أحدث الحكايا

د.محمد عفيفي يحكي (التاريخ والفلكلور 1): تاريخ الناس

ما هو الفلكلور؟ المعنى اللغوي للكلمة هو حكمة الشعوب والمقصود به التراث الروحي للشعب وخاصةً التراث الشفاهي مثل المعتقدات والأساطير والعادات التقليدية الشائعة بين عامة الناس، وآداب السلوك والعادات وما يراعيه الناس والأغاني الشعبية والأمثال وغيره.

حتى وقتٍ قريب كانت العلاقة بين العلوم الإنسانية شبه مقطوعة، وتقف بين التخصصات المختلفة حدود فاصلة أشد قسوة وقطيعة من الحدود السياسية بين الدول. لكن تغيرت هذه الحالة في الآونة الأخيرة نتيجة سيادة نزعة تعددية وتداخل العلوم الإنسانية. وتبيَّن الدارسون المعاصرون صعوبة الفصل بين مجالات العلوم الإنسانية فصلًا تامًا، طالما أنها تتعامل أساسًا مع الظاهرة الإنسانية بأبعادها المختلفة.

تنبه المؤرخون إلى حقيقةٍ هامة في سعيهم نحو كتابة تاريخ من لم يكتبوا تاريخًا أو لم يهتم بهم كتاب التاريخ كثيرًا، وهى أهمية الفلكلور كمصدر أساسى لهذه المجتمعات أو حتى الفئات المهمشة.

فلم يَعُد ينظر إلى التاريخ على أنه سيَّر الملوك وقصص الأولين، أو أن “البطل” هو صانع التاريخ، أو حتى أن التاريخ ما هو إلا “حوليات” لتسجيل الوقائع. وساعد على إحداث ثورة هائلة في علم التاريخ إدخال المفهوم الاجتماعى لعلم التاريخ، ولم يعد التاريخ منحصرًا في ميدان التاريخ السياسى أو حتى التاريخ الدينى. وأصبح الإنسان ونشاطه هو محور دراسة علم التاريخ. وعليه لم تعد “الوثيقة” أو “الحولية” وغيرها من المصادر الرسمية هي أساس كتابة التاريخ؛ إذ أصبح هم المؤرخ البحث عن “مصادر شعبية” أو “غير تقليدية” للتعبير عن حركة المجتمع، من أجل فهمٍ أدق لحركة التاريخ. من هنا أصبح الفلكلور “المأثورات الشعبية” من أهم المصادر التي يعتمد عليها المؤرخ الحديث في دراسة المجتمعات الإنسانية.

لوحة تعبر عن الفلكلور الشعبي
لوحة تعبر عن فن السامر الشعبي من الفلكلور في عدة دول عربية

الفلكلور كمصدر للتاريخ

وتنبه المؤرخون إلى حقيقةٍ هامة في سعيهم نحو كتابة تاريخ من لم يكتبوا تاريخًا أو لم يهتم بهم كتاب التاريخ كثيرًا، وهى أهمية الفلكلور كمصدر أساسى لهذه المجتمعات أو حتى الفئات المهمشة. ويشير إلى ذلك أحمد مرسى في دراساته المتعددة حول المأثورات الشعبية ضاربًا المثل بتاريخ أفريقيا قبل الاستعمار قائلًا:

نحن في الحقيقة مدينون للمؤرخين الذين أرادوا التأريخ لأفريقيا خاصة، بتأكيدهم لهذه الصفة التي يمكن أن تجمع بين الفلكلور والتاريخ ذلك أن المادة التي كانت متاحة لهم، وما زالت إلى حدٍ كبير، لكي يدرسوا تاريخ أفريقيا هي المادة الفلكلورية فحسب. ففي الفترة الأخيرة طوَّر مؤرخو أفريقيا أساليب جديدة لدراسة التاريخ الشفاهي للمجتمعات الأفريقية لكي يوسعوا من مجال عملهم ورؤيتهم؛ إذ أن المصادر التي أتيحت لهم من بقايا المرحلة الاستعمارية كانت هزيلة إلى حدٍ كبير، كما أنها غير موثوق بها نظرًا لما يمكن أن يحيط بالظروف التي تم تسجليها فيها من شك. هذا بالإضافة إلى أن المصادر العربية عن أفريقيا قليلة أيضًا، وما سُجِّل فيها إنما يرجع إلى ماضٍ يصعُب التحقق منه، عندما كان للعرب قدر من التأثير والنفوذ في أفريقيا إبان استيطان بعض القبائل العربية لأنحاءٍ متفرقة من أفريقيا”.

وقد ترتب على ذلك تغيراتٍ مهمة وحادة في الأساليب التقليدية التي يتبعها المؤرخ في جمع المادة العلمية ونقدها؛ إذ أصبح ضروريًا للمؤرخ أن يتبع أسلوب “العمل الميداني” المتبع عند علماء الفلكلور والأنثروبولوجيا في تسجيل مادته التي يعتمد عليها في دراسته، كالمقابلات المباشرة، واستخدام أجهزة التسجيل وما إلى ذلك.

جانب من الرقصات الفلكلورية الأفريقية

إشكالية المادة الفلكلورية

وربما أدى هذا التلاقح بين علوم التاريخ والفلكلور والأنثروبولوجيا إلى إحراز نجاحاتٍ جديدة في ميدان الدراسات التاريخية، لكنه أثار العديد من المشاكل المنهجية حول المادة الفلكلورية التي يجمعها المؤرخ وكيفية الاستفادة منها، وأيضًا العودة إلى السؤال التقليدى للمؤرخ حول مدى مصداقية “المادة الخام” التي يعتمد عليها.

وفى كتابه “المأثورات الشفاهية” يحاول “فانسينا” أن يجد الحل لهذه الإشكالية. فقد كان باعتباره مؤرخًا متمرنًا وأنثروبولوجيًا مدربًا، مهتمًا أيضًا بالفلكلور نظرية ومنهجًا، كما كان واعيًا تمامًا بأهمية أن يمتلك أيضًا مهارات الفلكلوري وخبراته. ومن هنا يأتي دفاعه بشدة عن أن المؤرخ يمكن أن يوظِّف المصادر الشفاهية لتحقيق أهدافه باعتبارها موثوقًا بها تمامًا مثل المصادر المكتوبة. بالإضافة إلى أنه يمكنه تمحيصها بدرجةٍ كبيرة من الدقة، وبنفس المعايير التي يمكن تطبيقها في التعامل مع النصوص المكتوبة.

جانب من الفلكلور المصري

كما أدى التداخل بين التاريخ والفلكلور إلى طرح السؤال التقليدي الذي طالما شغل المؤرخ: متى يبدأ التاريخ؟ وكانت الإجابة التقليدية السهلة هي: يبدأ التاريخ عندما يبدأ الإنسان في “التأريخ” أى كتابة تاريخه، مما أدى إلى تقديس “المكتوب” مهما كان صورة هذا المكتوب ومضمونه. وأدى ذلك إلى صك عدد من المسلمات والتعبيرات الجاهزة مثل “التاريخ يبدأ عندما يبدأ الناس الكتابة” أو “التاريخ هو المصادر المكتوبة”. مع أن هذه المادة المكتوبة كانت في الأصل ركامًا من التراث الشفاهي لتاريخ ومعتقدات أمة، ثم بدأ في كتابتها على مراحلٍ مختلفة. فلماذا نوسم الشفاهية بعدم العلمية وعدم التاريخية، بينما نسبغ صفات العلمية والتاريخية على المصادر المكتوبة بينما أصلها شفاهي؟!

الأساس ليس في طبيعة المادة التاريخية، وإنما في قدرات المؤرخ ومناهجه في التعامل مع هذه المادة أيًا كانت طبيعتها

أهمية الفلكلور كمادة تاريخية

جانب من الفلكلور

وفي محاولةٍ لبيان أهمية الفلكلور كمادة تاريخية رأى البعض “أن المؤرخ الذي يستخدم المأثورات الشفاهية ليس في وضعٍ يختلف كثيرًا عن وضع المؤرخ الذي يستعين بأخبار العصور الوسطى أو الأخبار المتناقلة من خلال جمهور أجيال من الناسخين تتفاوت مستويات ثقافتهم وتخصصهم وأمانتهم العلمية”، مشيرًا هنا إلى أن الحوليات والمدونات التاريخية قد تعرضت هي الأخرى إلى عمليات تغيير وحذف وإضافة على مر العصور، تركت تأثيرها الملحوظ حول “مصداقية” المادة التاريخية، ودفعت المؤرخين إلى إجراء عملية “تحقيق النصوص” من خلال إجراء عمليات مقارنة وبحث بين النسخ المختلفة للنص التاريخى الواحد، وصولًا إلى النسخة الأصلية، أو إلى أقرب النسخ مصداقية إلى النسخة الأصلية التي لم يتم العثور عليها. مما يوضح أن الأساس هنا ليس في طبيعة المادة التاريخية، وإنما في قدرات المؤرخ ومناهجه في التعامل مع هذه المادة أيًا كانت طبيعتها.

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *