قال لي أحد الأصدقاء: كتبت عن “الأبلوات”؛ ألم يؤثر فيك أساتذة؟! وضحك بخبث.
قلت له: منذ المرحلة الابتدائية حتى تخرجي في الجامعة؛ صادفت الكثير جدًا من الأساتذة الممتازين، لم يكن أحد منهم يطلق على نفسه “إمبراطور اللغة العربية”، ولا “أسطورة الفيزياء”، ولا “ملك الجغرافيا”، لكنهم كانوا حقًا في غاية التمكن من المادة الدراسية التي يقدمونها لنا، ويعرفون كيف يوصلون المعلومة بأبسط الطرق، غير المعاملة الطيبة كأنهم آباء أو إخوة كبار لنا، بعضهم كان أكثر لطفًا من الآخر، لكنهم في المجمل أصبحوا بالنسبة لي فعلًا “أسطورة” تجمع بين العلم والمهابة والمحبة، ولم يعد لها وجود حاليًا للأسف، أو للدقة لم تعد موجودة بالقدر الذي كانت به، بعد انهيار نظام التعليم، وانهيار صورة الأستاذ، وتدهور معرفة المجتمع بدور الأستاذ والتلميذ وأهمية العلم والمعرفة في بناء الأمم. أستطيع أن أتذكر أساتذة اللغة العربية في مراحل الدراسة المتتابعة الابتدائي والإعدادي والثانوي؛ أستاذ فتح الله الرحماني، أستاذ عطية، أستاذ توفيق. الأستاذ السيد منصور الذي درس لي العلوم في الإعدادية والثانوية. الأستاذة إيناس التي كانت لثغتها الطبيعية رائقة وجميلة وهي تدرس لنا اللغة الفرنسية (تعمدت ذكرها لأنني لا أفرق بين الأبلوات والأساتذة يا صديقي!).
لكنني عندما أتحدث عن شخص بالذات فليس لأنه متمكن من عمله ويؤديه على خير وجه، لأن هذا هو الطبيعي فيما رأينا وتعلمنا وعشنا، ولن يجعله غير طبيعي انقلاب المعايير في زماننا، فالمعايير المقلوبة هي غير الطبيعية مهما فرضت نفسها وفرضها المستفيدون من تدهور الأحوال، وعلينا أن لا نتقبلها، حتى نسعى بوعي إلى إعادة الأمور إلى نصابها.
لذلك سأحدثك عن الأستاذ الذي كان كمن ذكرتهم تمكنًا من مادته، وقدرة مذهلة على تعليمنا، لكنه تجاوزهم بانشغاله بنا كبشر، كنواة لمستقبل قادم، وليس فقط كتلاميذ.
مر من أمامي وأنا ألقي قصيدة في الإذاعة المدرسية، فشدني من عيني وأنفي معًا.
كان عطره مميزًا، متوسط الطول، ممتلئًا في غير إفراط، كرشه بارز لكنه غير منفر، شعر لامع ممشط إلى الجانب الأيمن، وجهه مبتسم، بذلته بنية اللون جديدة أنيقة، والكرافتة منسجمة مع لون البذلة، بيده عصا طويلة رفيعة، عيناه تحدقان في التلاميذ المصفوفين لتحية العلم في طابور الصباح، لم أعرف ما يفكر فيه في أول يوم له بمدرسة خورشيد الإعدادية، لكني تمنيت أن يكون أستاذنا في سنة ثانية أول، وإن لم أكن أعرف بعد ماذا يدرس.
كنت طالبًا متفوقًا في تلك الفترة، الأول على الفصل، وأحد الثلاثة الأوائل على المدرسة، وعضو فريق أوائل الطلبة الذي ينافس المدارس الأخرى ويحقق فوزًا تلو آخر. لكنني كنت أخشى فعلًا مادة واحدة فقط، هي مادة “الرسم”. أحب الرسم، ولطالما تمنيت أن أكون رسامًا، وبالذات رسام كاريكاتور، لكنني فاشل جدًا في الرسم، وكم شعرت بالرعب أن أحصل على درجات ممتازة في آخر العام ثم أرسب في مادة الرسم. لذلك كانت حصة هذه المادة تمر علي ثقيلة جدًا، برغم حب كل الأولاد والبنات لها (كنا فصلًا مشتركًا)، خصوصًا بعد أن جاءت “مس هالة” إلى المدرسة، كانت خريجة حديثة، جميلة، تهتم بمكياج جميل يناسب بشرتها القمحية، ترتدي بلوزة ضيقة تفصل جسدها، وجيبه قصيرة تغطي الركبة بالكاد، ثم تظهر ما تظهر عندما تجلس على كرسيها في الفصل، فيحلو لبعض التلاميذ تقليد سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت بإلقاء القلم على الأرض والنزول تحت التختة لإحضاره. كنت أتنفس الصعداء عندما أرى “مس هالة” خارجة من الفصل، وأشعر بسعادة عندما يدخل إلينا بعدها المدرس الجديد لمادة الرياضيات الأستاذ السيد عبد الحميد.
جعلني أستاذ السيد أعشق الرياضيات، وأستمتع حقًا بحل مسائل الجبر والهندسة. لكنه أعطانا أكثر مما يمكن أن نطلبه منه.
كان يسألنا عن هواياتنا، ويساعدنا على ممارستها، يعطيني كتبًا لأقرأها، ويقرأ ما أكتبه من قصص وأشعار ويعلق عليها ليجعلني أكتب أفضل. نظم لنا رحلات إلى حديقة الحيوانات بالنزهة، وهي الحديقة التي حزنت عندما زرتها منذ فترة قصيرة، فلم يعد بها العدد نفسه من الحيوانات، ولم تعد بالنظافة ذاتها التي كانتها، وأصبحت لها رائحة كريهة لا أدري مصدرها. ونظم لنا الأستاذ السيد رحلة إلى رشيد، كان أمتع ما فيها تعطل أتوبيس الرحلة عند العودة في منطقة بها كثبان رملية ونخيل، فظللنا نلعب معتبرين أن هذا الجزء هو الرحلة الحقيقية، ولم نفكر فيما شعر به أهلنا من قلق لتأخرنا، حتى عدنا فوجدناهم متجمهرين في مدخل القرية بانتظارنا.
أما التجربة الكبيرة التي منحها لنا فهو الممارسة الديمقراطية الكاملة التي عشناها لعامين متتاليين في الفصل.
كان فصلنا من ثلاثة صفوف. صفان للتلاميذ، وصف للتلميذات. وكان الأستاذ السيد رائد فصلنا عليه أن يختار أحد تلاميذ أو تلميذات الفصل ليكون (أو لتكون) رائد الفصل. لكنه لم يختر بنفسه، بل تركنا نختار بانتخابات ديمقراطية.
شرح لنا معنى الانتخابات، وأهميتها، وضرورة أن تكون نزيهة، ومراحل العملية الانتخابية، فمن يريد أن يرشح نفسه لابد أن تكون به شروط محددة، أهمها رغبته وقدرته على خدمة زملائه. ومن ينتخب أحد المرشحين لابد أن يحكم ضميره، لا يختار مرشحًا لمجرد أنه صديقه، بل يفكر أي المرشحين أصلح لأداء المطلوب منه.
رشحت نفسي، لا أعرف هل لأنني ظننت قدرتي على أداء مهمة رائد الفصل، أو حتى إذا ما كنت فهمت بالضبط المطلوب مني لأداء هذه المهمة، لكني أحببت أن أجرب. وترشح أيضًا زميل وزميلة. ونجحت باكتساح، حصلت على أغلبية أصوات التلاميذ، وكل أصوات التلميذات عدا صوتي صديقتي المرشحة المقربتين.
فرحت بنجاحي الساحق الماحق كما كان أحد المعلقين الرياضيين يقول وقتها، واحتفلت بالفوز مع زملائي، ثم اكتشفت الجزء الأصعب في الديمقراطية، أن تكون على قدر المسؤولية التي منحها لك منتخبوك. كان مطلوبًا مني أن أكون مساعدًا لرائد الفصل، أرصد درجات الطلاب، أجمع منهم الكراسات ليصححها الأستاذ، ثم أعيدها إليهم، أشتري ورقًا مقوى لعمل لوحات توضع في الفصل، وكان أحد أعمامي وأحيانًا والدي يرسمها بدلًا مني طبعًا، أقف على الفصل بمعنى أن أقف في مكان الأستاذ عندما يتأخر أو يعتذر أحدهم عن حصته، وأكتب على السبورة اسم من يثير جلبة. وقد أخذت دوري هذا بجدية كانت أحيانًا تضايق زملائي وزميلاتي الذين يتعرضون للعقاب لكتابتي أسمائهم على السبورة.
في العام التالي، نظم أستاذ السيد عبد الحميد انتخابات جديدة لاختيار رائد سنة ثالثة أول، رشحت نفسي بالتأكيد، وترشح تلميذ وتلميذة أيضًا. وفي هذه الانتخابات مارست الجانب “السيء” من الديمقراطية.
كان ترشحي هذه المرة لأختبر فكرة تخصني وليس للعمل من أجل الفصل؛ هل أدائي خلال العام الماضي زاد من محبة الزملاء في أم قللها، هل هناك من كرهني لأنه تعرض للعقاب بسببي؟ هل هناك من غار مني للمكانة التي حصلت عليها في الفصل وجعلتني أقربهم إلى محبوبنا جميعًا الأستاذ السيد عبد الحميد؟
كما أن الغرور أصابني لدرجة كنت أظهر أمام المرشحين الآخرين ثقتي المطلقة بالفوز، لدرجة جعلتني أتفق مع المرشح الآخر “أشرف بندر” أن أتنازل له عن ريادة الفصل بعد فوزي، شرط أن لا يكون له سلطان علي، فأكون التلميذ الوحيد الذي لا يكتب اسمه على السبورة مهما فعل، ولا يطلب مني المشاركة في أي عمل. وقد تواطأ معي أشرف الذي كان واثقًا أن هذه “التربيطة” هي التي ستجعله رائدًا للفصل لأنني بالتأكيد سأفوز.
فزت بالاكتساح نفسه الذي حدث في العام الماضي. واعتذرت للأستاذ السيد عن إكمال المهمة متنازلًا لأشرف عن ريادة الفصل، هاج التلاميذ والتلميذات غضبًا، أخبرني الأستاذ السيد أنه كان يجب علي أن لا أرشح نفسي ما دمت أنوي الانسحاب منذ البداية، وأن ما فعلته قانوني إجرائيًا، لكنه غير جيد أخلاقيًا. أفهمني أن النظم والقوانين قد تكون جيدة في حد ذاتها، لكن المهم كيف نمارسها بروح متجردة من المصلحة الشخصية والأنانية، أكد أنه علي أن أفكر كثيرًا فيما فعلت، وأحرص على التعلم من هذه التجربة/السقطة الكبيرة، لأنني إذا وعيتها وتعلمت منها ستكون من الأشياء الجيدة التي حصلت لي في حياتي، أما إذا مرت دون تفكير وندم فسوف أندم كثيرًا في حياتي القادمة، لأن معنى أن تمر هذه التجربة دون توقف حقيقي عندها أنني لم أعترف بخطئي، ولم أعتذر عنه، وبالتالي سأكرره. فشعرت بالخزي من نفسي لفترة طويلة. وقررت عدم خوض أي انتخابات في حياتي لأي سبب. وربما بدأ منذ هذا الموقف هوسي بفكرة القانون والالتزام به بأقصى قدر من الموضوعية، وهو الهوس الذي كثيرًا ما يسبب لي مشاكل في عالم يفكر كباره وبعض مؤسساته مثلما كنت أفكر وزميلي أشرف ونحن أطفال!
علمت أثناء دراستي في المرحلة الثانوية أن الأستاذ السيد عبد الحميد توفاه الله شابًا في حادث ما، وقال البعض أنه مات بمرض لا أذكره. ولم تكن لدي وسيلة للتأكد من الخبر. لكنني حزنت كثيرًا لأن تلاميذ آخرين فقدوه، ولن يستطيعوا أن يتعلموا منه. لكن هل مثل هذا الرجل يموت؟ إنه حي بداخلي، وبداخل كل تلميذ تعلم منه شيئًا، ونقل هذا العلم الأكاديمي أو العلم بالحياة إلى غيره، سيظل هذا الرجل فكرة تنتقل من شخص لآخر، يثاب على أعمال يقوم بها أناس لا يعرفونه ولم يعرفهم.
أرجو من الأساتذة الإمبراطور والأسطورة والملك الذين يملأون الشوارع ومواقع التواصل بلافتاتهم، ثم لا يعلمون أبناءنا شيئًا حقيقيًا لا مما في الكتب ولا من الأخلاق؛ أن يتذكروا أستاذًا مثل السيد عبد الحميد، ليختاروا ما هو خير وأبقى.
عندما كان التعليم قيمة كبيرة والمعلم له كل التقدير ..حفظ الله قلمك الذي يعود بنا لأيام تنمينا أن تدوم.
عندك حق يا دكتوره
رحم الله أستاذ حضرتك الذى خسر كثير من الطلاب شخص بعقليته
لكن سيدى الا ترى ان موته إشارة حزينة عل حال من يهتمون بغرس القيم والاخلاقيات وعزاءنا فيمن يتذكرونهم بالخير ويحملون رايتهم
ونجدد الشكر لحضرتك وطلب المزيد والمزيد من كنوز صندوق ذكريات منير عتيبة مع حفظ اللقب والمقام
حضرتك عندك حق
كل الشكر والتقدير لحضرتك وتحية للمعلم في عيده
الشكر لحضرتك
ليت الزمان يعود يوما
أو ياتى من هم امثال الاستاذ الفاضل السيد عبد الحميد
يا ريت
صحيح.. تعلمنا أكثر وأفضل مما نحن عليه الآن، بمدارسنا الحكومية، كان الإنسان هو المهيمن على تواضع الامكانيات، فكان التعليم في أفضل حالاته مع تخريج جيل مثقف حقيقي له قدوة يتعلم منها حتي يصبح قادرا على التميز في شتى المجالات ولا ينسى أصحاب الفضل، ويقوم بنفس دور العطاء.
دمتم بخير وبعطاء نشهد به.
عندك حق يا فنان
بحب طريقة حضرتك في الكتابة وسرد الذكريات وفعلا كنا بنتعلم افضل كتير رغم ضعف الامكانيات عن وقتنا هذا ربنا يرحم كل من زرع داخلنا من جعلنا ما نحن عليه
ربنا يحفظك يا مبدعة