أحدث الحكايا

أشرف عبد الشافي يحكي: ماذا فعلتِ في الأحدب يا شهرزاد؟

وطالما أن هناك (شهرزاد) فسيكون للكلام معنى، وأنا بشكل شخصى لا أعرف طريقا للكتابة إلا بتخيلها وهى تقرأ كلماتى، مثلما تجيد -أنت- الحكى واستعراض خفة دمك كلما كانت حاضرة بعيونها وضحكتها وسحر وجودها الذى يجعلنا نحن الرجال نفرز هرمونات السعادة قبل أن نغرق فى بحور النكد التى نذهب إليها طائعين ضاحكين مستبشرين.

نعم تستطيع الأنثى الشهرزادية أن تسرقنا من الواقع لتأخذنا إلى أجمل هلاك قادم لا محالة!، فالمصائر كلها تكون ماثلة أمامنا ونرى قيس بن الملوح وقد مضى إلى الصحراء هائما ممصوصا، ونرى بطل ماركيز فى عز (زمن الكوليرا) يشترى المرآة التى انعكست عليها صورة حبيبته ذات يوم وينتظرها نصف قرن!، ونرى بطل عبد الرحمن منيف فى رواية (قصة حب مجوسية) يتحدث إلى الناس فى الشوارع عن (ليليان) التى يحبها وهى لا تشعر بوجوده: “لا أطلب منكم الرحمة ولا أريد عطفكم فأنا لست متسولا مسكينًا، كما لا أعتبر نفسى لصًا أو قاطع طريق، ومع ذلك فإن لي مشكلة ومشكلتي دون كلمات كبيرة أن الألم يعتصر قلبي”.

هل المشاعر التى انتابت (الأحدب) هى نفسها التى تنتابنا نحن (البلهاء)؟!، ربما! لا أحد يعرف صدقنى، حتى أولئك الذين كتبوا كل هذه المجلدات لا يعرفون ماذا تصنع كل شهرزاد بشهريارها!

ونرى الأستاذ كامل الشناوى يلطم خديه الممتلئين ويضرب قلبه بقبضة يده “لست قلبى.. وإنما أنت قلبها”. ونرى جونى ديب وهو مهزوم ويُهان فى المحاكم وتنكسر صورته، ومع ذلك نمضى قدما نحو مجهول فى أى مرحلة من حياتنا!

ماذا يحدث لنا يا شهرزاد كلما هلت أنوارك حتى ولو كانت كاذبة ممُهلكة؟!

كامل الشناوي، جابريل جارسيا ماركيز، عبد الرحمن منيف

الأحدب والبُلَهاء

في غرفة صغيرة أعلى كاتدرائية ضخمة عاش مخلوق دميم المنظر، ضخم الجثة بالقرب من فتاة جميلة. كان هو لقيطًا مشوهًا جاءوا به إلى كنيسة نوتردام فعزلوه بعيدًا عن الناس حتى لا يثير الرعب في قلوبهم بخلقته الغريبة المخيفة. وكانت هي فتاة رقيقة هاربة من جريمة لم ترتكبها، وبنظرة حانية واحدة منها وهي تقدم إليه جرعة ماء هام قلبه بها عشقًا وهيامًا. وتخلصت هي من خوفها وأصبحا قصة خلدها الروائي الفرنسي فيكتور هوجو في روايته العظيمة “أحدب نوتردام”.

نسى الأحدب عاهته وانطلقت مشاعره المحبوسة بين جوانحه بنظرة حانية واحدة من أنثى!، هل المشاعر التى انتابت (الأحدب) هى نفسها التى تنتابنا نحن (البلهاء)؟!، ربما! لا أحد يعرف صدقنى، حتى أولئك الذين كتبوا كل هذه المجلدات لا يعرفون ماذا تصنع كل شهرزاد بشهريارها!.

The Hunchback of Notre-Dame. - Raptis Rare Books | Fine Rare and Antiquarian First Edition Books for Sale
النسخة الأولى من رواية أحدب نوتردام لفيكتور هوجو
أنتوني كوين وأماندا ولوبريجيدا في فيلم أحدب نوتردام – 1956

الإمام والشقراء

الفقيه والإمام ابن حزم الأندلسى كتب طوق الحمامة الذى أصبح أهم مرجع عربى فى فنون الحب والهوى، لكنه هو الآخر سقط فى غرام جارية شقراء وكانت تكبره بسنوات فظل يطارد خيالها فى كل ما عرف من النساء فيما بعد، وعندما يتحدث فى (طوق الحمامة) عمن “أحب صفةً فى المحبوب ولم يستحسن بعدها غيرها”، يتخذ من قصته مع جارية شقراء تسمى (نُعم) مثالاً لذلك، ويكتب فصلاً رائقاً واستثنائياً فى الاعتراف بالعشق، يصعب أن تجده فى كل كتب التراث من حيث الجرأة واللغة، فانظر ماذا كتب الفقيه الكبير وصاحب مدرسة فقهية مؤثرة فى التاريخ الإسلامى عن الشقراء:

“دعنى أخبرك أني أحببت فى صباى جارية لى شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، وإنى لأجد هذا فى أصل تركيبتى ولا تؤاتينى نفسى على سواه ولا تحب غيره البتة. دعنى أخبرك أنى كنت أشد الناس كلفا وأعظمهم حبا بجارية لى كانت فيما خلا اسمها نُعْم. وكانت أمنية المتمنى وغاية الحسن خَلقا وخُلقا، وموافقة لى وكنا قد تكافئنا المودة ففجعتنى بها الأقدار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسنى حين وفاتها دون العشرين سنة وكانت هى دونى فى السن. فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابى ولا تفتر لى دمعة على جمود عينى، فوالله ما سلوت حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك وببعض أعضاء جسمى العزيزة على مسارعا طائعا. وما طاب لى عيش بعدها ولا نسيت ذكراها ولا أنست بسواها”.

طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف | علي بن حزم الأندلسي | مؤسسة هنداوي
غلاف كتاب “طوق الحمامة” للإمام ابن حزم الأندلسي

ماذا تفعل كل شهرزاد بكل أحدب؟

هل رأيت الإمام الفقيه وقد أصبح على هذا الحال؟ وهل يجوز أن نسأل بعد ذلك ماذا تفعل كل شهرزاد بكل أحدب؟، ستظل يا عزيزى -أنت وأنا- بقايا آدم الغلبان الذى بحث عنها بعد طردهما من الجنة وصعد الجبال والتلال حتى وجدها، وتحكى قصص السابقين أنه نزل بالهند ونزلتْ هى فى “جدة” والتقيا بجبل عرفات الذى سُمى كذلك لتعارفهما مجدداً عليه. وسيظل فى كل واحد منّا جزءًا من (إبراهيم) أبو الأنبياء الذى أحب سارة ثمانين عاماً ولم يتزوج (هاجر) إلا بموافقتها ورضاها قبل أن تنقلب عليه وعلى هاجر بعد إنجاب إسماعيل.

وحين اقتربت ساعة رحيل نبى الإسلام محمد بن عبد الله صلوات ربى وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى طلب من زوجاته أن يمكث ساعة احتضاره في بيت عائشة ليموت بين سحرها ونحرها، فأين نحن البلهاء من كل هؤلاء العظماء الذين سبقونا؟

 

عن أشرف عبد الشافي

روائي وكاتب صحفي بمؤسسة الأهرام، له العديد من الكتب الأدبية والصحفية مثل: روايات (ودع هواك، أصابع حبيبتى، توأم الشعلة)، ومجموعة قصصية (منظر جانبى)، وكتب: (المثقفون وكرة القدم، صلاة الجمعة، البغاء الصحفى، فودكا، يا جميل يا اللى هنا، أن تحب فى العشرين).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *