وأنا كان إيه اللي رماني على كاتب مجنون زي ده؟!.. الأرواح متشعلقة في برزخ عجيب مستنية تجمع خطاياها من تاريخها وإلا مش هتطول جنة ولا نار وهتفضل زي البيت الوقف كده بين السما والأرض.. الله يسامحك يا محسن يا يونس.. إبداع صافي ويحير.
مطبوع أم مصنوع؟
انشغل العرب بفكرة الطبع والصنعة في الشعر؛ ففرقوا بين شاعر مطبوع ذي موهبة أصيلة كأنما هي فطرة جُبِل عليها، فيأتي شعره مؤثرا قوي العبارة حيوي التصوير، وشاعر آخر مصنوع يملك الحرفة لكن شيئا في كتابته منقوص؛ كأنما الروح قد فارقت جسدا جميلا، وفي الأحوال كلها يبقى أمر الطبع والصنعة مفتوحا للتأويل، مع احتفاظه بشيء غامض يشعره القارئ ويعجز دونه الناقد إلا أن يقول هذا مطبوع وذا مصنوع.
يوجد في السرد أمر يشبه ذلك كثيرا، فبإمكانك أن تصف ساردا بالمطبوع وآخر بأنه مصنوع. هل التفرقة يمكن أن تصبح علمية بمنطق النظرية السردية؟ لا أدري، لكن البحث لن يضير حول هذه الفكرة، حتى إن تم نفيها. ما يعنيني هنا هو أمر يتصل بكيفية تشكل العالم أمام عيني السارد المطبوع؛ ذلك الذي تكاتفت ملايين التفاصيل على آلة الإدراك لديه منذ طفولته، لتجعله قادرا على رؤية العالم والأشخاص وذاته جميعا في صورة سرود متحركة ومدهشة. ثم إنه عبر طاقة خيال ضخمة يجعل من حواسه بوابة لعوالم مدهشة تتشكل سردا بالتحديد، فكأنما هو صانع أساطير يجدها دونما جهد سوى أن يصرف خياله إلى الحكاية التي تتشكل أمام عينيه، أو كأنما هو من صناع ألف ليلة وليلة الكبار الذين لا نعرفهم لكننا نرى في آثارهم عوالم سرد مبهرة.
محسن يونس.. سارد مطبوع!
ما سبق هو وصف دقيق لما أشعره حين أبدأ في قراءة إحدى روايات المبدع المصري الكبير محسن يونس. لكن ما سبق أيضا ليس سوى العنصر الأساس، وليس الوحيد لصناعة رواية مميزة وذات قيمة.
محسن يونس سارد مطبوع بالمعنى السابق، وهو إلى ذلك صاحب وعي ثقافي/تاريخي كبير يجعل من صناعة السرد لديه أمرا ممتعا له وللقارئ والناقد جميعا. لكن هل ينفصل هذا الوعي الثقافي/التاريخي الكبير عن فكرة السارد المطبوع؟ لا أحسب ذلك، فالإلمام بالتاريخ والقدرة العميقة على فهم الثقافة القومية هما من مكونات ملكة السرد لدى محسن يونس، وهو ما لا ينفي الجهد اللازم بحثا وتنقيبا كي يكتمل النص كما نجد في روايات: حرامي الحلة، ما تبقى من بدايات بعيدة، خرائط التماسيح.. على سبيل المثال.
خصائص فردية وثقافية
هناك شيء غامض في كيف يبدأ محسن يونس الرواية، وكيف يصنع مشهدا/سؤالا يخترق عقل القارئ ليأسره منذ الصفحات الأولى. لنا أن نفكر في خصائص فردية وثقافية في الوقت نفسه: محسن يونس سارد مطبوع بالمعنى السابق وهو متفهم بعمق لثقافته المصرية، التي تتسم بخفة الروح والقدرة على صناعة النكتة والحدوتة، والأهم أنها ثقافة تتسم تاريخيا بدرجة نادرة من التجانس الاجتماعي الذي يجعل من تراثات الجماعات المتنوعة ضمنها ميراثا مشتركا للجميع.
بعبارة أخرى يشارك تراث الصعيد الخاص بالعادات والتقاليد والحكايات في تشكيل وعي أبناء الدلتا ودمياط والقناة والإسكندرية والعكس صحيح. لكل منطقة خصوصية ثقافية نسبية، والجميع يرث الجميع، ليتسم المجتمع المصري بحالة مسامرة سردية عميقة تظهر بوضوح في الريف والمدن الساحلية وتنحصر في القاهرة وعواصم المدن في المقاهي.
هنا تتبدى قدرة محسن يونس على صناعة السرد الواعي بثقافته من الشمال إلى الجنوب وبتفاصيل التاريخ المصري، وبروعة حالة المسامرة أيضا.
الأسطورة الصغيرة
لا ينفصل ما سبق عن موقف فكري من الثقافة وأحداثها الكبيرة. في “ما تبقى من بدايات بعيدة” يستعرض محسن يونس أصول الفساد في الثقافة المصرية، عن طريق روح صعدت من جسد صاحبها في ميدان التحرير أثناء ثورة يناير، وعلقت في برزخ بين العالمين لتستوفي إحصاء ذنوبها، ليرتد بنا السرد الخاص بعائلة زمش (رمز كل فساد) إلى العصر الأموي مستعرضا تاريخ هذه العائلة حتى وقت كتابة الرواية.
هنا يتبدى ما أحاول صياغته -بتلعثم واضح كما يبدو-:
- ملكة السرد المدهشة التي تمسك بخيوط الحكاية دونما عسف أو تحكم.
- الوعي العميق بتاريخ الثقافة المصرية في تقاطعاتها العربية.
- القدرة على فهم وتحليل اللحظة التاريخية الراهنة.
يتساند كل ما سبق بتناغم ليصنع ما يشبه الأسطورة الصغيرة، التي تفسر الواقع، وتدفع بالقارئ إلى عوالم خيالية فانتازية مدهشة في الوقت نفسه.
لطمة مدهشة
يتضح الأمر ذاته في رواية “حرامي الحلة” التي تتعرض لشخصية إشكالية في التاريخ المصري المعاصر، هي شخصية الرئيس الأسبق محمد نجيب، حيث تتجلى القدرة السردية على صياغة أحداث هي إلى الأساطير أقرب؛ في لا منطقيتها وقدرتها على التفسير جميعا.
تتجلى القدرة السردية، التي أصفها بأنها ملكة أو طبع، بوضوح في مداخل الروايات التي تشبه لطمة مدهشة وممتعة لعقل في حالة الاسترخاء العادية التي تسكننا. سيشعر القارئ أن عقله كان خاملا قبل أن يدخل إلى عوالم محسن يونس. تأتي الروايات بعد ذلك لتكمل حالة الدهشة والتساؤل التي تمنحها البدايات، ولتمنع العقل من العودة إلى سكونه القديم بسرعة.
دعونا نتأمل مدخل “خرائط التماسيح”، حيث يعود الثري من رحلة صيد فاشلة كالعادة، لكنه هذه المرة استطاع اصطياد قصة هي إلى الخرافة أقرب؛ حيث شاهد مركب صيد “تعلو فوق نافورة من مياه البحر بمقدار سبعة أمتار أو أكثر … وأن من فيها من بحارة صيادين كانوا معلقين بأجسادهم كموتى على حاجز المركب”. (خرائط التماسيح، مركز الأهرام للنشر، ص ٥)
ثم يكتمل العالم الأسطوري بتدخل العفاريت التي نقلت المقهى الذي يجلسون عليه في بلدتهم إلى سطح المركب، حيث يتمكن البحارة من إلقاء القبض على أحد العفاريت.
لا تحاول هذه القراءة عرض الرواية أو تأويل أحداثها، لاستخراج رسالة محتملة يمكن صنعها مع التقدم في القراءة، بل الهدف هو فهم الإبداع في التقنية التي يستخدمها محسن يونس لصنع عوالم أسطورية يطلب منك أن تتعامل معها بوصفها حقائق، فيصفع عقلك أو يخرجه من منطقة راحته طوال عملية القراءة، تاركا الكثير من الأسئلة المضمرة والصريحة بعد الانتهاء منها.
يفعل محسن يونس ذلك بقدرة سردية مطبوعة متشربة لثقافتها، ولها وجهة نظر واضحة فيها، ولذا سنجد لغة السرد عنده أقرب في منطق تركيبها إلى العامية المصرية بكل ما فيها من إيحاءات ثرية.