في مراهقتي لفتت نظري قصة “يوسف وزليخة” وأدهشني أن سورة تروي “أحسن القصص” تضمنت قصة حب بطلتها امرأة ذات نفوذ ونبي لا مثيل له في الحسن. وكان التفسير الشائع يرسم لزليخة صورة سلبية، فهي امرأة تفتقر إلى الحياء لا تخجل من مطاردة شاب، برغم أنها متزوجة من رجل ذي نفوذ، وحين ينكشف أمرها تكذب بكل سهولة، كي يسجن النبي البريء.
كان التفسير يُضاف إليه -لا شعوريًا- مخزون الفرجة على الأفلام العربية التي ترسم صورة نمطية للمرأة اللعوب المغوية التي تفسد أخلاق الشباب وتخرب البيوت.
الاستعانة بالمرويات الإسرائيلية
تناول القرآن الكثير من القصص التوراتي، لذلك لجأ المفسرون الأوائل إلى القصص الشعبي اليهودي أو ما يسمى “الإسرائيليات”، ومعظم من وثقوا تلك القصص كانوا في الأصل من اليهود مثل وهب بن منبه. والقصة في خطوطها العامة تسير على نسق القصص اليهودي الذي ينظر للمرأة بوصفها أصل الخطيئة. ولو عدنا إلى الأسماء فهي زليخة أو راعيل بنت رماييل، وعند ابن الجوزي “زليخا بن تمليخا”، وزوجها عزيز مصر يدعى “بوتيفار/قطفير/فوطيفار”، وقيل إنها بنت ملك المغرب “هيموس” وأخت الملك “الوليد بن ريان”.
حسب سفر التكوين: “وَاشْتَرَاهُ فُوطِيفَارُ خَصِيُّ فِرْعَوْنَ رَئِيسُ الشُّرَطِ، رَجُلٌ مِصْرِيٌّ، مِنْ يَدِ الإِسْمَاعِيلِيِّينَ”، الإشارة إلى الإسماعيليين تعني أبناء اسماعيل يعني “العرب”. وبالنظر إلى غرابة الأسماء واختلافها، فمن الواضح أن القصة كانت رائجة بين ثقافات مختلفة، واستمرت عبر الروايات الشفاهية عمليات الإضافة والتحوير فيها، لذلك ثمة أسماء عربية وعبرية وربما فارسية. والغريب إصرار مفسري التوراة على أن “السيدة المصرية” برغم أن اسمها ليس مصريًا؟!
هئت لك
بينما اختار القرآن تعبيرًا ملطفًا “هيت لك” أو “هئت لك” (سورة يوسف/23) استعملت التوراة تعبيرًا مباشرًا “اضطجع معي” (سفر التكوين/ 39)، وتُساق القصة كمفارقة بين الطهر والعفاف وحب الله (يوسف)، والشهوة والغريزة والخطيئة (زليخة). مع إضافة بهارات كثيرة، منها تأويل “همّ بها” فمن يقول إنه نزع سرواله بالفعل، ومن قائل بأن الهم “خطور الفكرة في باله دون العزم بها”، وثالث يرى أن يوسف مال إليها عاطفيًا لكن حب الله والخوف منه كانا أقوى.
وإذا كانت الإشارة التوراتية صريحة بأن زوجها “خصي الفرعون” توحي بالمفارقة الشاسعة بين جمالها وشهوتها، وعجز زوجها، فثمة من يتحفظ على ذلك حتى لا يمنح مبررًا لتصرفها غير الأخلاقي. ولا ننسى أن الخصي يعزز فرضية أن القصة لا علاقة لها بمصر التي لم تعرف ذلك السلوك.
أيضًا تنوعت التأويلات حول “برهان ربه” فقيل سمع صوت أبيه يعقوب، أو ناداه جبريل، أو الثوب نفسه نطق بالحق، أو البرهان نور داخلي حجبه عن الخطيئة وليس شيئًا ماديًا. كما قيل إنه رآها تستر تمثالًا فسألها لماذا تفعل ذلك؟ فقالت: أستحي أن يراني إلهي (التمثال)، فتعجب كيف تخجل من صنم ولا يخجل هو من الله!
تفسير مسيحي
يقول الأب قيصريوس: “أظن أنها لم تكن تحبه ولا تحب نفسها. لو كانت تحبه لماذا أرادت تحطيمه؟! ولو كانت تحب نفسها لماذا أرادت إهلاك نفسها؟! إنها لم تكن تحب لكنها كانت محترقة بسم الشهوة، ولم تكن مشرقة بلهيب الحق”.
هذا الانتقاص الحاد منها يتناسب مع عصمة يوسف وطهره، بينما يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يوسف أحبها بحق عمليًا، ففي حديثه معها لم يجرح مشاعرها بكلمة قاسية ولم يتفوه بكلمة أنها تزني.
أي ثمة ارتباك في التأويل المسيحي هل كانت القصة صراعًا بين محض الشهوة ومخافة الله، أم كانت حبًا لا يخلو من ميل حسي وعاطفي من قبل يوسف، وانجذاب عنيف وصاخب من قبل زليخة؟!
هنا يمكننا أن نفسر “الهم” بأنه ليس مجرد خطور الرغبة على باله، وإنما هو انجذاب عاطفي أيضًا.
ومضات روحانية
إذا استأنسنا بتفسير القرطبي، فإن زليخة لما اقتربت منه، دار بينهما حوار:
ـ يا يوسف، ما أحسن صورة وجهك
ـ في الرحم صورني ربي
ـ يا يوسف، ما أحسن شعرك!
ـ هو أول شيء يبلى مني في قبري
ـ يا يوسف، ارفع بصرك فانظر في وجهي
ـ إني أخاف العمى في آخرتي
ـ أدنو منك وتتباعد مني!
ـ أريد بذلك القرب من ربي
هذا الحوار يضع القصة كلها في إطار حب متبادل، وتكون المفارقة بين الحب الأرضي والسماوي، وليس بين الحب والشهوة. كان ثمة حب لكنه يتنافى مع مقتضيات الإيمان، قاومه يوسف بينما عجزت زليخة عن كبح مشاعرها. لهذا السبب أشار بعض المفسرين المسيحيين أنه لم يصفها بسوء.
ولا تخلو هذه التأويلات من منظور روحاني، حيث ضحى يوسف بحب أصغر في سبيل حب أكبر، بينما كانت زليخة تخوض ولادة روحانية صعبة تحت وطأة حبها المستحيل له.
زواج غريب
تستند جل المرويات إلى وهب بن منبه، في استكمال القصة، حيث خرج يوسف من السجن وأصبح عزيز مصر وتزوج وأنجب ولدين، بينما شاخت زليخة وأصابها الفقر بعد موت زوجها، مع ذلك لم يذبل حبها، ولما تزوجها يوسف اكتشف أنها كانت عذراء فقالت له إن زوجها كان عنينًا. وثمة من ينسب ولديّ يوسف إليها.
جاء في إحدى الروايات أنها قعدت له في الطريق وقالت: سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيداً، وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فقال لها يوسف: أنت هاتيك؟ فقالت: نعم، فقال: هل لك فيّ؟ قالت: دعني بعدما كبرت، أتهزأ بي؟ قال: لا، قالت: نعم، فأمر بها فحُوّلت إلى منزله، وكانت هرمة، فقال لها يوسف: ألست فعلت بي كذا وكذا؟ فقالت: يا نبي الله، لا تلمني، فإني بليت ببلية لم يُبْلَ بها أحد، قال: وما هي؟ قالت: بليت بحبك، ولم يخلق الله لك في الدنيا نظيراً، وبليت بحسني فإنه لم تكن في مصر امرأة أجمل مني، ولا أكثر مالاً مني، نزع عني مالي وذهب عني جمالي، فقال لها يوسف: فما حاجتك؟ قالت: تسأل الله أن يردّ عليّ شبابي، فسأل الله، فردَّ عليها شبابها، فتزوّجها، وهي بكر”.
شِعر الجامي الفريد
ربما لم ينشغل أحد بتخليد قصة حب زليخة ويوسف مثل الفُرس، نظموها نثرًا وشعرًا، كما أضفت عليها الأدبيات الصوفية روحانية تبعدها عن التنميط الجاهز باعتبار يوسف رمز الجمال الجسدي والروحي، وزليخة رمز الخطيئة.
“يا جامي، ما دمتُ قد شببت في العشق، فكن خفيف الروح، ومت عاشقًا”. هكذا يخاطب عبد الرحمن الجامي الشاعر الفارسي نفسه في مطلع نصه، حيث كان مولعًا بقصص الحب مثل مجنون ليلى وخسرو وشيرين وعلى نهجهما أبدع “يوسف وزليخة”.
يُخلص الجامي زليخة من الفحش، فقد “غرستْ في قلبها غصنًا لمحبته”، ويجعلها أقرب إلى ضحية الجمال اليوسفي، وبما أنها كانت “أسيرة الصورة، فإنها لم تكن عارفة في البداية بالمعنى”.
أحبته زليخة حبًا طيفيًا حيث تراءى لها في المنام، قبل أن تراه في الحقيقة، ومن أجل اللقاء به قبلت الزواج من عزيز مصر، وحين رأته معروضًا للبيع اشترته بكل ما تملك من جواهر، وسخرت نفسها لخدمته لكنه لم يبادلها الحب، فأصبحت “طائرًا حزين الأنغام”، وكانت تلقي كل ما تملك من جواهر تحت قدمي كل من يُسمعها قصة يوسف، “حتى خلت يدها من كل ما تملك” ومع ذلك أقامت لنفسها كوخًا في طريق يوسف، تارة تناجي الريح عنه، وأخرى تبحث عن شبيه له بين الطيور.
إلى أن أدركت أنها تتعبد “صنمًا”، فقالت: “يا محطم عزي وجاهي، أينما ذهبت فأنت حجر عثرة في طريقي”، و”سوف أتحرر من عارك بأن أحطمك بحجر”. ثم تأتي النهاية بعدما يتزوجها يوسف ويرد إليها شبابها، وبدلًا من تعبير المؤرخين والمفسرين المباشر بأن زوجها عنين يقول الجامي على لسانها: “إني ما شاهدتُ أحدًا سوى العزيز، إلا أنه لم يقطف برعمًا من بستاني”.
قدم الجامي نصًا فريدًا حمل اسمي “يوسف وزليخة” لكنه في الحقيقة نص زليخة ورحلتها العرفانية العميقة، فهي العاشقة وما يوسف إلا موضوع عشقها.
رواية الغزالي
تطرق أبو حامد الغزالي (1058 ـ 1111م) إلى القصة ذاتها، في كتاب “مكاشفة القلوب المُقرب إلى حضرة علام الغيوب” ولا يُستبعد أن يكون ما كتبه -إذا صحت نسبة الكتاب إليه- قد أثر في عبد الرحمن الجامي (1414 ـ 1492م) حيث ذكر أنها كانت تهدي قلادة لكل من يقول له “رأيتُ يوسف”، وتُسمي كل شيء باسم يوسف، وإذا رفعت رأسها إلى السماء رأت اسم يوسف مكتوبًا على الكواكب.
وربما كان الغزالي أكثر توضيحًا لانتقال زليخة من حب الصورة إلى حب المعنى، حيث سوفت الاتصال به -بعد زواجهما- وقالت له: “إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه”. وفي النصين ما يوحي بأن زواجهما كان تدبيرًا إلهيًا.
وهكذا رد الأدب الصوفي الاعتبار إلى زليخة، وصور أحسن تصوير رحلتها العرفانية بحثًا عن الحب وإخلاصها الفريد لمعشوقها، وهي صورة بعيدة كليًا عن الفهم السطحي للقصة المعروفة، لأنها لم تكن مجرد امرأة مترفة شهوانية وخائنة، وإنما عاشقة عظيمة استحقت أن يعتذر لها يوسف ويقيم باسمها معبدًا.