أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): من الخضر إلى يورجن كلوب.. أسطورة العبد الصالح

كنت أسير بين الزرع في قريتي. وكان الطريق خاليًا والنسمة لطيفة، ثم فجأة سمعتُ صوتًا يغني. حاولت تمييز الأغنية فلم أفهم منها سوى كلمة “حبيبي”.. اقترب مني الرجل وهو يغني، وقد تطلع إليّ بنظرة غامضة. برغم ملابسه الجيدة كان حافي القدمين، ويسير بخطوة مقيدة. بعدما تجاوزني نظرتُ إليه من الخلف، كأنه لا يبالي بوجودي إطلاقًا، استمر في غنائه الغامض والسير بطريقته الغامضة أيضًا.

كثيرًا ما يصادفني في الموالد أشخاص غريبو الأطوار. يمكن أن نفسر ذلك بأنهم من الممسوسين أو المصابين بأمراض نفسية وعقلية. والبعض قد يعتبرهم “مجاذيب” ويرفعهم إلى مصاف الأولياء وعباد الله الصالحين، خصوصًا من يتثبتون على ذكر الله. فهل هم أولياء حقًا؟ ومن الذي يستحق تسمية “العبد الصالح”؟

علامات الولاية

إن الولاية مثبتة نصًا بالقرآن الكريم، الذي يفرق بين “أولياء الله” و”أولياء الشيطان”، والمعنى دال على القرب والصداقة والموالاة.

وقد يُغالي بعض المتصوفة في جعل الولاية تفوق النبوة، باعتبار أن الأولى اختيار حر، والثانية تكليف. وكثيرًا ما يترادف مفهوم “الولي” مع “العارف”. فمن الذي يستحق لقب “الولي” و”العارف”؟

يلخص ذو النون المصري علامات العارف في ثلاث: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقض عليه ظاهرًا، ولا يحمله كثرة نعم الله -تعالى- عليه وكرامته على هتك أستار محارم الله. أي أن الولي يتمتع بمعرفة باطنية، ومواهب وكرامات، مع التزام بالشريعة.

هذا يعني أن الولي رغم كل ملكاته التي تشابه ما يتمتع به الرسول، لكنه يختلف في كونه لا يحمل رسالة. والرسول يتلقى عن وحي، بينما الولي يتصل بالذات الكلية مباشرة. وثمة من يعتبر الولي نبيًا بلا شريعة، ويفرق بين نبوة الولاية ومثالها الخضر عليه السلام، ونبوة الشريعة ومثالها موسى عليه السلام.

من هو الخضر؟

وردت الإشارة إلى “الخضر” في سورة الكهف، دون ذكره صراحة وإنما باعتباره “عبدًا من عبادنا”. لكن لا يوجد أي اتفاق بين المفسرين على أية معلومة أخرى عنه؛ فمن قائل إنه من صلب آدم مباشرة، أو حفيده ابن قابيل، ومن قائل إنه ابن ملك اعتكف للعبادة وزهد النساء والزواج فحبسه والده لكنه اختفى من محبسه، ثم أصبح من أصحاب الغيبة، وهو بذلك يشبه الإمام الغائب لدى الشيعة.

لا نعرف نسبه على وجه الدقة، ولا في أي زمان ومكان قد عاش، وهناك من يزعم أنه “مات” ومن يرى أنه مازال حيًا منذ آلاف السنين. والمتصوفة يقولون إنهم قد لبسوا “الخرقة” اقتداء به، وعلى حد تعبير الشعراني فهو “يأتي للعارفين يقظة، وللمريدين منامًا” ليصبح بذلك مرشدًا روحيًا لكل متصوف.

وبرغم تقديس شخصيته في أديان ومذاهب شتى، لا يوجد أدنى اتفاق حول أي معلومات بشأنه، ولا تأكيد صفة معينة له: هل هو “عبد صالح” أم “ولي” أم “نبي” أم “ملاك”؟

في ظل كل تلك الصفات والكنيات والأسماء والحكايات؛ فكأننا ننسب آلاف الأشخاص، والقصص، إلى شخص واحد أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة. ولو تأملنا قصة موسى والعبد الصالح، المفترض أنه الخضر، فسوف نفهم منها:

– أولًا: النبي على ما أتاه الله من معرفة قد يلتقي بمن يفوقه “علمًا وحكمًا” حتى لو كان مجهول الاسم والصفة والهوية، حيث كان الخضر بمثابة “مُعلم” له.

– ثانيًا: عبّر وعي الخضر وسلوكه، عن سنن كونية، وحكمة إلهية مستترة، وراء ظاهر الأفعال ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ (سورة الكهف/65)، فحكمة الخصر فوق إدراك العقل البشري العادي، نابعة من اتصال عميق بالذات الكونية.

– ثالثًا: المهم ليس التباين في هويته، وإنما في كونيته “عبد من عبادنا”، فلم ينسب إلى دين، ولم تؤطره طقوس معينة وفق أية ديانة، بل نُسب مباشرة إلى الله تعالى.

– رابعًا: لقب “الخضر” مرتبط بإعمار الكون وتجديد الحياة أو وفق التعبير التراثي “كان إذا صلى اخضر ما حوله”.

ألف عبد وعبد

إن الالتباس في شخصية “الخضر” لدى الفقهاء والمفسرين، نابع من رغبتهم المتكررة في بناء تاريخ مادي لشخصيات ليس لها أي تاريخ، وكان بإمكان النص القرآني إثبات الاسم كما فعل مع أسماء أخرى.

كما نسبه النص إلى العبودية المباشرة لله تعالى بلا أي ألقاب أخرى، برغم أن هناك أسماء كثيرة ذكرت محددة اللقب كأنبياء ورسل. فلابد من حكمة وراء إغفال “اللقب والاسم والهوية”.

ومع كثرة ما ينسب إلى “الخضر” من قصص وتجليات لدى السنة والشيعة والمتصوفة وغيرهم، فالخضر بهذا الحضور المتعدد، والخالد، هو وظيفة وليس شخصًا متعينًا. هو “عبدٌ صالح” يتجلى بقدر الله، في مهمةٍ ما. وهو نفسه من ورد ذكره:

“وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ” (سورة يس/20)

هذا العبد أو الرجل الصالح، وقع المفسرون في فخ تسميته، فقالوا عن المذكور في سورة الكهف إن اسمه “بليا بن ملكان” وعن المذكور في سورة يس “حبيب بن مري”.

وفي ظني أنه ليس شخصًا متعينًا، بل هو ألف عبد صالح وألف خضر وخضر، وليس المهم اسمه (الذي لا يُشار إليه أبدًا) وإنما وظيفته المغايرة لمفاهيم النبوة والولاية، فهو:

– صاحب معرفة باطنية سرية حدسية من لدن الله تعالى.

– لا يتقيد بدينٍ معين، وإنما ينتسب إلى جوهر الأديان جميعًا.

– لا تثبت عنه طقوس أدائية معينة، بقدر تأكيد الإيمان الحدسي العميق والمعرفة اللدنية.

–  مهمته دائمًا عمارة الأرض وجعلها أكثر جمالًا وكمالًا وسلامًا وعدلًا واخضرارًا.

مؤمن كوني

هل الخضر “مؤمن كوني” عابر للأديان والمذاهب؟ هل هو متجاوز لقيودها وطقوسها سعيًا إلى “رحابة” تتسع للاهوت والناسوت معًا؟ أي أنه قد حل الازدواجية بين خبر السماء وعمارة الأرض، ففعل كل ما يُرضي الله ويفيد الناس جميعًا في الوقت نفسه. إنه “عبد صالح” ليس شرطًا أن يكون معروفًا بالاسم، ولا منتميًا إلى دين بعينه.

بهذا الفهم لوظيفة الخضر، فقد يكون “العبد الصالح” هو نفسه سقراط الذي أقام شوقي بينه وبين النبي نسبًا فكريًا في قصيدته “ولد الهدى”..

قد يكون تولستوي الذي ارتبط بصداقة مع الإمام الأزهري محمد عبده، وفُسرت بأنها صداقة فكرية إنسانية، وقناعتي أنها “روحانية” في المقام الأول.

قد يكون غاندي هذا الرجل ضعيف البنية الأعزل من أي سلاح الذي جاء يسعى كي يواجه أقوى إمبراطورية في العالم ويهزمها.

قد يكون هو آينشتاين الذي اكتشف أو أُلهم فهمًا للكون وحركة الأجرام، برغم إنكار العديد من العلماء الكبار لما توصل إليه آنذاك.

ما علاقة يورجن كلوب؟

قد يكون العبد الصالح يورجن كلوب، فهو ليس مجرد مدرب كرة قدم محظوظ، أو صاحب قصة نجاح ملهمة. لكنه جسد قيم الإنجاز والسعادة والسلام والتسامح بين البشر، وتعامل مع لاعبيه بروح الأب والمُعلم كي يخرج أفضل ما لديهم. ولو عممنا نموذج كلوب في كل المجالات، لأصبحت الحياة خضراء مزدهرة تتسع للجميع، دون أن يتعارض ذلك مع الإيمان. وتلك وظائف العبد الصالح.

يورجن كلوب

 

ربما يحاجج البعض بأن وظيفة الخضر “إيمانية”، وهذا لا ينطبق على سقراط وغاندي وتولستوي وكلوب.. لكن الحقيقة أنهم جميعًا يعبرون عن الإيمان بالله وبالحياة في الوقت نفسه. والعبد الصالح لا ينتسب بالضرورة إلى دين معين، وليس لديه مهمة “إبلاغية” كالرسل.. أي أن وظيفته لا تقوم بالضرورة على وحي وسيط، بقدر ما هي ممارسة  عملية وروحانية تخدم نماء الحياة، من هنا جاء ربطه بصفة الإخضرار دون أية صفة أخرى.

فكل من يقر بربوبية الله، ويسعى لإعمار الأرض والارتقاء بها، هو تجلٍ لمفهوم “العبد الصالح”، ليس لبراعته في الالتزام بطقوس معينة، وإنما في المعرفة اللدنية والحدسية التي قد وهبت له، وما سعى إليه ـ عبر مجاله ـ من جمال وكمال وسلام وعدل بين البشر جميعًا.

ولربما لا يدرك هذا العبد الصالح أنه “مصطفى”، وإلا ادعى لنفسه مكانة أو بحث عن نبوة وولاية. فلأقرب ـ حسب فهمي للآيات التي تناولت هذا النموذج ـ أن العبد الصالح أداة لإنفاذ حكمة أو حكم إلهي، سواء أدرك أو لم يدرك ذلك. وتحتاج حياتنا دائمًا إلى مثل هؤلاء العباد الصالحين أو المؤمنين الكونيين.

لأن العبد الصالح مُلهم ومُسخر كي يضيف إلى الحياة ويسعد البشر، لا أن يعرّفهم بطقوس دين معين. ولا تتوقع حين تلتقي يومًا ما، بالعبد الصالح أن ينتمي إلى دينك الذي تعتنق، بقدر ما سيبدو لك في عرفانيته وسلوكه كأنه قد أدرك جوهر دينك أفضل منك، حتى ولو كان على دينٍ سواه.

فعباد الله الصالحون هم تجليات ودرجات للوظيفة ذاتها.. مُلهَمون ملهمِون.. هم مواهب عظيمة، وهم من يعرفون الله ويحسنون إلى البشر جميعًا. وبهم تخضر الحياة وتزدهر.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *