أحدث الحكايا

شريف الشافعي يحكي: حكاية “الليلة الكبيرة” التي تتحدث فنسمع أنفسنا

لا تتطلب “الليلة الكبيرة”؛ ملحمة مسرح العرائس المصري، مناسبة ظرفية لحكايتها، فهي السردية الشعبية الساكنة دائمًا في الوجدان الجمعي، والمحفورة بعمق في ذاكرة الأمة العربية كلها، منذ أكثر من ستين عامًا. ومع ذلك، فإن شهر سبتمبر 2024 كان على ثلاثة مواعيد مع “الليلة الكبيرة” وصُنّاعها، وتاريخها، وليس ميعادًا واحدًا.

استرجعت ذكرى المولد النبوي الشريف، في منتصف الشهر، هذا الأوبريت الأبرز، الذي طالما تزامن عرضه، على مدار سنوات وسنوات، مع الليلة المحمدية الكبرى، في المسارح وقاعات الأوبرا والحدائق وقصور الثقافة والمكتبات العامة والمدارس والجامعات في القاهرة وسائر المدن المصرية.

عرض عرائس الليلة الكبيرة

 

ثم جاء الخامس والعشرون من الشهر، ليحيي ذكرى الرحيل الرابعة عشرة لأحد صنّاع الأوبريت الفني الخالد، وهو صلاح السقا، المخرج البارز، أيقونة فن تحريك العرائس في مصر. أما المناسبة الثالثة التي ضربها سبتمبر مع “الليلة الكبيرة”، فكانت في أيامه الأخيرة، التي شهدت في ساحة روابط للفنون في وسط القاهرة معالجة مسرحية غنائية تفاعلية بعنوان “في الليلة الكبيرة”، مستوحاة من رائعة العرائس القديمة، وقدّمها مسرح فابريكا بأنفاس عتيقة.

معالجة مسرحية غنائية تفاعلية بعنوان “في الليلة الكبيرة”

رؤى ابتكارية

وهكذا، إلى يومنا هذا، لا تكاد تحل مناسبة دينية أو اجتماعية بمصر، وعلى رأسها المولد النبوي الشريف، وعيد الأضحى، وعيد الفطر، وموالد أهل البيت، إلا وتستعيد المنابر الثقافية والمسارح والحدائق ذلك العمل الفذ “الليلة الكبيرة”، الذي لم يبلغ هذه الدرجة من التميز حد الاكتمال من فراغ بطبيعة الحال، وإنما هو ثمرة جهود مضنية، وحصيلة رؤى ابتكارية طليعية. إن امتلاك أرواح الملايين يقتضي الإلمام باحتياجاتهم بضورة دقيقة، وإدراك نوازعهم النفسية، وتقصي دواخل ذواتهم في أعمق طبقاتها الكامنة. وهذا ما تحقق لأوبريت “الليلة الكبيرة”، لما فيه من حنكة وإتقان واهتمام بالتفاصيل الدقيقة ودراية بمقوّمات الشخصية المصرية، وسمات الحياة الشعبية الأصيلة المتجذرة في تربة الموروث والعادات والتقاليد.

هو عمل استثنائي بكل المقاييس، تضافرت فيه إلهامات نخبة من المبدعين والروّاد في مجالات عدة، منهم الشاعر صلاح جاهين (25 ديسمبر 1930-21 إبريل 1986)، والأب الروحي لفن العرائس ناجي شاكر (16 فبراير 1932-19 أغسطس 2018)، والمخرج صلاح السقا (11 مارس 1932-25 سبتمبر 2010)، والموسيقار سيد مكاوي (8 مايو 1928-21 إبريل 1997)، الذين تمكنوا من تحريك قلوب البشر بخيوط سحرية.

صلاح جاهين وسيد مكاوي

حلم لن يتكرر

لا ينتهي الحنين أبدًا إلى أوبريت “الليلة الكبيرة”، الذي يمثّل حالة خاصة لدى المصريين. هو ليس مجرد استعراض ناجح للعرائس، وإنما سيرة شعبية متكاملة، يرى فيها البشر أنفسهم، ويستعيدون ذكرياتهم، ويتجاوزون أوجاعهم، ويتطلعون إلى آمالهم. ويشكل الحضور الجماهيري المستمر لأوبريت “الليلة الكبيرة”، الذي تتكرر حكايته دوريًّا في المناسبات المختلفة، ظاهرة لافتة تستدعي التوقف والتحليل. فإلى لحظتنا الراهنة، لم يتمكن مسرح العرائس من تقديم عرض يرتقي إلى هذا المستوى. ومع تراجع فن العرائس في الوقت الحالي، صار الحلم بـ”ليلة كبيرة” أخرى أمرًا مستحيلًا.

ولعله من المناسب التوقف عند بعض أسباب تراجع فن العرائس بمصر، منها انحسار إنتاجه، وضعف الميزانية المخصصة له من جانب وزارة الثقافة، وسيطرة الموظفين على القطاعات الإدارية بالوزارة ومسارح الدولة، وندرة المؤسسات الأهلية والخاصة التي تهتم بمثل هذا الفن. كما أن هذه الكيانات الخاصة، إن وُجدت، فإنها تمضي في الاتجاه التجاري، فتركز على ألوان معينة، كحفلات أم كلثوم الغنائية مثلًا من خلال العرائس، بهدف تحقيق الربح في المقام الأول، وليس تقديم عروض عرائس حية مبتكرة، ذات طبيعة درامية.

ومن أسباب خفوت فن العرائس المصري أيضًا، غياب فناني العرائس من الكبار وأجيال الرواد، إما برحيلهم عن دنيانا أو بتوقفهم عن العمل، وزهد الأجيال الجديدة في هذا الفن الذي صار غريبًا وسط الفنون الأخرى الحركية والبصرية التي فرضت حضورها على المشهد. يضاف إلى ذلك، انصراف الأطفال والصغار عن مسرح العرائس، وانشغالهم بالتقنيات الحديثة والإنترنت والسوشيال ميديا وقنوات التواصل والفنون المعاصرة، وعدم مواكبة فن العرائس المحلي التقليدي هذه المستجدات والآليات والتجهيزات والتطورات الذكية المبهرة التي وصل إليها هذا الفن في ثوبه العالمي المتفوق.

صورة المجتمع

وليست وحدها “النوستالجيا” هي التي تربط ملايين المصريين بأوبريت “الليلة الكبيرة”، الذي حقق أيضًا على “اليوتيوب” ملايين المشاهدات خلال السنوات القليلة الماضية، لكنها روح الأصالة وملامح الوجدان الشعبي ونسيج الموروث الحياتي والفني والثقافي. فذلك العالم الذي يضم العمّال والفلاحين والبسطاء من الريف والصعيد وسائر المحافظات، ويشتبك فيه الأراجوز والمنشدون ولاعبو السيرك وبائعو الحمص والعسلية ومدرب الأسود والمصوراتي والراقصة وغيرهم، هو صورة مصغّرة للمجتمع المصري بعفويته وتلاحمه في ليلة الاحتفال بمولد سيد الخلق. وإن غوص أي فرد في هذه الأجواء الطازجة يشكل بالنسبة له قفزة من الحاضر الباهت إلى زمن كانت للشخصية المصرية فيه هويتها الواضحة، مثلما كانت للفن فيه وللقوة الناعمة إشعاعات متوهجة مؤثرة، داخليًّا وخارجيًّا.

وعلى الرغم من أن أوبريت “الليلة الكبيرة” قد مر على إطلاقه للمرة الأولى أكثر من ستين عامًا، فإنه يبدو كأنه في ريعان شبابه دائمًا، وينسجم تمامًا مع المناسبات الدينية وأجوائها الإيمانية وطقوسها الروحانية. فهو عمل فني زاخم، يستلهم مفردات الحياة وتفاصيل الواقع الشعبي المعيش، بقدر ما يراعي الموروث العقائدي وعادات المصريين وتقاليدهم في المناسبات الاجتماعية والدينية المختلفة.

بتمصير فن عرائس الماريونت على يد الرائد ناجي شاكر في خمسينيات القرن الماضي، ظل الحلم يراوده بأن يتجاوز هذا الفن الوليد المتعة البصرية ونثر ورود البهجة في صدور الصغار والكبار. فتحريك الدمى يمكن أن يتطور إلى تحريك البشر أنفسهم، واللعب على أوتار القلوب، وتجسيد سيرك الحياة القائم، وتشخيص “مولدها” الشعبي الهادر، وصخبها الذي لا يتلاشى ولا يهدأ.

التقت أفكار شاكر وطموحاته مع كلمات شاعر العامية المصرية صلاح جاهين، ورؤية المخرج صلاح السقا، واكتمل “لقاء السحاب” بأنغام الموسيقار سيد مكاوي الشرقية الأصيلة الناهلة من البيئة المحلية وإيقاعات المنشدين والمبتهلين والمتصوفين وروّاد الموالد وحلقات الذكر. ومن ثم ظهرت “الليلة الكبيرة” للمرة الأولى في مايو 1961، وصمم ديكورها مصطفى كامل، وأخرجها للتليفزيون محمود بيومي، وشدا فيها أعذب المطربين والمطربات، منهم: شفيق جلال، عبده السروجي، محمد رشدي، إسماعيل شبانة، حورية حسن، شافية أحمد.

اقرأ أيضا:

رشا حسني تحكي: ناجي شاكر.. الذي فسّر أحلام العرائس ولم يحققوا حلمه!

 

الرسالة والقناع

تمكن جاهين وشاكر ورفاقهما العمالقة الموهوبون من استثمار عشق الجمهور للمسرح، ذلك الفن القادر على مخاطبة رواده بشكل مباشر، وممارسة دور مهم في التأثير والإقناع من خلال الجماليات الممتعة، وكانت كلمة السر هي “العرائس”، من أجل أن تكون الرسالة أكثر إيجابية. فالبشر يفضلون التفاعل مع الفن الآتي من وراء قناع، لما فيه من خيال وتشويق وإثارة. وبالتالي حدثت حالة التوحد بين الآدميين وعرائس الماريونت، على نحو منقطع النظير، وصار المتفرجون حتى يومنا هذا يرون أنفسهم في شخصيات “الأراجوز” و”لاعب البخت” و”بائع الحمّص” و”المصوّراتي” و”العمدة” وغيرهم من أبطال “الأوبريت” الفريد.

استعرض العمل بذكاء نادر ملامح الحياة الشعبية وأجواء الموالد والاحتفالات الدينية والاجتماعية في القرى المصرية المختلفة، وجرت كلماته بسهولة وعذوبة على ألسنة العوام بكل المحافظات. فأبطاله القادمون من “الريف والبنادر” يمثلون “الفلاحين والصعايدة وأهل القنال والرشايدة”. وتمكنت العرائس من فعل ما لم يكن يستطيعه الممثلون، خصوصًا ما يتعلق بالنقد الاجتماعي والسياسي، وبذلك اتصل العمل أيضًا بتراث فن الأراجوز المعروف بجرأته وتخطيه الخطوط الحمراء.

المحلية والتفاعلية

ولعل أبرز سمات “الليلة الكبيرة”، التي تتجلى حتى الآن كلما تكرر عرضها، هي ما تستثيره من المشاركة والتفاعلية لدى الجمهور، فاندماج المتفرجين مع الحكاية والأحداث والشخصيات ينقلهم إلى قلب المشهد “فتح عينك، تاكل ملبن. فينك فينك، تاكل ملبن. اوعى لجيبك، لا العيب عيبك، قرّبْ.. جرّبْ.. نشّنْ”. والعلاقة بين العرائس والمشاهدين هي علاقة تبادلية، تكاد تمضي في الاتجاهين، بما يوحي للمتفرجين بأنهم يتلمسون ردود أفعال العرائس في مواضع مختلفة، وهو ما يُعلي من قدرات المسرح، ويجعله يتجاوز حدود التلقين والأحادية.

أمر آخر وراء بقاء “الليلة الكبيرة” وتفوقها النادر، هو أنها عمل مصري حتى النخاع، بموضوعه وكلماته وألحانه، وأيضًا بشخصياته وعرائسه، حيث لم يعمد مصممها إلى التغريب رغم أن فن العرائس ذاته فن وافد، ولم يكن معروفًا آنذاك في مصر. ولكن نقطة التحوّل هي ابتداع شخصيات ضاربة في البيئة المحلية، لتلائم الأحداث التي تدور في الشوارع والأسواق والمقاهي والميادين الشعبية.

ومن عجائب قدرات عرائس “الليلة الكبيرة” أيضًا، أنها نامية، متطورة، تحمل أنفاس صُنّاعها من جهة، وأنفاس مشاهديها من جهة أخرى، وتتحرك وفق أطر درامية محبوكة بعناية، لتثبت بالفعل أنها كائنات آدمية من لحم ودم، وإن كانت تتحدى الزمن.

صلاح السقا
ناجي شاكر

عن شريف الشافعي

شاعر وكاتب مصري، من مواليد 1972، صحفي بمؤسسة "الأهرام" المصرية. صدرت له ثمانية دواوين، منها: «الأعمال الكاملة لإنسان آلي»، و«كأنه قمري يحاصرني»، و«هواء جدير بالقراءة». صدر له كتاب «نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع». تُرجمت أعماله الشعرية في كتب منفردة وأنثولوجيات إلى لغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والصينية. شارك في مهرجانات شعرية دولية في فرنسا والولايات المتحدة والصين والمغرب ولبنان والأردن والسعودية وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *