أحدث الحكايا

د. محمد عفيفي يحكي: حكاية الأدب والتاريخ.. ثلاثية نجيب محفوظ نموذجًا (2-2)

رأينا في المقال السابق مدى أهمية الأدب بالنسبة للمؤرخ، كما أوضحنا العلاقة الوثيقة على مر التاريخ بين الأدب بشكلٍ عام واستخدامه كمصدر تاريخي.

نعود مرة أخرى إلى محفوظ وثلاثيته، لنرى ماذا يمكن أن تقدمه للمؤرخ في أثناء مهمته الصعبة في البحث عن مادته التاريخية؟

في البداية لا يختلف أحد حول أهمية محفوظ في حياتنا الفكرية والأدبية، ولكننا هنا نتطرق إلى عالم محفوظ كأديب للواقعية، ومدى ما يمكن للمؤرخ أن يستفيد به من أدب “الواقعية”. يرى البعض أن نظرة كثير من الروائيين لفن الأدب عمومًا وفن الرواية خصوصًا باعتباره وسيلة من وسائل المتعة غايته وهدفه التسلية وحدها، مهرب سهل من مواجهة الواقع إلى عالم وهمي مريح، وفي هذا المجال يتميز نجيب محفوظ بمحاولته تقديم رؤية صادقة لواقعه تكشف هذا الواقع وتعريه وهو ما لا يلجأ إليه كثيرون من تقديم رؤية وهمية أو مغلوطة، أو مُدَّعَاة، أو تقديم مُزَق من الروئ المتناقضة في العمل الروائي الواحد.

ثلاثية نجيب محفوظ

 

والحق أننا يجب علينا أن نتعامل مع العمل الأدبي –والمثال الواقع لدينا هنا هو ثلاثية محفوظ– على أنه يقدم للمؤرخ رؤى وشواهد مختلفة مهمة ولا يقدم وقائع تاريخية، وعلى المؤرخ أن يستفيد من ذلك ويُحسِن هضمه مع مصادره التاريخية الأخرى ليقدم لنا صورة أكثر “واقعية” و”مصداقية”.

وسنحاول فيما يلي تقديم بعض الأمثلة على استفادة الباحث من خلال الثلاثية في العديد من دراساته التاريخية عن تاريخ مصر في الفترة محل زمن الثلاثية.

الثلاثية والحرب العالمية الأولى

يقدم لنا الجزء الأول من الثلاثية إجاباتٍ شافية وشواهد حول موقف قطاعاتٍ عريضة من الشعب المصري من الحرب العالمية الأولى، أو حقيقة الأمر من القوى المتناحرة فيها، فقد وقف المثقفون المصريون الليبراليون إلى جانب الحلفاء ضد الوسط. وربما يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب لعل أولها الرغبة في انتظار الديمقراطية أو الميل للحضارة الفرنسية أو سيادة مفهوم حزب “الأمة” القديم بأن إنجلترا رغم أنها الدولة المستعمرة إلا أنها تقوم بشكلٍ أو بآخر بدور حضاري في مصر، وعلينا أن نتعامل مع إنجلترا ونكتسب منها الحضارة الغربية، حتى نستطيع أن نطلب منها الاستقلال عند وقوف مصر على أعتاب الحضارة الغربية وتعبر عن ذلك بوضوح جريدة “السفور” لسان حال الليبراليين المصريين آنذاك.

مقتطفات من مقالات جريدة السفور عام 1915.. رسل الرقي والإصلاح
أحد الأعداد الأولى لجريدة السفور

 

ويقدم محفوظ صورة أخرى واقعية لتعاطف القطاعات الشعبية والطلاب والطبقة الوسطى الصغيرة مع دول الوسط ضد الحلفاء بزعامة إنجلترا. ولِمَ لا أليست بريطانيا هي المحتلة للبلاد منذ عام 1882؟ أليست هي التي تحول بين مصر وعودتها إلى دولة الخلافة العثمانية؟ إنها ليست وجهة نظر الحزب الوطني –حزب مصطفى كامل– فقط وإنما هي وجهة نظر أغلبية الشعب المصري آنذاك.

من هنا مالت مشاعر أغلبية الشعب المصري مع ألمانيا حليفة الدولة العثمانية، وعدوة إنجلترا المحتلة. وكان هذا تعبيرًا عن المثل القائل “صاحب صاحبي هو صاحبي وعدو عدوي هو صاحبي”. لكن هذه المشاعر انهارت بشدة مع هزيمة ألمانيا –ومعها الدولة العثمانية– وانتصار بريطانيا، وتبخرت الآمال في جلاء الإنجليز، ويأتي خير تعبير عن ذلك على لسان فهمي عبدالجواد الشاب المثقف، طالب الحقوق الذي سيصبح بعد ذلك أحد شهداء ثورة 1919:

“غُلِّب الألمان! من كان يتصور هذا؟! لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك أمال الخلافة قد ضاعت، ولا يزال نجم الإنجليز في صعود ونجمنا في أفول، فله الأمر”.

القاهرة في زمن نجيب محفوظ

ومن ناحية أخرى يتمتع محفوظ في ثلاثيته –وفي أعماله بصفةٍ عامة– بإعطاء أهمية كبرى إلى المكان، إن محفوظ مولع بوصف المكان. من هنا يعطي محفوظ عبر ثلاثيته وصفًا لتطور المكان وتطور هذه الأحياء “بين القصرين”، “قصر الشوق”، “السكرية” وما لحق بها من تطورات وتغييرات سواء على دورها كأحياءٍ سكنية أو أسواقٍ تجارية رئيسية، وانتقال أدوارها التاريخية إلى الطرف الآخر من القاهرة، تتنازل هذه الأحياء عن طابعها التقليدي الذي عاشت في إطاره سنين عديدة تحت وطأة التحديث والتغيرات الحضرية التي عرفتها القاهرة آنذاك.

شارع قصر الشوق بمنطقة الجمالية

 

داروين وقصر الشوق

وفيما يتعلق بالتاريخ المصري المعاصر يقدم لنا محفوظ في الجزء الثاني من ثلاثيته “قصر الشوق” شواهد فكرية مهمة حول الضجة التي صاحبت استقبال مصر لنظرية التطور لداروين، هذه النظرية التي هزت بشدة أجيال الشباب آنذاك –متمثلة في كمال عبدالجواد– وعصفت إلى حدٍ ما بتقاليد دينية راسخة في ذهن وضمير المصري. ويعتبر النقاش الحاد الذي دار بين كمال وأبيه السيد عبد الجواد نموذجا طريفا في هذا الشأن:

كمال:

داروين صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن سيدنا آدم.

هتف الرجل غاضبًا:

لقد كفر داروين، ووقع في حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قردًا أو أي حيوانٍ آخر، فلم يكن آدم أبا للبشر… هذا هو الكفر بعينه، هذا هو الاجتراء الوقح على مقام الله وجلاله!! إني أعرف أقباطًا ويهودًا في الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم، كل الأديان تؤمن بآدم، فمن أي مِلة داروين هذا؟! إنه كافر وكلامه كفر ونقل كلامه استهتار. خبرني أهو من أساتذتك بالمدرسة؟

ما أدعى هذا إلى الضحك لو كان في القلب فراغ للضحك، لكنه قلب أفعمته الآلام، ألم الحب الخائب وألم الشك، ألم العقيدة المحتضرة. إن الموقف الرهيب بسبب الدين والعلم أحرقك، ولكن كيف يسع عاقلاً أن يتنكر للعلم؟

قال بصوتٍ متواضع:

– داروين عالم إنجليزي مات منذ زمنٍ بعيد.

وهنا ندا عن الأم صوت يقول بتهدج:

– لعنة الله على الإنجليز جميعًا.

الثلاثية وتاريخ الأقباط

وأمكن للباحث الاستفادة من الثلاثية في موضوعٍ آخر يحظى باهتماماته وهو تاريخ الأقباط الحديث والمعاصر. لعل أهم شخصية سياسية قبطية في القرن العشرين هي شخصية مكرم عبيد السياسي البارز و”الابن البار” لسعد زغلول، حيث وُصِّف مكرم دائمًا داخل حزب الوفد بأنه “المُجاهِد الكبير” وهي الألقاب التي ارتبطت بمكرم عبيد طيلة فترة بقائه في الوفد كسكرتير عام للحزب، وفي رأينا أن خروج مكرم عبيد من الوفد بعد الأزمة الشهيرة بأزمة “الكتاب الأسود” 1942، وهو الكتاب الذي أثار فيه مكرم قضية الفساد والمحسوبية في الوزارة الوفدية مما أدى إلى خروج مكرم من الوفد وتشكيله لحزب جديد تحت اسم “الكتلة الوفدية”. وفي رأينا أن هذا الخروج كان من أهم أسباب تصدع العلاقة التقليدية والحميمة بين الوفد والأقباط.

فعلى الرغم من بقاء بعض التيارات القبطية الشهيرة كإبراهيم فرج داخل الوفد وعلى الرغم من تأكيد طارق البشرى على محدودية أثر هذا الخروج على العلاقة بين الوفد والأقباط، أو التحفظ النسبى لمصطفى الفقي من قبول ذلك أو رفضه، فإننا نعتقد أن هذا الخروج كان من أهم العوامل التي أدت إلى تصدع العلاقات الحميمة بين الوفد والأقباط، ودفعت الأقباط إلى المزيد من السلبية في الحياة السياسية، فقد نظر معظم الأقباط إلى مكرم عبيد على أنه “ممثل” الأقباط في السياسة المصرية، وأن ضربه بمثابة ضربةٍ قاصمة للطموح القبطي العام الذي كان مكرم “النصب التذكاري” له.

ويرسم نجيب محفوظ ذلك بوضوح على لسان “رياض قلدس” المثقف القبطي العلماني، بقوله بعد خروج مكرم من الوفد، وردًا على ما وجهه إليه محدثه المسلم من أن مكرم ليس الأقباط، وأن الأقباط ليسوا مكرم، إنه شخص، أما البعد القومى للوفد فلن يذهب، يجيب رياض قلدس:

“هذا ما يُكتَب في الجرائد أما الحقيقة فهى ما أعني، لقد شعر الأقباط بأنهم طُرِدوا من الوفد، وهم يتلمسون الأمان، وأخشى ألا يظفروا به أبدًا. سأنبذ الوفد بقلبي وأميل إليه بعقلي”.

والحق أن مكرم عبيد ما يزال حتى الآن قابعًا في الوجدان القبطي كمثال لأروع وأقصى ما وصلت إليه شخصية قبطية عامة، مع أنه لم يصل لمرتبة رئاسة الوزراء التي وصل إليها غيره من الأقباط.

ويصف البابا شنودة بابا الأقباط مكرم عبيد قائلاً:

“كنت أحفظ خطب مكرم عبيد في السياسة ودفاعاته في المحاكم لأن مرافعاته كانت أدبًا رفيعًا. كنت معجبًا به كرجل نزاهة ورجل فصاحة ولغة… زرت مكرم عبيد وأنا في معية الصبا. وألقيت أمامه قصيدة وأُعجِب بها قائلاً أهلا شاعر الكتلة، نسبةً إلى حزب الكتلة الوفدية”.

No photo description available.
البابا شنودة الثالث

 

وقد اندهش أن هذا العملاق يقول عنه هذا الكلام. ويذكر الأنبا باخوميوس الإعجاب الشديد للبابا شنودة بمكرم عبيد بعد خروجه من الوفد قائلاً:

“كانت هذه الفترة من حياة نظير جيد –الاسم العلماني للبابا شنودة– حساسة بالنسبة للتطورات السياسية. فكانت الرشوة والفساد منتشرين بصورة مرعبة فأعجب بمكرم عبيد الثائر على الفساد. وكان مكرم يخطب في الجماهير ويلقي الشعر في خطبه، فأراد نظير أن يتعلم الشعر والخطابة”.

هكذا –في رأينا– صدق حدس و”شهادة” محفوظ أكثر من اجتهادات بعض المؤرخين، وهكذا تأكدت الشهادة التي قدمها محفوظ من عشرات السنين بشهادة حديثة صادرة من مصدر موثوق به البابا شنودة.

ليست هذه الدراسة إلا محاولة لبيان مدى أهمية الأدب من خلال حالة “الثلاثية” كمصدر تاريخي، وإبراز ما لدى المؤرخ من “فوبيا” في الاستعانة بمثل هذه الأعمال كمصدر تاريخي. فهو –المؤرخ– بمنهجه التاريخى له من خبراتٍ سابقة في التعامل مع مصادر متعددة، وغربلتها وبيان ما يمكن أن يستفيد منه، لكن المسألة تبقى أخيرًا محل التجربة والخطأ حتى يستقر لدى المؤرخ –عبر تجاربٍ عديدة– ترحيب بالتعامل مع هذه المصادر الجديدة.

لقراءة الجزء الأول من المقال:

د.محمد عفيفي يحكي: حكاية الأدب والتاريخ.. ثلاثية نجيب محفوظ (1-2)

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *