ذهبت لمسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية لمشاهدة العرض المسرحي “الأرتيست” الذي تتوسط بوستره الدعائي الممثلة هايدي عبد الخالق تجسد شخصية الراحلة زينات صدقي، وفي أقصى اليسار على البوستر نفسه توقيع من مخرجه ومؤلفه محمد زكي.
تساءلت كثيرًا قبل المشاهدة، لماذا زينات صدقي؟ وما الجديد عنها اليوم ليقدمه المسرح؟ لأجد الإجابات على الخشبة، يبدأ المخرج بالليلة السابقة لتكريمها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فرحة موجوعة ضائعة وباحثة عن فستان لتحضر به الحفل لكنها لم تجده أبدًا!
فخبر التكريم جاء بعد سنوات عديدة تخلت فيها عن ملابسها مودعة الفن الذي تناساها حية، ثم زبتكنيك سينوغرافي من خزانة/دولاب تتوسط عمق الخشبة تبحث فيها زينات عن فستان للتكريم، تسبح داخل عوالمها وأزمنتها وفساتينها السابقة، تتأرجح من وقت هروبها من منزل أهلها، وبدايات عملها بالمسارح، وترى صديقتها القديمة، وتتذكر علاقتها بشقيقها، وغيرها من الشخصيات، كل منهم تقابله بفستان.. تلك الموتيفة التي طوعها المخرج بمساعدة الاستايلست لتكون خير اختيار للتنقل وعبور الأزمنة، وإعطاء دلالة واضحة لفقدان الزمن بفقدان كافة الفساتين التي لم تعد موجودة إلا فقط في ذاكرة زينات، ولكن!
أين زينات؟
على الرغم من استعادة المخرج واقعة حقيقية في حياة زينات “تكريم الرئيس لها” فإن أغلب الأحداث الموجودة في الأزمنة التي تتنقل بينها الشخصية ما هي إلا ومضات سريعة من حياتها طوعها المخرج كي يقدم من خلالها أفكاره ورؤيته الخاصة عن “الفن”؛ من خلال اتخاذه عنصر الملابس الضائع في حاضرها والمتواجد بكثرة في ماضيها رمزا لذلك “الفن”؛ ليس في حياة زينات، بل في حياة أي فنان، بصفته عباءة يرتديها المبدع ويتشبث بها ومع الوقت تتركه فيظل باحثًا عنها بداخله.
ويتضح ذلك التأويل بقوة في اختيار تجسيد شخصية “الخياط” الذي كان يصمم الفساتين للشخصية البطلة قديمًا، وحديثه عن حبه لعمله، واعتباره فنا حقيقيا، وحديثه عن ماهية القماش وماهية الملابس والتعبير عنها بصفتها التصاقا حقيقيا بالجسد والروح، في تضافر قوي مع أهمية الملابس بالعرض كاملًا كعنصر جمالي ودرامي قوي، وصولًا للتأويل المراد عن الفن المفقود اليوم في حاضر زينات الذي نحضره معها في صالة العرض، باحثة عن الفستان أو ربما باحثة عن الفن المفقود وتقديره المستحق.
وضاعت زينات!
ولكن وفي خضم عرض الأفكار عن الفن وحب الفن وغدر الفن بأصحابه، وعن إلى أي مدى من الممكن أن يتمسك الفنان بفنه في مقابل خسائر أخرى كبيرة. وما بين ظهور هذه المفاهيم والأزمنة وفساتين زينات، ضاعت زينات!
صحيح أن في كل مشهد وكل بداية ربما تشتبك مع موقف فعلي تعرضت له زينات صدقي من تكريم وهروب، وصحيح أن هناك تجسيدا متمكنا من الممثلة هايدي عبدالخالق، لكن شخصية زينات بصفتها “شخصية سينمائية شهيرة” أو بصفتها الآن “شخصية مسرحية” لم تحمل أبعادا كافية تسمح للممثلة بأداء به حرية مطلقة، لأنها تحمل على عاتقها مفاهيم أكثر مما تحمل من أبعاد شخصية.
ولذا طرحت على نفسي سؤالا أثناء المشاهدة، بما أن العرض المسرحي يهتم بالأساس بطرح إشكاليات واشتباكات حول الفنون، لماذا اختار زينات صدقي تحديدا إذن؟
ثم توالت الأسئلة في رأسي وسبحت أيضًا بين عروض وعوالم وسنوات أخرى ماضية، تماما كما تفعل البطلة في عرضنا، في محاولة للبحث عن إجابة للسؤال السابق.
أما الإجابة التي توصلت إليها فكانت من خلال كل ما شاهدته مسبقًا من عروض مسرحية بخلاف “الأرتيست”، وهي أن أهم ما يلجأ إليه مسرحنا اليوم هو “الاتكاء على النوستالجيا” فزينات ممثلة قديمة من أفلام الأبيض والأسود وهذا أولًا، أما عن ثانيًا وثالثًا ورابعًا فهي ممثلة أدوار ثانية ليست بطلة، ماتت فقيرة -أي متسقة مع أفكار غدر الفن وهكذا- ولم يكن بداخل أي شخص من المتفرجين سواء اليوم أو أمس أي موقف سياسي كان، أو أخلاقي، أو حتى فني، فربما لو تم اختيار بطل أو بطلة لظهرت مواقف من المناداة بعدم الأحقية في البطولة مثال إسماعيل يس، أو ممثلة إغراء مثل هند رستم، أو ممثلة ثرية مثل فاتن حمامة، لربما ظهر موقف عدائي منها، لذا وقع الاختيار على مواصفات ممثلة لا موقف منها لضمان النجاح، ولكن هل كان الأمر سيختلف إذا وقع الاختيار على وداد حمدي أو ماري منيب أو أي ممثلة أخرى لديها ملامح من شخصية زينات، بالتأكيد لا. كان من الممكن تطويع مفاهيم المؤلف كافة مع أي منهن أيضًا، لذا لم تظهر زينات كزينات داخل العرض.
وما العيب؟!
ثم تراجعت وتساءلت مجددًا وهل هذا عيب، أن يستخدم المبدع زمنا أو شخصية من الماضي لتناول قضايا حالية سواء بنوع من أنواع التحايل الرقابي أو حتى الجماهيري؟ بالتأكيد مجددًا لا، ولا ننسى حبنا الدائم لذكاء علي سالم في مسرحيته “إنت اللي قتلت الوحش” وتطويع أسطورة أوديب لمخاطبة ديكتاتورية نظام كامل.
إذن ما الأزمة؟ الأزمة تكمن دائمًا في اتباع الحيل أو التحايل نفسه بنفس المنهج، ينجح من ينجح بها ويقع في فخها من يقع، فنصل إلى أن مسرحنا اليوم لا يناقش إلا قضايا وشخصيات قديمة، وحين يريد أن يناقش عصره يدينه ويتنصل منه.
محاولات إعطاء التقليد قيمة وهدف ورسالة
“الأرتيست” يصدّر زينات بينما يتناول مفاهيم أخرى تخص اليوم، مستغلًا اسم زينات للتسويق والدعاية وحب الناس للزمن الماضي الذي نعتوه دون مبرر واضح بـ”الجميل”، أي استخدام متكرر لحيلة متكررة، ومنها في خزانة ذاكرتي المشابه لخزانة زينات -راجية من الله ألا أقع في الفخ نفسه- تذكرت أنه منذ حوالي أربع سنوات وربما أكثر تقريبًا شاهدت العرض المسرحي “سينما مصر” للمخرج خالد جلال، شارحًا فيه قبل البدء أنه يحاول أن يبحث عن تاريخ السينما المفقود، مستعينًا بفيلم “الليلة الأخيرة” لفاتن حمامة الفاقدة فيه لذاكرتها ومحاولة استعادتها بنفسها من جديد، ليقدم عرضَا مسرحيًا ما هو إلا “اسكتشات تقليد” لشباب موهوب للغاية قدموا مشاهد عالقة في أذهان الجميع من أفلام الأبيض والأسود وحتى الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية، ولم يتضح المقصد الذي أراده المخرج، بالبحث في ذاكرة السينما أو بالتمسك بالماضي لاستعادة الحاضر أو شيء من هذا القبيل.
كما أنه استغرق وقتا كبيرا في البداية لشرح مراده قبل بدء العرض، وكأنه يحاول تقديم مبرر لتجميع هذه الاسكتشات المُقلدة بدقة، وهي بالنهاية ما هي إلا تقليد محترف، ويحسب له تدريب الممثلين عليه واختيار مشاهد بعينها مهمة ومؤثرة في وجدان الجمهور ليس إلا.
أسئلة لا تنتهي
واستعادة تلي أخرى لأرى أمام عيني حال أغلب عروض السنوات الأخيرة بصفة عامة، فهي -عادة وليس دائمًا- تختار من منبعين؛ الأول هو (اختيار نصوص قديمة)، فللمسرح تاريخ عظيم من كتاب ومخرجين، ودائمًا ما أتساءل بعد كل عرض مسرحي “لماذا هذا النص تحديدًا دون غيره؟” من تكرار كبير لـ (رصد خان، جسر آرتا، دراما الشحاذين) أو حتى بخروج عن السائد والمتكرر لمسرح موسيقي استعراضي هائل لمسرحة فيلم (Moulin Rouge) أو حتى اختيار (سجن النساء) لفتحية العسال، لماذا يقع الاختيار على هذا النص تحديدًا دون غيره؟ وإلى أي مدى يشتبك معنا اليوم؟ فلماذا نلتزم في الطاحونة الحمراء بزمان وقوع الأحداث في القرن السابع عشر؟ ولماذا نناقش قضايا النساء كما قدمتها العسال عام ١٩٩٣؟ ونحن في الواقع لدينا قضايا أخرى، ولماذا لم يقع اختيارنا على نصوص حتى وإن كانت قديمة باعتبارها تتماس مع ما نحياه؟ أو حتى لماذا لم نكتب عن يومنا بكثرة، ودائمًا ما نلجأ للأقدم؟
ومن هنا يظهر المنبع الثاني: (نص جديد مغترب عن حاضره)، واستدعت لي ذاكرتي عرضا مسرحيا مؤلفا تأليفا خالصا في العام الماضي وهو عرض “شابوه”، من تأليف وإخراج الشاب أحمد محيي، قدم عصره بكل ما يحمل من أوضاع سيئة، كأضرار مواقع التواصل وتأثيرها على الفنون، ومحاولة استعادة “زمن الفن القديم” بين ثنايا عرضه، ناصفًا الشخصيات المتمسكة بالقِدم، مدينًا كل من تمسك بآليات يومه وعصره وأي فن يتبع هذا العصر، في محاولة لا تختلف مطلقًا عن البحث في تاريخ الفن القديم أو ذاكرة السينما وخلافه مما سبق.
أي أن الشباب وهو أولى بمناقشة قضاياهم وهمومهم من غيرهم يفكرون كغيرهم، والمدهش أنه فور انتهاء العرض المسرحي عاد المخرج/المؤلف/الممثل لشخصيته الحقيقية ولعصره الحقيقي، وطلب من الجمهور التسويق لعرضه عن طريق مواقع التواصل! بعد أن انفصل عن الزمن لمدة ساعة تقريبًا بعرضه ناعتًا إياها بكل ما هو قبيح ومتدنٍ.
اللوم على من؟
اللوم على من؟ على الكبار المتمسكين بأزمنة فاتت وولت، أم على الشباب الذي يعاني من تعنتات رقابية، وسلطات أبوية في الفن، ومحاولات منهم أحيانًا لإرضاء الكبار لمسايرة التيار؟
أما عن “الفن” بصفته وشخصه، فعليًا اللجوء الدائم لمداعبة الزمن الماضي لم يجد بشيء في إحياء أو إنعاش الذاكرة الحالية، ونعت الحاضر دائمًا بالسيء لم يجد في التغيير للأفضل، وإذا كان هناك عبرة حقيقية من الممكن أن نستعين بها ممن سبقونا، فهي الاهتمام أولًا بعصرهم ومغازلته وفقًا لرؤيتهم الشبابية حينها، فربما هذا هو ما جعل فنهم صاحب أصالة قوية نحيا ونتشبث ونتشدق بها إلى اليوم، لكن هذا في ذاته فخ، ويدفعنا للوقوع في الأسر، سواء أسر الماضي أو الاغتراب عن الحاضر ونسيانه، تماما كزينات صدقي التي نسيناها منذ النصف الأول من المقال تقريبًا، لأنها لم تكن موجودة بالأساس، هي فقط كانت خير افتتاحية لتقديم أفكاري، كما استغلها المخرج قبلي في عرضه لتقديم أفكاره.