا، والتي تأتي في مواسم محدودة جعلتها في التعبير الدراج مرادفًا لصعوبة اللحاق بشيء ما، فتصف الوصول له بأنه “في المشمش”، على أن مشمشمنا صغير الحجم خجول الطعم إذا ما قورن بالفاكهة الوطنية لأرمينيا التي دفعت منظمي المهرجان أن يطلقوا عليه عند تأسيسه قبل عقدين “مهرجان المشمش الذهبي السينمائي الدولي Golden Apricot International Film Festival”.

المشمش في جائزة المهرجان

 

غير أن مكاننا ليس الحديقة العامرة، وإنما مبنى استقبال في منتصفها، أقرب للاستراحة لولا أن جدرانه زجاجية تسمح بتبادل الرؤية بين الجانبين. من الخارج سيلاحظ ضيوف الحفل مناقشة حماسية بين ثلاث أشخاص يجلسون داخل الاستراحة: مخرج كندي أرميني وُلد على أراضٍ مصرية ورُشح لجائزتي أوسكار، وكاتب روسي فرّ من بلاده بعدما صار مطاردًا من نظام بوتين، وناقد سينمائي مصري هو كاتب هذه السطور. يشكلون معًا أعضاء لجنة تحكيم الأفلام القصيرة في المهرجان، والمخصصة للأفلام المحلية فقط.

لجنة التحكيم في الغرفة الزجاجية

حيوات حافلة

المخرج هو بالطبع أتوم إيجويان، المولود في القاهرة عام 1960 لعائلة أرمينية قررت أن تطلق عليه اسم “أتوم Atom” أي “ذرّة”، تيمنًا بإطلاق مشروع أول مفاعل ذري مصري آنذاك، لكن لم تمر ثلاث سنوات حتى هاجرت العائلة إلى كندا التي نشأ فيها أتوم وصنع اسمه تدريجيًا كواحد من أهم صناع السينما العالميين في نهاية التسعينيات وبداية القرن الحالي، أفلام عبّر فيها عن رؤيته للعالم كأرميني من الشتات، مما جعل أرمينيا تعتبره رمزّا ثقافيًا يُمثلها وتمنحه جنسيتها رسميًا عام 2018 في احتفال قام فيه رئيس الوزراء بتسليمه جواز السفر. أكتبها وأذكر المخرج المصري الكبير محمد خان الذي عاش طيلة عمره يأمل في الحصول على جنسية البلد التي ولد وعاش وصنع كل أفلامه فيها، فلم يأته الجواز إلا قبل شهور قليلة من وفاته.

Filmmaker Atom Egoyan Isn’t Here to Tell Simple Stories | MONTECRISTO
المخرج هو بالطبع أتوم إيجويان

 

أما الرجل الثاني على الطاولة فهو أنطون دولين، الكاتب والناقد والمحاضر والإذاعي، ورئيس تحرير المجلة الشهيرة “إسكوستفو كينو Iskusstvo Kino”، التي صدرت في الاتحاد السوفيتي عام 1931 لتكون من أعرق وأهم المجلات السينمائية في التاريخ، والتي استمرت في الصدور مطبوعة حتى توقفت في مايو 2023 واكتفت بالنسخة الإلكترونية، بعد شهور قليلة من اضطرار رئيس تحريرها وأسرته للهرب من روسيا واللجوء إلى لاتفيا، بعدما تلقى تهديدات بالقتل وصلت لرسم شعارات معادية على باب بيته بسبب انتقاده العلني للغزو الروسي لأوكرانيا. بالنسبة لمتحدثي الروسية يكاد أنطون دولين يكون الناقد السينمائي المعاصر الأكثر شعبية على الإطلاق، وهناك ملايين تقرأ كتاباته وتتابع قناته على موقع يوتيوب.

انطون فلاديميروفيتش دولين - ويكيبيديا
الكاتب والناقد انطون فلاديميروفيتش دولين

 

بالنسبة لحضور الحفل ممن اهتموا بمراقبة الاجتماع الذي يجري داخل الاستراحة من وراء الزجاج، اعتقدوا في الأغلب أن أعضاء لجنة التحكيم عاجزين عن الاتفاق حول أسماء الأفلام الفائزة، بعدما استمرت الجلسة لأكثر من ساعة ونصف من الحديث الحماسي بينما يستمتع الكل في الخارج بالموسيقى والطعام (والمشمش بطبيعة الحال!). بينما الحقيقة كانت أن النقاش حول الفيلمين الفائزين بجائزتي المسابقة لم يستغرق أكثر من خمس دقائق، كتب فيها كل منّا تفضيلاته في ورقة ثم كشفتها لنجد فيلمين اتفقنا كلنا على الإعجاب بهما فصارا الفائزين، بينما كان محتوى باقي الجلسة حوار حميمي، صادق وشيّق، حول غرابة العالم الذي نعيش فيه، وما يفرضه على الإنسان من قرارات قد تقلب حياته رأسًا على عقب، يأخذها مضطرًا ليواكب متغيرات لم يرغب أبدًا في وقوعها.

الاحتفال في مخزن النبيذ

عن الترحال والحروب

محاولًا التخفيف عن دولين عندما تحدث عن محاولته التكيف مع حياته الجديدة في العاصمة اللاتفية ريجا قال أتوم إيجويان إن ما لا يعرفه أغلب الناس أنه ولد في بلد لم يعد له وجود في العالم. فهمت المزحة من أول لحظة، لكن الكاتب الروسي كان بحاجة لأن يشرح له المخرج الكبير إن وثيقة ميلاده عام 1960 تشير لأنه من مواليد الجمهورية العربية المتحدة، الكيان الاتحادي الذي لم يدم بعدها إلا سنة واحدة قبل انتهاء الوحدة بين مصر وسوريا، بينما احتفظت مصر بالاسم شكليًا حتى أعاد السادات اسم جمهورية مصر العربية عام 1971.

قلت لهما إننا في مصر نتحدث كثيرًا عن غرابة قرار جمال عبد الناصر بأن يمحو اسم مصر التاريخي بجرة قلم، فرد إيجويان بتعليق ذكي، حول أن كاريزما القائد ليست دائمًا في صالح البلاد، وأن من مصلحة أرمينيا حاليًا أنها تمتلك رئيسًا بيروقراطيًا بلا كاريزما، إشارة إلى الرئيس فاهاجن خاتشاتوريان الذي يدير البلاد منذ مارس 2022، والذي يحاول أن تستعيد بلاده الحياة الطبيعية بعد أزمة الحرب مع أذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ.

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/6/61/Vahagn-Khachatryan.jpg
الرئيس الأرميني فاهاجن خاتشاتوريان

 

لكن المحاولات لا تكفي للخروج من فكاك حرب راح ضحيتها آلاف البشر، وهو ما بدا بوضوح في الأفلام القصيرة العشرة التي تنافست في المسابقة، والتي دار أكثر من نصفها حول الحرب وتبعاتها وتأثيراتها على الحياة اليومية الأرمينية، وعلى رأسها فيلم “وطن Home” للمخرج هرانت فارزابيتيان الذي نال الجائزة الكبرى للمسابقة، وفيه ينضم شاب إلى الجيش فيلقى احترام كل أسرته بعدما صار بطلًا يذهب للدفاع عن الوطن، بينما لا تبدو الصورة بنفس الوضوح في ذهن الشاب نفسه. تساؤلات من البديهي أن تحضر في عقول جيل من صناع الأفلام الشباب الذي كان الانضمام للجيش خلال الحرب مرحلة من سنوات نشأتهم.

 

لكن على النقيض من رفض وسائل التواصل الاجتماعي، لم يلق كيفين سبيسي خلال حضوره في يريفان إلا الحفاوة والترحيب، فتبارى الجمهور في التقاط الصور معه، وتوافد المئات لحضور درس السينما الذي ألقاه.

 

التباس وثقافة إلغاء

الحيرة والحذر لا تتوقف في عالم السينما اليوم عند الأفلام وصناعها، لكنها تمتد لكل شيء آخر، وتلك الطاولة الصغيرة التي جمعت أعضاء لجنة التحكيم الثلاثة نموذج مصغر لما يجب مراعاته طول الوقت من توازنات وتناقضات: إيجويان ولد في مصر وسمُي تيمنّا بأحد إنجازاتها المفترضة، لكن أسرته تركتها عندما لم تعد الأوضاع مرحبة بكثير من الجاليات الأجنبية، وهو متعاطف مع أوكرانيا التي ترك دولين وطنه بسبب دعمه لها، لكن أوكرانيا في الوقت نفسه تدعم أذربيجان رسميًا في حربها ضد أرمينيا، وهو ما لا يرحب به كلا الرجلان، بينما لا يجد دولين -نصف اليهودي- نفس التحفظ على موقف أوكرانيا من إسرائيل، وهو ما أتحفظ عليه أنا بطبيعة الحال، وهكذا، دائرة من الحسابات المعقدة والطرق المليئة بالألغام التي ينبغي أن تسير بينها، معبرًا عن رأيك وموافقك، لكن دون تجاوز أو استعداء يأخذ الحوار من حيز النقاش الثري بوجهات نظر متباينة إلى تراشق لفظي لا طائل منه.

نفس الالتباس –لكن في مجال آخر– عاشه مهرجان المشمش الذهبي نفسه قبل حفل الافتتاح، عندما أعلن عن حضور النجم الأمريكي كيفين سبيسي ليتلقى تكريمًا عن مجمل أعماله ويلقي درسًا سينمائيًا حول التمثيل في اليوم التالي. الخبر الذي تسبب بطبيعة الحال في هجمة على صفحات التواصل الاجتماعي ممن وجدوا من غير اللائق تكريم سبيسي في وقت انتهت فيه مسيرته المهنية عمليًا بسبب قضايا الاغتصاب التي كان يحاكم فيها. صحيح أن القضايا انتهت مؤخرًا دون إدانته لأسباب إجرائية، لكن سبيسي نفسه اعترف بأغلب الأفعال موضوع الاتهام.

تكريم كيفن سبيسي في الافتتاح

 

وبغض النظر عن موقفك من ثقافة الإلغاء بشكل عام (والتي أرفضها شخصيًا عمومًا، فلا يُمكن إلغاء مسيرة فنية بسبب خطايا صاحبها)، فإن قرار التكريم في حالتنا بدا أكثر تساهلًا مما ينبغي، تسبب في بعض الضرر لصورة المهرجان دوليًا لإصراره على تكريم رجل لا ترحب أغلب فعاليات العالم حاليًا بحضوره، ناهيك عن الاحتفاء به.

لكن على النقيض من رفض وسائل التواصل الاجتماعي، لم يلق كيفين سبيسي خلال حضوره في يريفان إلا الحفاوة والترحيب، فتبارى الجمهور في التقاط الصور معه، وتوافد المئات لحضور درس السينما الذي ألقاه. وبينما توقع البعض منه أن يلقي كلمة يعبر فيها عن امتنانه للمهرجان الذي منحه فرصة ذهبية للعودة في وقت أغلقت فيه كل الأبواب أمامه، تجاهل الموقف برمته على الطريقة الأمريكية، بل وألقى مزحة لا يمكن وصفها إلا بالسخف. سبيسي علق على إقامة حفل الافتتاح في يوم احتفال “فاردافار Vardavar” أو “يوم المياه” الذي يلقي فيه الأرمن المياه على بعضهم في الشوارع، فقال إنه من حسن الحظ إنه لم يتعرض للبلل get wet خلال اليوم، وهو التعبير الذي يعني أيضًا شعور المرء بالإثارة الجنسية! لم يضحك أحد على مزحة سبيسي العجيبة، لكنهم تجاوزوا عنها واحتفلوا بحضوره إلى أرمينيا للمرة الأولى.

احتفاء الحضور بسبيسي

ما يبقى

غير أن الأهم من أزمات سلوك النجوم الأمريكيين، ومن الأزمات السياسية التي تحضر ضمن نقاشات لجان التحكيم، هو تلك الروح المُرحِبة التي تشعر بها في شوارع يريفان، العاصمة الصغيرة التي تجمع سمات المدينة الغربية والشرقية معًا، وتتجاور فيها المباني الشاهقة من ميراث العهد السوفيتي مع تجليات المعمار الأوروبي الحديث. تُربكك عندما تتجول في شوارعها بقدرتها على أن تتجلى كعاصمة كبيرة حافلة بالبشر في مكان، ثم تنقلب بلدة صغيرة خافتة في مكان على بعد أمتار. وفي الحالتين تجد شعبًا لطيف المعشر، هادئ الطباع، لا يزال في ربع القرن الحادي والعشرين يحتفل بمرح طفولي بيوم يلقي فيه البالغون المياه على بعضهم البعض.

العاصمة الأرمينية يريفان

 

لم أقض في أرمينيا (الدولة الثالثة والأربعين في قائمة رحلاتي) أكثر من ثلاثة أيام، لكنها كانت كافية للوقوع في حب هذا البلد الذي يشبهنا كثيرًا ويختلف عنّا كثيرًا، المحكوم بماض عريق مليء بالآلام، وحاضر يحلم الفنانون فيه بأن يشاركوا في صنع عالم أفضل.

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *