يعيش العالم كله لحظات سياسية واقتصادية صعبة، وصراعات لا تنتهي على كل المستويات. لو كنت تريد صورة حية لأثر هذه الأوضاع على المجتمع الغربي، فما عليك إلا أن تتابع ما جرى خلال حفل افتتاح مهرجان برلين السينمائي الرابع والسبعين، بل ما سبقه من جدل كاد يعصف بالدورة كلها.
لنفهم السياق يجب ملاحظة كونها دورة انتقالية، هي الأخيرة للإدارة الحالية المشكلة من الثنائي ماريته ريزنبيك مديرًا إداريًا وكارلو شاتريان مديرًا فنيًا. الإدارة التي لا يمكن وصفها إلا بسوء الحظ، فقد جاءت بعد فترة من الرخاء عاشها المهرجان تحت إدارة ديتير كوسليك التي استمرت 19 عامًا كاملة (2001-2019)، لتُفاجئ بلدية برلين الجميع باختيار ثنائي إداري بدلًا من مدير واحد للمهرجان، ومنحت الإدارة الفنية للناقد والمؤرخ الإيطالي شاتريان، بما يعنيه هذا من معارضة منطقية من المجتمع السينمائي الألماني.
أزمات لا تنتهي
الإدارة الجديدة فوجئت قبل أيام من دورتها الأولى بأنباء شيوع فيروس جديد في الصين، لتقام دورة 2020 وسط حالة من الحذر وانعدام الفهم لما يحدث، خلال أيامها جاءتنا أنباء إغلاق شمال إيطاليا بسبب الجائحة، فلم نفهم معنى إغلاق منطقة بالكامل، ولم يمر أسبوع واحد من عودتنا للقاهرة حتى تم إغلاق مطارها وعشنا جميعًا ما عشناه. ليضطر برليناله لإقامة دورة 2021 افتراضيًا، وبعدما بدأت الأمور تتحسن، جاء متحور أوميكرون ليُجبر دورة 2022 أن تقام وسط تدابير صحية مشددة من ضمنها خضوع كل الحضور لمسحات دورية كل 48 ساعة!
وما أن بدأت الجائحة في الانحسار، حلت الأزمات السياسية لتخيم على الأجواء، فأقيمت دورة 2023 بتركيز خاص على الحرب الأوكرانية، وألقى الرئيس الأوكراني زيلينسكي خطبة عصماء طالت لأكثر من 20 دقيقة في افتتاح المهرجان، لنصل للعام الحالي الذي يُقام فيه المهرجان وسط ذروة كارثية جديدة للوضع في الشرق الأوسط، ليجد المهرجان نفسه مجددًا مجبرًا ليس فقط للانخراط في السياسة، ولكن بدخول منطقة حساسة لأكثر من سبب، تتعلق بماضي ألمانيا وعلاقتها الممتدة بإسرائيل منذ تأسيسها، وبالصراع حول القضية داخل المجتمع الألماني.
قبل المهرجان اندلعت أزمة كبيرة عندما علم السينمائيون الألمان أن إدارة المهرجان وجهت الدعوة لممثلي كل الأحزاب السياسية، ومن ضمنها حزب البديل من أجل ألمانيا Alternative für Deutschland، الحزب اليميني المتطرف المعادي للمسلمين والمهاجرين والمعروف اختصارًا باسم AfD، ليقوم عدد من السينمائيين بتوقيع بيان ضد دعوة الحزب للمهرجان، ويهددون بسحب أفلامهم لو أجبروا على الحضور مع حزب متطرف في القاعة نفسها، ليستمر الجدل عدة أيام خرج المهرجان بعدها بقرار سحب دعوته لممثلي الحزب، مؤكدًا على الدعم الدائم للديمقراطية، والوقوف ضد أي دعوة لمعاداة السامية أو معاداة الإسلام.
أجواء مشحونة
صراع كهذا كان من المنطقي أن ينتقل إلى وقائع حفل الافتتاح نفسه، لكن قبل الوصول إلى داخل القاعة كان على كل ضيف أن يمر على مظاهرة متوسطة الحجم احتشدت خارج السجادة الحمراء لقصر المهرجان، قام بها العاملون في قاعات سينما سيني ستار، إحدى قاعات المهرجان الرئيسية. موظفو السينما تظاهروا بسبب الأجور المنخفضة وظروف العمل السيئة، خاصة بعد إغلاق مجموعة القاعات الكبرى المجاورة لقصر المهرجان والاكتفاء بمجمع آخر في منطقة ألكسندبلاتز.
المظاهرة تتوازى مع حركة إضرابات وتظاهرات مستمرة في أكثر من قطاع بسبب الأزمة الاقتصادية التي أثرت على المعيشة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتي تسببت في اختلال لتفاصيل الحياة اليومية، وروى لي أصدقاء عن تقليل التدفئة في شتاء ألمانيا القارص بسبب أزمة الطاقة بعد القطيعة مع روسيا، وعن المخاوف المستمرة من توقف حركة الطيران والقطارات بسبب إضرابات العمال المتكررة.
صحيح أن كل ما سبق هي صور متعددة لمجتمع صحي، يُسيّر بشكل ديمقراطي ويمتلك المواطنون فيه حق الاعتراض والتظاهر والإضراب، لكنه أيضًا تلخيص لما وصل له حال العالم من سوء، ونحن نتحدث عن أحد أكبر وأقوى اقتصادات العالم.
الأمر يمكن أن نلمسه في تفاصيل المهرجان، الذي توقف تقريبًا عن تقديم أي خدمات مجانية للحضور مما اعتاد تقديمه، فلا مطبوعات ولا حقائب ولا زجاجات مياه، وحتى موقع المهرجان الرسمي الذي كان يتضمن نصًا عن كل فيلم يحمل سبب اختيار المهرجان له، اقتصر هذا العام على ملخصات الأفلام التي أرسلها صناعها، بسبب عدم امتلاك المهرجان الميزانية الكافية لكتابة النصوص النقدية!
حرب خفية على مسرح الافتتاح
خلال حفل الافتتاح ظهرت مفارقة تستحق التأمل: أن الجميع يردد نفس الرسالة، ولكن بطرق وصياغات تعبر عن حقيقة توجهاته والجهة التي يمثلها. الكل تحدث عن الديمقراطية والإنسانية والتعاطف مع الضعفاء، والكل تحدث عن الضحايا في إسرائيل وغزة (لا ذكر لكلمة فلسطين بطبيعة الحال!)، والكل دعم المعارضة الإيرانية ضد نظام الملالي والشعب الأوكراني ضد بوتين وقواته. لكن نفس العنوان يُمكن أن يُقال بأكثر من طريقة.
فبينما كان من الواضح أن القائمين على المهرجان يميلون للجانب الفلسطيني، أو لنقل لإدانة قتل المدنيين والرغبة في وقف إطلاق النار، فإن ممثلي الحكومة (تحديدًا، وزيرة الثقافة والإعلام كلوديا روث وعمدة مدينة برلين كاي فينجنر) مالوا بوضوح للسردية الإسرائيلية، ملحقين إياها بتعقيبات عن الضحايا الأبرياء في “غزة”. بينما نحن نتابع ونبتسم لسهولة الإدلاء بتصريحات قاطعة في القضايا السهلة كالمعارضة الإيرانية، بينما يصير الأمر أكثر صعوبة وضبابية في القضايا التي يتسبب أي اختلال في توازن التصريحات حولها في ردود فعل لحظية، ولا ننسى الملايين من عرب ألمانيا والمظاهرات المحتشدة على بعد أمتار من أبواب الحفل.
البقية تأتي
استمر الحفل بدون منغصات، وصفق الجمهور أحيانًا بحماس وأحيانًا بفتور، حسب قدرات المتحدث الخطابية أو التمثيلية. وانطلق الجميع بدءًا من الصباح التالي لحضور العروض والاجتماعات مع الكثير من النقاشات الجانبية. وواصل مديرا المهرجان رقصتهما الأخيرة كي ينهيا خمس سنوات من سوء الحظ والأزمات المتتالية.
أما نحن فنشاهد ونرصد ونشارك أحيانًا، ونترقب ما سيصير عليه المهرجان المشحون بالسياسة من لحظة تأسيسه، فالدورة التالية ستأتي بإدارة جديدة، بالعودة لنظام المدير الواحد وهو في حالتنا البريطانية تريشيا ترتل. نعم أهم مهرجان ألماني ستديره بريطانية انطلاقًا من العام المقبل، وهو اختيار مدوى آخر ستكون له بالتأكيد تبعات.
كيف يمكن أن يكون هذا الخليط الغريب؟ سنعرف بعد شهور، ولكن حتى يأتي ذلك اليوم، سننشغل بأفلام هذا العام والصراع المستمر بين الفن والسياسة.