كثيرة جدا هي الحكايات حول موت سميرة موسى، وقليلة جدا هي المعلومات عن حياتها وإنجازاتها، ربما لأن حياتها كانت قصيرة لم تتعد خمسة وثلاثين عاما، لكنها في تلك الأعوام القليلة قد حققت الكثير.
منذ الصغر نسمع عن أول عالمة ذرة مصرية، وأنها قد ماتت في أمريكا في أثناء رحلة علمية، وأن الموساد متورط في قتلها، مع صورة واحدة بالأبيض والأسود تستقر في الأذهان لشابة ذات ملامح مصرية خمرية ربما تشبه في ابتسامتها ليلى مراد في مطلع ظهورها على الشاشة مع تسريحة أربعيناتي، وهذا كل ما نعرفه تقريبا عنها، لكن هذا بالتأكيد غير كاف.
قدرات فذة منذ الصغر
في الثالث والعشرين من مارس في عام 1919 أعلنت مدينة زفتى استقلالها عن المملكة المصرية وإطلاق اسم جمهورية زفتى، وكان صاحب الإعلان هو المناضل المصري يوسف الجندي، وهي خطوة غير معتادة لإعلان أول جمهورية عربية لم يدم استقلالها أكثر من عدة أيام لكنه كانت تعبيرا عن مدى التأييد الشعبي لسعد زغلول.
قبل ذلك بعامين بالضبط بالتحديد في الثالث من مارس عام 1917، وعلى بعد عدة كيلومترات قليلة وبالتحديد في قرية سنبو الكبرى ولدت الفتاة سميرة موسى ابنة لأحد أعيان القرية، والذي كان يتمتع بمكانة اجتماعية تجعل منزله قبلة لأبناء القرية يجتمعون فيه.
كبرت سميرة وسط هذه الأجواء فتاة ذكية لا تهاب الاختلاط بالآخرين لكن أهم ما ميزها هو حبها الشديد للقراءة والمعرفة أيا كانت أشكالها وطرقها، فكانت معروفة وسط أشقائها الثلاثة بولعها بقراءة الصحف، وكان ذلك في أثناء دراستها الابتدائية في مدرسة سنبو الأولية، التي أتمت الدراسة فيها مع حفظ بعض أجزاء من القرآن الكريم.
لاحظ الأب المتفتح ولع ابنته بالعلم فقرر أن يساعدها في استكمال تعليمها على الوجه الأكمل وهو القرار الذي أثر على حياة الأسرة كلها، فقد باع كل ممتلكاته في سنبو وانتقل بالأسرة إلى القاهرة حيث اشترى فندقا بمنطقة الحسين لكي يستثمر به حصيلة هذا البيع.
كان الهدف الأساسي من الانتقال للقاهرة أن تحصل سميرة على تعليم بجودة عالية، حيث لم يكن متاحا في الريف التحاق الفتيات بالمدارس الثانوية في ذلك الوقت، فالتحقت سميرة بالمدرسة التي أسستها رائدة تعليم الفتيات نبوية موسى، مدرسة بنات الأشراف الثانوية.
اقرأ أيضا:
د. هيثم الحاج علي يحكي: المتعلمة الأولى والناظرة الأولى.. حكاية نبوية موسى
في تلك المدرسة اكتشفت سميرة قدراتها الفذة، ففي العام الأول وجدت أن كتاب الجبر غير مفهوم لكثير من زميلاتها فأعادت صياغته بنفسها وقامت بطباعته على نفقة أبيه ووزعته على زميلاتها، ثم اهتمت بشكل واضح بالكيمياء وعندما فكرت في الانتقال إلى مدرسة حكومية تمتلك معملا للكيمياء قامت نبوية موسى بشراء معمل للمدرسة لكي تبقى سميرة بها استشرافا لكونها من أفضل تلميذاتها.
ولم تخيب التلميذة رجاء أستاذتها فقد أنهت سميرة الشهادة الثانوية عام 1935، وكانت أول فتاة في تاريخ مصر تحصل على المركز الأول في هذه الشهادة.
تلميذة مصطفى مشرفة
كان من المتاح لسميرة الالتحاق بكلية الهندسة، لكنها ككل صاحب شغف فضلت الالتحاق بكلية العلوم، وفي الكلية التي كان عميدها في ذلك الوقت واحد من أنبغ علماء العالم في ذلك الوقت الدكتور علي مصطفى مشرفة الذي كان أول الملاحظين لنبوغ التلميذة الجديدة التي تبناها وتأثرت به على كل المستويات حتى تخرجت في عام 1939 حاصلة على المركز الأول في الكلية واستحقت التعيين كأول معيدة فتاة بالكلية، وعندما رفض الأساتذة الأجانب التعيين حمل مشرفة استقالته لرئيس الجامعة ولم يعدل عنها إلا بعد صدور قرار تعيينها.
حصلت سميرة على الماجستير بعد عامين من تخرجها في موضوع التواصل الحراري للغازات، ثم حصلت على منحة لدراسة الدكتوراه في بريطانيا لدراسة الإشعاع النووي، وبالفعل في خلال عام ونصف أنجزت الرسالة وقضت باقي العام الثاني في أبحاث متصلة استطاعت خلالها التوصل إلى طريقة لإنتاج الطاقة الذرية من المعادن الرخيصة وهي الطريقة التي لم تلق استحسان الإنجليز وقتها.
وبعد عودتها بفترة وجيزة أسهمت في عام 1948 في إنشاء هيئة الطاقة الذرية المصرية، ثم توالت الدعوات للمشاركة في المحافل والمؤتمرات العلمية لتكون بذلك واحدة من أصغر العلماء سنا في ذلك المجال، ومن تلك الدعوات الدعوة التي وصلتها من الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر عام 1951 لتقوم بزيارتها والاطلاع على آخر الأبحاث بها في مجال الطاقة الذرية.
قضية سلام تتحول لاغتيال!
وبالفعل سافرت سميرة موسى إلى أمريكا حيث قامت بجولة في جامعاتها ومعاملها، وهي الجولة التي عرض عليها فيها الجنسية الأمريكية أكثر من مرة لكنها رفضت بشدة، وأصرت على العودة لمصر لخدمة العلم بها، وهي الرحلة نفسها التي أرسلت لأبيها خلالها عدة خطابات ربما تكون هي السبب الرئيسي في مقتلها، حيث ذكرت في أحد هذه الخطابات: “لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية الأمريكية وعندما أعود سأستطيع أن أقدم لبلادي الكثير في هذا المجال وأخدم قضية السلام”.
وهو الأمر الذي جعل والدها يشرع في شراء قطعة أرض بمنطقة الهرم ليبدأ في إنشاء معمل خاص لها، غير أنها لم تعد من تلك الرحلة حيث ماتت في حادث سيارة غامض في أثناء توجهها لزيارة أحد المعامل، ربما كان هذا الحادث مدبرا بسبب ما صرحت به في خطاباتها لأبيها وبسبب معرفتها بالكثير وإصرارها على الرجوع لمصر، وهو مما يؤكد أن الحادث من تدبير الموساد التي ثبت تورطها في حوادث مماثلة فيما بعد لاغتيال علماء مصريين وعرب، لكن تبقى المعلومات حول هذا الحادث بالتحديد غامضة وغير مؤكدة.
لم تكن سميرة موسى مجرد ماكينة معلومات بل كانت مهتمة بالموسيقى وتعزف على العود وتكتب نوته الموسيقية، كما كانت تهوى التصوير الفوتوغرافي وكان لديها في منزلها ركن خاص للتحميض، كما كانت تهوى كل الأشغال المنزلية المعتادة في مصر مثل الخياطة والتريكو، وقد كان لها اهتماماتها المجتمعية كذلك، فكما شاركت في ثورة الطلاب عام 1932 لم تنعزل عن مجتمعها واهتماماته فشاركت في مشروع القرش الخيري الذي أشرف عليه د. مشرفة. كما شاركت في جمعية الطلبة للثقافة العامة وهي الجمعية التي كانت تهدف إلى محو الأمية في الريف المصري، وغير ذلك الكثير من الأنشطة التي أثبتت أنها خرجت من هذه الأرض متشبثة بجذورها فيها.
وليبقى السؤال المتكرر والمعتاد، لماذا يتم تجاهل مثل هذه الأسماء التي كان لها أثرها الكبير ربما على مستوى العالم، ولماذا يكون تكريم مثل سميرة موسى تكريما رسميا باهتا مثل إطلاق اسمها على مدرسة أو خلافه، ولماذا توقف مشروع المسلسل الذي كتبه بشير الديك وكانت ستقوم ببطولته ندى بسيوني عام 2018، وكيف نحتفى بمثل سميرة موسى لتصبح أيقونات للهوية الوطنية؟