مَن منا لم يسمع هذه الأغنية الشعبية الشهيرة: “يا وابور الساعة 12” ؟ أعتقد أن أغلبنا استمتع بهذه الأغنية، لكن ربما لم يسمع جيل الأبناء بهذه الأغنية، أو ربما استمع لها ولم يهتم بمعانيها الدرامية والمثيرة:
يا وابور الساعة اتناشر يا مقبل ع الصعيد
حبيبي قلبه دايب وإنت قلبك حديد
وأنا سهرانة من شوقي والنوم عني بعيد
بعيد عني بعيد من مصر للصعيد
ما هذا “الوابور” وما حكاويه مع المصريين التي جعلتهم يغنون له؟
الوابور هو تعريب كلمة Vapour وتعني البخار، ويُطلِق المصريون هذه الكلمة على كل شيء ينتج عنه بخار، فهو يُطلَق أساسًا على القطار، وهو المعنى المقصود في الأغنية السابقة، كما يُطلَق أيضًا على السفينة التي تُدار بالموتور والنفط، وربما نشاهد ذلك في فيلم “صراع في النيل” ورحلة أبطال الفيلم إلى القاهرة لشراء “الوابور” بديلاً عن المركب الشراعي التقليدي، كما تطلق أيضًا على “وابور الجاز” الموقد الذي يُشعَل بالجاز، والذي اختفى من بيوت المصريين منذ عقود ليحل محله “البوتاجاز”.
لكننا سنقصر حديثنا هنا على حكاية الوابور الكبير، القطار، أو القطر كما ينطقه أهل مصر، ومدى ارتباط حياة المصريين بالقطار عبر ما يقارب القرنين من الزمان.
ربما لا يعرف البعض منا أن مصر كانت من أوائل الدول التي عرفت القطار على مستوى العالم؛ إذ دخلها في وقت مبكر جدًا، مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى عكس كل مظاهر التحديث التي عرفتها مصر مع تجربة أسرة محمد عليّ، لم يدخل القطار إلى مصر بإرادة مصرية، أو رغبة في التحديث، وإنما بإرادة استعمارية وفي إطار الصراع الدولي في القرن التاسع عشر على خطوط المواصلات الدولية!
تاريخ القطار الأول بمصر
دخل القطار مصر في عهد الوالي عباس الأول (1848- 1854) كمشروع إنجليزي صرف، في محاولة من بريطانيا لعرقلة المشروع الفرنسي لحفر قناة السويس؛ إذ بدأت الأطماع الفرنسية في حفر قناة السويس للربط بين الشرق والغرب، والسيطرة على طريق البحر الأحمر، في محاولة لمناكفة إنجلترا والضغط على الطريق الرئيسي للوصول إلى الهند، التي كانت قد أصبحت أهم المستعمرات الإنجليزية.
رفض محمد عليّ مشروع قناة السويس لأنه سيفتح الباب أمام الصراع الدولي على مصر، وسيكون بمثابة مضيق البوسفور في استانبول، والصراع الدولي للسيطرة عليه والتدخل في شئون الدولة.
لكن فرنسا عاودت طرح الفكرة من جديد على عباس الأول -حفيد محمد عليّ- وهنا تدخلت بريطانيا وعارضت من جديد تنفيذ هذه الفكرة. واقترحت بريطانيا على عباس مشروعًا بديلاً، أنه إذا كان الغرض هو ربط البحرين، المتوسط والأحمر، لخدمة المواصلات الدولية وحركة البضائع والبريد، فإنه يمكن تحقيق ذلك من خلال خط سكك حديدية يربط ما بين الإسكندرية والقاهرة، ثم يمتد بعد ذلك ليصل إلى ميناء السويس على البحر الأحمر، وبذلك يتم ربط البحرين عن طريق السكك الحديدية، بديلاً عن المشروع الفرنسي لحفر قناة صناعية لربط البحرين، مما يؤدي إلى تعاظم النفوذ الفرنسي في المنطقة، ويتعارض مع المصالح البريطانية.
قطار بديلا عن حفر القناة!
واقتنع الوالي عباس الأول بوجهة النظر البريطانية، نظرًا للطبيعة المحافظة لعباس، وخوفه من أن حفر القناة سيزيد من الصراع الدولي على مصر، وتدويل المسألة المصرية. من هنا بدأ المشروع الإنجليزي في مصر لإدخال السكك الحديدية، بدايةً بالخط الذي يربط بين الإسكندرية والقاهرة، على أن يمتد بعد ذلك ليصل إلى ميناء السويس.
وشهدت الدبلوماسية الدولية صراعًا حادًا كان مسرحه العواصم التالية: لندن وباريس واستانبول والقاهرة، في محاولة لترجيح أحد المشروعين: المشروع الفرنسي عبر حفر قناة السويس، والمشروع الإنجليزي عبر الربط بين البحرين بالسكك الحديدية.
وفي البداية نجحت بريطانيا في ترجيح مشروعها، وشق الخط الحديدي بين الإسكندرية والقاهرة. لكن سرعان ما قُتِل عباس الأول في ظروفٍ غامضة، ووصل إلى الحكم في مصر سعيد باشا، لينجح من خلاله الفرنسي ديليسبس في تمرير مشروع حفر قناة السويس، رغم معارضة كل من بريطانيا والدولة العثمانية.
على أية حال خرجت مصر من هذا الصراع الدولي مستفيدة أنها كانت من أوائل الدول التي عرفت القطار على مستوى العالم، لتبدأ مصر حكاية طويلة ومثيرة مع “الوابور” أو القطار.
شكرا استاذنا على هذا الشرح الرائع