نصحتني طبيبتي النفسية عندما تعصف بي أفكاري المحبطة وأبدأ في الوقوع في حفرتي السوداء ودوامات التيه التي تضربني لأسابيع طويلة، أن أشغل حواسي الخمس، وأستدعي مخي فورًا لإنقاذه من طواحين الأفكار، وأن أعلن هدنة بمساعدة حواسي الحاضرة في تلك الحرب الخاسرة.
تقول لي إن تنبيه الحواس الخمس يجعل الذهن حاضرًا في اللحظة الحالية، فلا ينشغل بمستقبل ولا يتشتت بماضي، فقط هنا والآن. وتلك هي إحدى النظريات الشهيرة في العلاج النفسي وأحد الحلول الطارئة التي تجعلنا نتعامل مع مشاعرنا المؤلمة ونوبات الاكتئاب والقلق بأقل الخسائر الممكنة! فبدلا من الشعور بالعجز والأسى غير المحتمل، نعيش تجربة حسية تنتشلنا من ذلك الظلام.
في كل مرة أنفذ فيها تلك التعليمات أجد صعوبة في التركيز وحصر الأشياء، وأحيانا تكون أفكاري أكثر قوة وإلحاحا وأتشتت لدرجة أنني لا أنجح في تنفيذ التمرين لآخره. ولكن الأمر نجح أخيرا في زيارتي الأخيرة لأسوان منذ عدة أشهر.
خدعة الخمس حواس لتنبيه العقل إلى اللحظة الحالية هي خدعة شهيرة في علم النفس. نصحتني طبيبتي النفسية بها، وفي زيارتي لأسوان جربتها!
حاسة البصر
بحسب نصائح طبيبتي، عندما أعاني من نوبة قلق وتتسارع الأفكار في رأسي، أنظر حولي وأحسب عدد الأشياء والأماكن الملونة، أنظر في محيطي وأستخرج خمسة أشياء باللون الأحمر ومثلهم بالأزرق ومثلهم بالأصفر، وهكذا.
في أسوان، الأمر كان أكثر سهولة فالألوان في كل مكان أينما ذهبت؛ لون النيل الأزرق، لون بشرة أهل المدينة السمراء اللامعة، ألوان التوابل في الأسواق، المشغولات اليدوية التي تخطف أنظاري دائما، والجرجار* بألوانه الزاهية، وجلابيات الرجال البيضاء، وأيضا البيوت المحلية في مدينة غرب سهيل التي تتناثر فوق سفح رملي غرب نهر النيل، وتتميز بألوانها المتعددة وزخارفها الفنية الشهيرة من الخارج. أما من الداخل فيطغى لون الرمل الأصفر في الأرض ولون الجدران الزرقاء التي تتماشى مع لون السماء فتشعر بالبراح وكأنك لست بين أربعة جدران؛ فأهل النوبة نظرا لارتباطهم بالأرض وبيئتهم الأصلية -النوبة القديمة- ابتكروا ذلك التصميم كي يشعروا أنهم مازالوا في أحضان الطبيعة.
لا يقتصر الأمر على الألوان الطبيعية فحسب، فتوزيعات الإضاءات ليلا في الأماكن الأثرية أيضا له مفعول السحر، ومن أشهرها، جبل أبو الهوا بأضوائه البرتقالية ومعبد فيلة بأضوائه التي تتنوع بين الأخضر والأحمر والأزرق أثناء عرض الصوت والضوء.
وبخلاف الألوان، حضور الذهن عن طريق إدراك تفاصيل تلك المدينة هو شيء مدهش، بدءا من منظر اصطفاف المراكب على صفحة مياة النيل، مرورا بغروب الشمس وراء النهر بألوانها الدافئة، وحتى مشهد الصخور في وسط المياة والنباتات النيلية التي تصطف على جانبي النهر، والدوامات الصغيرة التي لا تهدأ عند محمية سالوجا وغزال.
حاسة الشم
تحدثني طبيبتي دائما قائلة: “أنتِ تحبين الروائح وتجعلك هادئة.. لذا عندما يتشتت ذهنك ابحثي فورا عنها.. ما الذي يمكن أن تهبه لكي الحياة في تلك اللحظة من روائح لطيفة؟ ابحثي عن زهرة أو نبتة الريحان على نافذتك، أو استنشقي زجاجات عطرك، رائحة يود البحر إذا كنتِ في إحدى سفرياتك، أو حتى رائحة طفلك المحبب -ابن شقيقتك الرضيع- الذي ساعدك في تخطي كثير من نوبات الهلع”.
في أسوان، هنا، ثاني أفضل شيء تختبره في شوارع تلك المدينة والقري النوبية هو العطور والروائح الزكية، فهي ليست شيئا عرضيا إنما تفوح من كل مكان في أي وقت، خاصة وأن لها طبيعتها الخاصة، فالروائح الشرقية معروفة ومميزة، والغربية أيضا، ولكن روائح النوبة أكثر تميزًا ويمكن معرفتها بلا مجهود يذكر، فهي تجمع بين قوة العطور الشرقية وسحر العطور الغربية.
وتكتمل تلك التجربة بالتخيل أن المصريين قبل آلالاف السنوات كانوا يتعطرون بها.
من الروائح المميزة المنتشرة هناك، روائح البخور الذي يتنوع ما بين خشب الصندل المخلوط بمادة عطرية دافئة، وبخور لبان الدكر، إضافة إلى رائحة الهيل (الحبهان) والقرنفل في القهوة، والزنجبيل في مشروب الجبنة**. كذلك روائح القرفة والحنة والمسك والبهارات التي تفوح من محلات العطارة، والمخمريات والعطور الأسوانية ورائحة الدلكة التي يعود أصل استخدامها وصناعتها إلى نساء السودان.
حاسة السمع
يمكنك الضغط هنا وتشغيل بعض الموسيقى النوبية مع متابعة قراءة المقال
الحاسة الثالثة التي يجب أن أستدعيها كما نصحتني طبيبتي هي السمع. أن أركز في الأصوات من حولي وأترك أصوات أفكاري المزعجة.
وفي أسوان، الموسيقى في كل مكان، وتتميز هي أيضا بخصوصية شديدة، فالتراث النوبي الموسيقي ضارب في القدم، فجلسات السمر فى النوبة القديمة كانت لا تكتمل إلا بالغناء والضرب على الدفوف إضافة إلى الرقص النوبي المبهج والمعروف بضربات الكفوف والأقدام والتمايل على إيقاع الألحان الحماسي.
حالة تكتمل بصوت منير وأحمد منيب ومحمد حمام وخضر العطار وعلي كوبان ومحمود الشرقاوي وغيرهم، الذين يتغنون بأغاني نوبية نابضة بالحياة والحب وكثير من الشجن. تشعر وكأن الموسيقى مستوحاة من أصوات النيل وحفيف سعف النخيل وصوت أهل النوبة العذب وهمس التماسيح التي كانت تنتشر في النهر قبل إقامة السد العالي.
لسماع أغنية أخرى من تراث النوبة اضغط هنا
حاسة التذوق
الحاسة الرابعة التي يجب تنبيهها.. وفي أسوان هناك الكثير لتذوقه!.
أول مرة أزور فيها المدينة السمراء كانت قبل سنوات، حينها تذوقت كوبا من الشاي في جزيرة أسوان بأحد البيوت المحلية هناك، وبعد أول رشفة فتحت دفتر يومياتي مسرعة لأكتب: “قاوموا حزنكم بالشاي ففيه شفاء للقلوب!”.. طعم الحبهان مع أوراق الشاي المغلية لا يقاوم برغم أنني كنت لا أحب الشاي من الأساس.
المشروبات المحلية في تلك المدينة متنوعة وتناسب جميع الأذواق، فمحبو الشاي سيجدون ضالتهم، وعاشقو القهوة سيجدون أنواعًا مختلفة أكثر مما يتخيلون؛ فهناك القهوة السودانية وهي قهوة مغلية “من غير وش” تقدم في أكواب صغيرة، يحتاج ذلك النوع إلى حبوب بن محمصة أكثر من البن المستخدم في القهوة التركية، وتُطحن طحنة خشنة وتضاف إليها نكهات أساسية كالزنجبيل والحبهان والقرفة والقرنفل بحسب ذوق الشخص، ويمكن أن تقدم بلا نكهات، وتختلف عن مشروب الجبنة في كمية الجنزبيل المضافة، فالجبنة يوضع بها كمية أكبر ولا تقدم القهوة بدونها. بجانب القهوة هناك أيضا الكركديه بنوعيه البارد والساخن بالإضافات المميزة لأهل أسوان.
أما الطعام الأسواني فهناك الكثير من الأصناف اللذيذة والتراثية التي تقدم هناك كالجاكود والإتر.
حاسة اللمس
الحاسة الأخيرة التي يجب أن أنبهها مع الحواس الأربع الأخرى من أجل أن أصبح أفضل هي اللمس وتنبيه إحساس الجلد، فمن برودة مياة النيل إلى سخونة كوب القهوة، ومن نعومة ملمس التوابل أو جلد الدفوف إلى خشونة حراشيف التماسيح الصغيرة التي يربيها كثير من أهل أسوان أو خشونة الرمال.
كذلك لا أنسى ملمس حدة الصخور المتناثرة هناك وهناك سواء في مياة النيل أو بالأماكن الأثرية، وملمس التطريزات البارزة للملابس وخيوط الصوف للقبعات الملونة وخرزات الخشب والأحجار بالمشغولات اليدوية، وجفاف حبات الكركديه والدوم والسوداني ولزوجة البخور المحلي.
والأبرز شعوري بملابسي القطنية التي أتلمسها كل صباح مع شروق الشمس وأنا أمنح نفسي حضنا مليئا بالحب والتقبل وأضم ذراعي حول جسمي بابتسامة هادئة أشكرني على تلك الرحلة التي أحاول فيها أن أتخلص من اكتئابي وقلقي المضطرب وأهديء من روع عقلي المحموم.