أحدث الحكايا

منير عتيبة يحكي: يوم تنازلت عن الجائزة الأولى (1-2)

تشعر بالسعادة عندما تكتب عملًا جديدًا، لكن السعادة تكون مضاعفة أحيانًا عندما يكون العمل مفاجئًا لك أنت نفسك أثناء كتابته، وبعد أن تقرأه مرة ومرات.

الجمعة 24 ديسمبر 2004؛ لا أنسى فرحتي ببزوغ فكرة ضبابية في ذهني وأنا في القطار عائدًا من القاهرة إلى الإسكندرية. أخرجت ورقة وقلمًا وبدأت أكتب، شعرت أن هذه القصة التي لا أعرف اسمها ولا ملامحها بعد ستموت إن لم تولد الآن. انتهيت منها في منتصف الطريق، أعطيتها اسم “تسع خرزات زرقاء من أجل القادم”، قرأتها عدة مرات؛ أصحح كلمة، أغير جملة، أعيد ترتيب فقرة، حتى وصلت إلى الإسكندرية. في اليوم التالي كتبتها على الكمبيوتر مع إجراء تعديلات أخرى، وأرسلتها إلى صديقي المبدع وائل وجدي.

وضحتْ لي أكثر بعض أفكاري الفلسفية والفنية التي انبثت بشكل أو بآخر في أعمال سابقة، وجدتني أكتب القصة القصيرة جدًا دون أن أدري، وأجعل من مجموعة منها قصة واحدة بإطار وفكرة محددة، وتطور درامي لا يسير في اتجاه خطي بل بتوازٍ زمني يجعل من السهل تغيير مواقع الفقرات دون أن يؤثر على حبكة القصة، إضافة إلى المزج بين عناصر الواقع مع الفنتازيا ليتلقى القارئ الفنتازيا بصفتها أحد مكونات الواقع، واتضحت لي أكثر علاقتي بالزمن الذي وجدتني أتامله وأعبر عنه، وألعب معه وبه في معظم ما كتبت. كل هذه الأفكار تجسدت أمامي وأنا أعيد قراءة القصة وأناقشها مع أصدقائي، فبدأت تصبح في منطقة من الوعي أكثر إضاءة، حتى اشتغلتُ عليها في روايتي الأحدث “حكايات عزيزة” التي حاولت فيها اللعب بفكرة تخصني وهي “الفقرة الروائية”، وهي فكرة يمكن أن نتحدث فيها كثيرًا في وقت آخر.

منير عتيبة

أول جائزة للقصة القصيرة

في حوالي منتصف عام 2005 فوجئت بوائل وجدي يتصل بي ليهنئني على فوز قصتي “تسع خرزات زرقاء لأجل القادم” بجائزة مجلة هاى الأمريكية في القصة القصيرة العربية، قلت له: إنني لا أعرف ما مجلة هاي هذه، ولم أقدم في أية مسابقة، قال: أنا قدمت لك القصة، وفازت بالجائزة.

شجعني هذا الفوز على تقديم قصصي في مسابقات أخرى، ولاحظت أن المسابقات التي أتقدم لها بنفسي لا أفوز فيها، أما القصص التي يقدمها وائل وجدي فهي التي تفوز. ففزت بفضل وائل في العام التالي 2006 بثلاث جوائز؛ جائزة إحسان عبد القدوس في القصة القصيرة، و جائزة جمعية الأدباء في القصة القصيرة، وجائزة ساقية الصاوي في القصة القصيرة العربية. حتى أنه عندما كان يمر شهران أو ثلاثة بدون جائزة تسألني زوجتي مستغربة: ألم يتصل بك وائل لإخبارك بالفوز في جائزة ما؟

مر عام 2007 بدون جوائز حتى أصبح موقفي الأدبي في بيتنا غير لائق! فجاءت 2008 بجائزتين، إحداهما حصلت عليها وهي جائزة إحسان عبد القدوس في القصة القصيرة للمرة الثانية، والأخرى تنازلت عنها، ولهذا التنازل حكاية. (يبدو أنني استنفدت المرات المسموح لي فيها بجوائز في تلك الفترة فظللت لثلاث سنوات بعدها أقدم في مسابقات ولا أفوز).

بعد فوزي بجائزة ساقية الصاوي عام 2006؛ تعرفت إلى الناقدة المبدعة د. لبنى إسماعيل، وأعطيتها نسخة من قصة “تسع خرزات زرقاء من أجل القادم” فأعجبتها، وحدثتني عنها كثيرًا.

 

أثناء استلام الكاتب جائزة إحسان عبد القدوس

 

فوجئت بتليفون من شخص يقول إنه من ساقية الصاوي وأنني فزت بالمركز الأول في مسابقة القصة القصيرة العربية التي تنظمها الساقية لعام 2008. لم أتقدم بقصة للمسابقة، فاتصلت بوائل وجدي أسأله، لكنه أيضًا لم يفعل، الأمر أحاطه غموض لم يستمر طويلًا إذ اتصلت بي د. لبنى إسماعيل تهنئني على الفوز وتخبرني أنها كانت في الساقية وقرأت إعلان المسابقة، وبالصدفة كانت القصة في حقيبتها، فقدمتها بدلًا عني، ونسيت أن تخبرني.

كان حفل توزيع الجوائز منظمًا وبديعًا، سلمني شهادة التقدير وشيكا بثلاثة آلاف جنيه كل من م. محمد عبد المنعم الصاوي مؤسس “الساقية” ورئيس لجنة التحكيم الكاتب الراحل فؤاد قنديل رحمه الله. كان معي هدية لكل من أقابله يومها، نسخة من مجموعتي القصصية الأحدث “كسر الحزن”. وبالمناسبة اسم “الساقية” ينسب إلى ثلاثية روائية اسمها الساقية والرحيل تحولت إلى مسلسل تليفزيوني، كتبها عبد المنعم الصاوي.

المجموعة القصصية كسر الحزن لمنير عتيبة

تراجع عن الجائزة!

جلست مع بعض أصدقائي من المبدعين والصحفيين في حديقة الساقية بعد انتهاء الحفل، فوجئت بموظف من مكتب م. محمد الصاوي يطلب مني مقابلة “الباشمهندس”. ذهبت إليه، حدثني طويلًا عن قصتي التي قرأها بنفسه، ومدى إعجابه بها، وبراعتي، وموهبتي.. إلخ، فسألته لماذا يقول كل هذا؟ هناك شيء محرج يريد أن يخبرني به. قال: المجموعة القصصية التي أهديتها لأعضاء لجنة التحكيم بها سيرتك الذاتية. قلت: وما المشكلة؟ قال: أحد أعضاء اللجنة قرأ السيرة، فوجد أن قصة “تسع خرزات زرقاء من أجل القادم” فازت بجائزة أمريكية. قلت: وما المشكلة؟ قال: من شروط مسابقتنا أن لا يكون العمل المتقدم لها قد فاز بأية جائزة أخرى. قلت: آه. فهمت. وإذن فقصتي لم يكن يحق لها أن تدخل المسابقة أصلًا. قال: نعم. ولا أدري ماذا نفعل؟ قلت له: الأمر بسيط. أولًا نؤكد ونتفق على نقطة مهمة، د. لبنى إسماعيل لم تكن تعرف أن القصة فازت بجائزة من قبل. وأنا لم أكن أعرف شروط المسابقة أصلًا. وبالتالي فلا يوجد سوء نية أو شبهة تحايل منها أو مني، خصوصًا أنني أهديت أعضاء لجنة التحكيم نسخة من الكتاب الذي يشير إلى حصول القصة على جائزة سابقة. قال: لا تحتاج إلى تأكيد ذلك، د. لبنى تتعامل مع الساقية منذ سنوات، وهي فوق كونها ناقدة كبيرة هي أيضًا إنسانة نبيلة تتعامل بمستوى راق من الأخلاق العالية، وأنت عرفتك الآن وأثق فيك. قلت له: إذن لم يبق إلا أن أعيد لك الشيك وشهادة التقدير، تفضل!. تناولهما مني وعلى ملامحه تعجب من بساطة وسرعة القرار. لدرجة أنه قال: سننظم حفلًا مستقلًا لك لمناقشة هذه القصة وباقي أعمالك. لم ينظم الحفل حتى الآن، ولم أعتبر هذا وعدًا بقدر ما هو امتنان لحل مشكلة كبيرة بتلك البساطة.

محمد عبد المنعم الصاوي

 

كان تعجب أصدقائي مما حدث أكبر، ولامني بعضهم لإعادة الشيك والشهادة، لكني أكدت ارتياحي لما فعلت، فهذه جائزة لا أستحقها إداريًا، وإن استحققتها فنيًا. وكان الغضب الشديد الذي أبداه صديقي وائل وجدي سببًا في هدوئي، فقد وجدتني أحاول تهدئة وائل والتخفيف عنه لا العكس!

ذهبت للمبيت مع صديقي المخرج الإذاعي محمد خالد في بيته، سهرت طوال الليل أقرأ رواية رضوى عاشور “قطعة من أوروبا”، حتى أنهيتها في الصباح فأنستني ما حدث.

رواية قطعة من أوروبا لرضوى عاشور

 

كان هذا يوم أربعاء، وبعده بيومين، يوم الجمعة، فوجئت بمديري الإنجليزي “براين دلجارنو” يخبرني أنه اتفق مع العضو المنتدب للشركة التي أعمل بها “إيلي بارودي” على أن تقدم لي الشركة منحة للحصول على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال MBA من الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بتكلفة تزيد عن 30 ألف جنيه تتحملها الشركة كاملة. هذه المنحة التي لم أطلبها خاصة أنني لم أكن أعرف ما هي ال MBA أصلًا، فاتصلت بأصدقائي أسألهم عنها!

بعد سنوات قابلت القاص محمد إيهاب، فوجئت به يقول لي؛ في أول مقابلة لنا، أتعرف أنني أحبك؟ قلت له محرجًا: ألف شكر، ربنا يحبك. قال: أتعرف لماذا أحبك؟ قلت: لماذا؟. قال: أتذكر عندما تنازلت عن جائزة ساقية الصاوي بدون مشاكل؟ قلت له: نعم. قال: في هذه الليلة صعدت الساقية الفائز بالمركز الثاني إلى المركز الأول، والفائز بالمركز الثالث إلى المركز الثاني، وهذا رفع من قيمة جائزة كل منهما، وكان كل منهما في حاجة ماسة وحقيقية إلى فارق الجائزة التي كان سيحصل عليها والجائزة التي حصل عليها بالفعل بعد التصعيد، وكنت أنا أحد هذين الفائزين.

عن منير عتيبة

روائي وقاص وكاتب للأطفال والدراما الإذاعية، مؤسس ومدير مختر السرديات بمكتبة الإسكندرية، رئيس تحرير سلسلة كراسات سردية التي يصدرها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، مقرر لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس الأعلى للثقافة، عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة (2013 - 2019)، وقد حصل على العديد من الجوائز منها جائزة اتحاد الكتاب.

49 تعليقات

  1. الذكريات دي محتاجة تتجمع في مقال والله يا أستاذي.. سلمت وغنمت ..

  2. ما هذا الجمال🙏

  3. الشاعرة هدى عزالدين محمد

    صاحب الاخلاق الراقية وسمو النفس أستاذ منير عتيبة دائما افتخر بك

  4. راندا محمد حجي

    حضرتك انسان راقي جدا حقيقي
    دام إبداعك ودام تميزك وعطائك استاذي العزيز

  5. سرد لطيف وسلس ومشوق وفيه حكايات وذكريات جميلة
    وفقك الله أستاذنا المحترم وأكثر الله من جوائزك

  6. الستاذ منير عتيبة.. يحرص دائما ألا يقدم عملا إلا بعد المراجعة مرات عديدة.. كما يحرص دائما على التجريب، ولذلك تخرج أعماله باستمرار تستحق القراءة والتأمل للوصوفإلى الرؤية المضمنة فى سطور العمل. وأنا شخصيا انتظر كل جديد له

  7. ليس غريبا عليك النبل ودماثة الخلق أستاذ منير عُتيبة

  8. نبيلة المسيري

    دام رقي التصرف وكل التهاني بالجوائز والذكريات التي تنسجها الأيام
    ونعتز بها.

  9. منة الله عسل

    إنسان عزيز أمين.. حفظك ربي يا أستاذي..

  10. د.حنان الشرنوبي

    حفظكم الله ومتعكم بالنجاح والانجاز دوما

  11. أحييك أستاذ منير وأؤيدك في كل ما فعلت. لقد حصلت على جائزة الشرف الأدبي وهي لاتقدر بالملايين

  12. محمد الحديني

    أخلاق الفرسان والنبلاء

  13. هناء الوصيف

    دام الجمال والله، مقال ممتع يا استاذ منير

  14. سرد جميل كالعادة.. أخذتنا في رحلة ممتعة ❤️❤️

  15. هشام مقدادي

    يتحدث منير عتيبة بواقعية لا ينقصها النقاء المعتاد في كتاباته، وبكل يسر يستطيع تحويل عدد من ذكرياته إلى نص سردي بهيج يلامس القارئ دون تكلف وهو بذلك يمحو المسافة بين المبدع والمتلقي ليكونا على تماس وتقارب حميم

  16. دام الإبداع البديع والتألق والتميز والبهاء والعطاء المبدع البديع دمت فى تقدم دائم نحو الجيد وصائا للجوائز تحياتي

  17. الكاتبة أمينة الزغبي

    أخلاق عالية وقناعة ورضا، وأري أنه ثقة عالية بالنفس أيضا، وتصرف من رجل يحب الحق ولا يحيد عنه، فعوضه الله بما يليق به سبحانه، لأن الحق حبيب الرحمن.. دمت مبدعا متألقا خلوقا أستاذ منير عتيبه

  18. اخلاقك عاليه استاذنا وربنا يديم ابداعك كمان وكمان 🌹🎉😊

  19. فاطمة فهمي أحمد

    هذا تصرف النبلاء يا استاذنا دام إبداعكم💐💐💐💐

  20. دائما أنت عنوان للنبل والرقي أستاذ منير، لهذا أحبك وأقدرك وأحترمك..
    قلم بديع لمبدع رائع ونزيه

  21. أستاذنا الراقي / منير عتيبة.
    طريقة كتابة رواية حكايات عزيزة؛ حقا ماتعة ومميزة ونحييك عليها.
    تنازل حضرتك عن الجائزة؛ تصرف حسن، لقد أنقذت د/ لبني إسماعيل من موقف محرج للغاية، فهي من قدمت القصة للمسابقة.
    المهم في الأمر، هو شعورك بأن هذه القصة رائعة بشهادة أمريكية، وأخرى عربية، لهو شعور يفوق الوصف.
    يبدو أن هذه القصة محظوظة يا أستاذنا، وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا قصة بعينها؛ تلفت الأنظار دون غيرها؟
    ربما الأسلوب؟ ربما الفكرة؟ هل عجز كل المقدمين للمسابقة عن كتابة قصة تنافس روعتها؟ أم ربما يكون الحظ!
    في النهاية؛ نجد الجواب الذي لا شية فيه، أنها الفائزة باتفاق أعضاء اللجنة، وهذا أمر صحيح قانونا وعرفا.
    تحياتي لهذه القصة وكاتبها.

  22. ماهر خلف مترى

    حينما يكون المبدع إنسانا قنوعا واثقا بموهبته و يسعي بجدية فتساعده القوى العلوية بمحبين يعضدونه
    سرد شيق تاريخ مشرف تحياتى ا. منير 🌹

  23. أحب قراءة تجارب منير عتيبة مع الكتابة.. أثارتني فكرة التقديم للجوائز عن طريق الٱخرين.. الٱخر هو في المقام الأول قارئ يقدم العمل بوجهة نظر قريبة من لجنة التحكيم بينما الكاتب يقدم العمل من وجهة نظره ويختار المحبب إلى قلبه فينقلب الوضع بالنسبة إلى الجوائز .. دائما الجوائز يقارنها نسبة من الحظ وذائقة لجنة التحكيم هذا بعيدا عن مقاييس الكتابة بالتأكيد. اعجبني المقال ومزيدا من التوفيق.

  24. الجوائز مؤشر جيد علي صدق الموهبة.. وربما حتي هذه اللحظة كانت
    نزيهة..الا ماتلا ذلك خفتت النزاهة والإخلاص للفن في التقييم .
    لتظهر الشلل والتربيطات… تحياتي لشخصك الكريم

  25. يدوم الإبداع. بالتوفيق دايما

  26. عُمر سُليمان القَشوطي

    تروقني مثل هذه المقالات التي تخص ما وراء الكاتب وسيرته المباشرة وكواليس كتبه وجوائزه..
    أ.منير لا نذكيك على الله والله حسيبك، عرفناك رفيع الأخلاق والأدب معنا ومع غيرنا، ومنك نتعلم كيف يكون الأديب الخلوق الراق.. 🌸
    شكرًا لما تهدينا إياه من سيرتك الطيبة 🌺🌷

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *