العودة إلى قريتي رغبة مؤجلة منذ سنوات، نفذتها يونيو الماضي؛ هناك لحظات لا تجدي معها الخطابات والصور. في قريتي صور حية تحتاج من يلتقطها، ومشاعر لم تكتب على ورق بعد.
يتردد صوت علي الحجار في أذني مستقبلا نسمات الهواء في الطريق إلى قريتي، “عنوان بيتنا زي ما كان.. بس إنت نسيت العنوان”. يتعجب بعض الأصدقاء من مزاجي في السماع؛ حتى الآن أستخدم التسجيل وأشرطة الكاسيت؛ أغنية على الحجار “عنوان بيتنا” سمعتها من شريط الكاسيت، أحمله بين يدي الآن وأنا أكتب لكم. من إنتاج شركة صوت الدلتا، والأغنية نفسها ضمن ألبوم “متصدقيش”، وهى من كلمات محمد البنا، وألحان خليل مصطفى. أمامي الآن على المكتب المئات من أشرطة الكاسيت، أشعر كأنها تحدثني، ليست مجرد أغنيات للسماع، إنما خطابات مرسلة إلى صاحب تلك الرحلة!
“ابعت واسأل وبلاش تتقل..
لحسن ناخد ع النسيان..
اللى اتغير قلبك انت..
عنوان بيتنا ما اتغيرشي..
وأنا بستنى شوف من إمتى..
وانت بتتقل ولا تسألشي”.
استمع إلى أغنية “عنوان بيتنا” عبر هذا الرابط
توقف سائق الميكروباص أمام مدخل قرية الحمام بمحافظة بني سويف، ترجلت الأسرة فرحة بالعودة إلى القرية. وترجلت أنا تعلوني الدهشة؛ فلم أخط أرض قريتي منذ عشر سنوات، عندما حضرت إليها مصطحبا جثمان ولدي يوسف للدفن في مقابر العائلة.
لم أتوقع العودة إلى قريتي مرة أخرى، خاصمتها سنوات، وأعود اليوم إليها معاتبا، أحذرها من تكرار الجفوة بيننا، لن أتحمل عقدا آخر من البعاد، وأصبحت في مرحلة من الألم تحتاج إلى رحيق أرض الأجداد التي تحمل بين طياتها ذكريات النشأة والطفولة!
وداد وعلي!
الخطابات هي من أعادتني إلى حضن قريتي مرة أخرى، بالتحديد خطابات الحب بين علي ووداد، فهما من أبناء محافظة بني سويف، وعرف الحب طريقه إلى قلبيهما في الخمسينيات من القرن الماضي، واشتعل الحب أكثر بعد سفر على لدراسة الصحافة في جامعة القاهرة، ليعيشا تجربة الفراق في مهد حبهما، وهكذا أنا أيضا، افترقت عن قريتي عام 2010 في نفس اللحظة التي انتهينا فيها من دفن جثمان أبي في مقابر العائلة بالمحافظة. أوصى أبي أن العزاء على المقابر. اصطففنا أنا وأخوتي نتقبل العزاء، يرمقنا الناس من بعيد وهم يحسدون الميت الذي ترك من ظهره رجالا يحملون اسم الشيخ فايز أبو متولي ابن الحاج سيد رحمه الله، لكنهم لا يعرفون أن أحد هؤلاء الرجال ينتظر اللحظة التي يرحل فيها دون عودة.
عشت الجفوة أربعة عشرة عاما حتى قرأت خطابات وداد وعلي:
“علي…
عاوزة أقولك كلام كتير خالص…
خالص… بس ظروفي مش مساعداني
على… علي… أعز اسم.. أعز حروف ينبض بها قلبي…
عاوزة أقولك أنا بحبك… بحبك…بحبك ..بحبك.. حافضل أقول
بحبك.. بحبك.. بحبك لغاية… لغاية… لأ… مش لغاية… لما أموت بس
لكن بعد الموت… بعد الحساب… بعد العذاب… بعد ما أروح الجنة
حافضل أحبك.. أحبك…”.
سنوات الخوف
أذهلتني تلك المشاعر، وأذهلني أكثر أن هناك بيننا من يهربون منها خوفا بدلا من الهروب إليها أملا. أناس مثلي أنا؛ عاشوا سنوات الخوف هربا من كلمة أحبك، أصبحت ألقي بها يمينا ويسارا في المكان الخطأ، زاهدا في وضعها ولو مرة واحدة في مكانها الصحيح، مثل أن أزور قبر أبي وأخبره كم أحببته.
آلمني أبي كثيرا، ظن أن الحب هو الضرب عند الخطأ، والضرب بشكل أعنف مع تكرار الخطأ. بمرور الوقت أصبحت السلطة المتمثلة في أبي هي صورة كل سلطة لا ترى سوى العنف سبيلا للتعبير عن الاهتمام، سلطة المدرس، أو سلطة المسؤول، وحتى سلطة الحاكم!
في الطريق داخل القرية أوقفني رجل في العقد السادس مازحا: “إنت أكيد سامح فايز سيد متولي رشوان”، ذكر إسمي حتى الجد الثالث بكل سهولة، اختفت ابتسامته سريعا عندما ظهر على وجهي أنني لا أعرفه، قال معاتبا: “أنا ابن عم والدك وصاحب طفولته، أنا ابقى عمك!”. ازددت إحراجا وحاولت معالجة الموقف فأخبرته أن أبي كان يستمتع بقص حكاياته مع أصدقاء الطفولة في اجتماعات الأسرة، بيد أن الرجل لم يفهم سوى أننى أجهله!
أكملت السير بصحبة ابن خالي الأكبر، وهو أزهري مثل بقية إخوته، تخرجوا جميعا قي كليات بجامعة الأزهر، بين القانون والدعوة والتربية والعلوم. أحدهم أصبح معيدا بجامعة بني سويف، لكن لا أحد منهم اختار العمل في زراعة الأرض، وحتى الآن يزرعها خالي وقد جاوز الخمسين، لكنه لا يعرف سبيلا إلا الأرض، يتحدث عنها كأنه يتحدث عن حبيبته، حتى عندما حاول الهجرة إلى القاهرة مثل الكثيرين من أقرانه قبل عقدين لم يجلس في القاهرة سوى بضعة ساعات، دخلوا عليه غرفته وهو مغرق في البكاء صمتا، يبكي ولا يتكلم، يبكي كالأطفال. في المساء عادوا إلى القرية خوفا عليه، ومنذ عاد وهو يضحك، حتى في أحلك المواقف، وأصعب اللحظات، يقابلها بالحمد، يقول: “الحمد الله إحنا أحسن من غيرنا”.
كان خالي يعاتبني بسبب تركي للصلاة، كلما راح إلى المسجد أو غدا يسألني لماذا لا أصحبهم إلى المسجد، فأرد: “ادعيلي بالهداية”، حتى كانت زيارتي تلك، فور أن دخلت المنزل الذي شهد طفولتي نادى المؤذن فقام الجميع للصلاة فقمت معهم، كنت كمثل من يبحث عن شيء ضاع منه وينقب في كل شبر من حوله، ربما وجدته هناك في المسجد، أو في منزل العائلة الذي ظل على هيئته لم يتغير – إلا بعض الدهانات الخفيفة – أو في الطرقات داخل القرية، أو في الطريق إلى الأرض ومجاورتها وتنسم هوائها وقت الغروب!
في المسجد وجدت ساعته معطلة، انتبهت إليها قبل إقامة الصلاة، توقفت الساعة عند تاريخ 10 يونيو 2024، وكان المفترض أن تكون على تاريخ اليوم 17 يونيو 2024، أدركت سريعا أن الساعة متوقفة على تاريخ وفاة يوسف سامح، أصابتني رعشة، هي مؤكد صدفة، لكنها صدفة كأنها العتاب، كأن التاريخ توقف منذ اللحظة التي انقطعت فيها عن زيارة عائلتي، وقريتي. أعلم أننى أعطي التفاصيل أكثر من حجمها في بعض الأحيان، لكنني في أشد الاحتياج ولو إلى ضوء خفيف يرشدني، حتى لو لم يأتي سأصنعه، أو ربما أتصنع حدوثه، وسأنسى أنني تخيلت، أو أتناسي.
لم تتغير قريتي كثيرا، فقط بضعة بيوت في مدخل القرية أخذت طابع المدينة، وظهر البذخ في البناء، وأصبح مدخل القرية أكثر ضيقا بعد أن كان رحبا واسعا يستقبلنا بالهواء الذي تطير معه ملابسنا فلا نستطيع التحكم فيها. الآن صار شارعا مثل تلك التي نراها في القاهرة، بضيقها الذي تضيق معه صدورنا، لكن تظل الأرض الشاسعة خلف تلك البيوت موجودة، والحمد لله أنها على حالها، وأن هناك قوانين تقنن عملية البناء وإلا اختفت قريتي كما اختفى كل شيء مؤخرا، فنصبح بلا حب ولا هواء ولا صلاة ولا أرض، فقط بيوت إسمنتية بواجهات سيئة، مع شوارع ضيقة ضيق صدورنا من القاهرة التي خرجنا منها هربا!