أحدث الحكايا
العازفين من اليمين إلى اليسار محمد إبراهيم تشيلو، أحمد فرج أوبوا، ديرك بويسن فيولينه، محمد صالح هاربسيكورد، بيتر أولاه فلوت

محمد صالح يحكي: موسيقى الباروك وصديقي الألماني

1

ذات يوم من أيام القاهرة الدافئة تلقيت مكالمة من مجهول يتحدث الإنجليزية:

– محمد صالح

= نعم

– أتعزف موسيقى الباروك؟

بلكنة ألمانية واضحة سألني محدثي، وكان من الواضح أنه يعرف أنني عازف بيانو، بل ويعرف أنني أشغل منصب عازف آلات المفاتيح (البيانو والتشيليستا والأرغن والهاربسيكورد) بأوركسترا القاهرة السيمفوني. تعارفنا واتضح أنه ألماني ويعمل مدرساً للموسيقى بإحدى المدارس الألمانية بالقاهرة، ويقطن بباب اللوق وسط العاصمة.

= لماذا الباروك؟

قال إنه مهووس بالباروك، وآلاته، وتقاليده، وطقوسه، حتى إنه جاء معه بآلة من آلاته وهي الهاربسيكورد، ويبحث عن عازف لتلك الآلة. وكنت أنا ضالته.

بالصدفة البحتة كنت للتو قد عزفت حفلاً لموسيقى الباروك على المسرح الكبير لدار الأوبرا مع عازف باروك مخضرم اسمه فرانك ستادلر من فيينا، وكانت تجربة شديدة الغنى، تعلمت فيها كثيراً من ألوان وأطياف ذلك التخصص الدقيقي من الموسيقى الأكاديمية الكلاسيكية الغربية. أخبرته بذلك، فقال إنه “لا يرقى لمستوى فرانك ستادلر، لكنه يحب الموسيقى، ويمارسها”.

تواعدنا، وفي الموعد المحدد كنت أبحث عن عمارة في باب اللوق، وصعدت إلى الدور الثامن لأجد تلك الآلة البديعة، رائعة الجمال، التي يصعب أن تتخيل في أكثر خيالاتك جموحاً أن توجد في تلك العمارة بباب اللوق. فهي آلة دقيقة، وقابلة للكسر والتحطم لأقل سبب، وفي الوقت نفسه ثقيلة، وفوق هذا وذاك باهظة الثمن، لأنها صناعة يدوية، ولا يتخصص في صناعتها سوى أسطوات بعينهم في أوروبا ورثوا تلك المهنة أباً عن جد.

آلة الهاربسيكورد من تصوير: كسينيا نيكولسكايا

 

جلست إلى الآلة، وبادلتني الحب بحب، واستخرج صديقي الألماني الجديد، واسمه ديرك بويسن آلة الفيولينه (الكمان)، ومعها قوس من عصر الباروك هو الآخر، وبدأنا رحلة موسيقية رائعة، تمخضت عن حفلة أو اثنتين لمجتمع الألمان في القاهرة، وحاولنا إنشاء مجموعة للباروك، لكن الظروف والمشاغل.

أصبحت وديرك أصدقاء، وما زلنا نتواصل حتى هذه اللحظة، إلا أن مشهد الهاربسيكورد في باب اللوق لم ولن يفارقني، ولا صورة تلك الآلة البديعة التي جاء بها ديرك من ألمانيا موطنه إلى القاهرة، لمجرد أنه يحب موسيقى الباروك. اكتشفت فيما بعد أنها ليست الآلة الوحيدة التي يقتنيها (وتلك أموال باهظة)، وأنه يعشق الباروك بكل ما يحيط به من تفاصيل.

ديرك بويسن من تصوير: كسينيا نيكولسكايا

 

تكمن صعوبة العمل على نصوص موسيقى الباروك، لا سيما في الآلات الوترية، في تركيز تلك الموسيقى لا على نغمات الموسيقى (النوت الموسيقية)، وإنما على نسيج الصوت.

أصل الباروك

تعني الكلمة البرتغالية أو الإسبانية “باروكو” Barocco، وهي أصل الكلمة الفرنسية “باروك”، والتي تستخدم في تسمية عصر الباروك بالمعنى الفني المتخصص للمصطلح: اللؤلؤة غير المنتظمة. بمعنى آخر اللؤلؤة اللاسيمترية، أي التي لا تمتلك محوراً تدور حوله، ويتطلب العمل عليها جهداً إضافياً لمعالجة تفاصيلها من خلال عمل فني يتعامل مع عدم انتظامها في الشكل.

وقد تطور معنى الكلمة ليحمل نقداً سلبياً للأعمال الفنية التي تتحمل أكثر من طاقتها من تفاصيل وحليات وزخارف المقارنة بعصر النهضة القائم على العقلانية والاهتمام بالمضمون أكثر من الشكل. ففي نقد ساخر مجهول الكاتب نشرته مجلة “ميركيور دي فرانس”، مايو 1734 حول أوبرا “هيبوليت وأريسي” لجان فيليب رامو (1683-1764)، المكتوبة عام 1733، وهي الأوبرا الأولى لرامو، نجد الناقد يقرر أن “البدعة الجديدة” في هذه الأوبرا كانت “الباروك”، ممتعضاّ من فقر الموسيقى في الألحان السلسة، على حساب التغيير المستمر في السلم والإيقاع مع وجود الكثير من النغمات “النشاز” على حد تعبيره، وتابع الناقد: “وكأن المؤلف الموسيقي كان يبحث عن آلة للتأليف”.

العازفين من اليمين إلى اليسار محمد إبراهيم تشيلو، أحمد فرج أوبوا، ديرك بويسن فيولينه، محمد صالح هاربسيكورد، بيتر أولاه فلوت

 

تكمن صعوبة العمل على نصوص موسيقى الباروك، لا سيما في الآلات الوترية، في تركيز تلك الموسيقى لا على نغمات الموسيقى (النوت الموسيقية)، وإنما على نسيج الصوت، بمعنى أن صعوبة العزف تتركز في اليد اليمنى التي تمسك بالقوس، وليس اليد اليسرى كما يظن الجميع. أو قل إنه التنسيق بين اليد اليمنى التي تصدر الصوت، واليد اليسرى التي تتحكم في تردد الصوت على نحو يصدر نسيج صوت خاص بالباروك ولا شيء غير الباروك. بمعنى أن تلك الموسيقى تعتمد على ألوان مختلفة من الأصوات التي تعتمد على حلاوة نسيج الصوت المستخرج من الآلة، وليس على حلاوة النغمة الموسيقية، التي يساعدها “الفيبراتو” باليد اليسرى، أي عملية تغيير التردد للنغمة بشكل سريع، ما يجعل النغمة أكثر “طراوة” وأقل “صرامة.

فصوت الباروك يعتمد على نغمات صارمة محددة في ترددها، لكنها غير محددة في خامة الصوت نفسه ونسيجه وشخصيته، وهنا تكمن الصعوبة في العمل على اليد اليمنى، على حركة القوس، اتجاهه، وثقله، وتكنيك الإمساك به، وغيرها من المهارات التي تستغرق من عازف الكمان سنوات طويلة حتى يتوصل للقدرة على إصدار ذلك النوع المعين من الصوت وتلوينه باليد اليمنى لا باليسرى، وهي أرفع درجات إتقان الآلة.

عازف الباروك يعتمد كذلك على الزخارف والحليات المختلفة التي تختلف باختلاف شخصية العازف أو الأوركسترا أو تفاعل العازفين مع بعضهم البعض أو تفاعل العازفين مع الجمهور.

3

الباروك وزخرفة الموسيقى

الباروك كذلك هو مرحلة ما قبل التدريج، بمعنى أن السلم الموسيقي الذي نعرف أنه يتكون من السبع نغمات الأساسية، ترتفع نغماته أو تنخفض (دييز أو بيمول) دون أن تفقد مسمياتها. فإذا تخيلنا آلة البيانو على سبيل المثال، وهي الآلة التكنولوجية المدرجة تدريجاً منظماً (جميع المسافات بين النغمات متساوية ووحدتها نصف تون)، فإن النغمات “السوداء” تمثل ارتفاعاً أو انخفاضاً عن النغمات البيضاء، بمعنى أن الدو “دييز” أو دو “المرتفعة” هي نوتة دو لكنها مرتفعة عن سابقتها، فإذا انخفضت عن الري، كانت نفس النغمة، لكنها ري “المنخفضة”. بمعنى أن نغمتي دو “دييز” وري “بيمول، أي دو “المرتفعة” وري “المنخفضة” هي في واقع الأمر، على مفاتيح البيانو، نغمة واحدة. أما في عصر الباروك، وعلى آلة الفيولينه فإن تلك نغمة وهذه نغمة أخرى بالكامل، وهو ما يعني اختلاف المدخل على مستوى وضع الأصابع، وعلى مستوى آلية التفكير نفسها، بمعنى أن عازف الباروك يتعامل مع متغيرات ما قبل التدريج، حيث أطياف الألوان الموسيقية مختلفة، والمسافات بين النغمات تختلف اختلافا ربما يكون طفيفا للغاية على مستوى الفيزياء، إلا انه مؤثر للغاية.

صورة توضيحية

 

لفهم ذلك، يمكننا الاستناد إلى ما نحس في الموسيقى الشرقية ذات أرباع الأتوان، حيث لا تقف أرباع الأتوان بالنسبة لنا في نفس المكان بالضبط عند الحركة من بعض المقامات إلى أخرى، أو في حالات وجدانية مختلفة تتطلب أن يكون تردد النغمة أعلى قليلاً أو أدنى بعض الشيء، وليس بالضبط في منتصف المسافة بين النغمتين. 

عازف الباروك يعتمد كذلك على الزخارف والحليات المختلفة التي تختلف باختلاف شخصية العازف أو الأوركسترا أو تفاعل العازفين مع بعضهم البعض أو تفاعل العازفين مع الجمهور. فالنص الموسيقي في عصر الباروك قد لا يمثل صعوبة تكنيكية كبيرة، إلا أنه يمثل تحديات موسيقية عظيمة تعتمد بشكل أساسي على محاولة الإمساك بشخصية العصر، وإيقاع العصر، والولوج إلى فكرة الباروك من منظور فنان القرن الحادي والعشرين.

أبرز مؤلفي الباروك

يمتد عصر الباروك في الموسيقى بين الأعوام (1600-1750)، ومن مؤلفيه العظام: يوهان سيباستيان باخ (1685-1750)، جورج فريدريك هاندل (1685-1759)، أليساندرو سكارلاتي (1660-1725)، دومينيكو سكارلاتي (1685-1757)، أنطونيو فيفالدي (1678-1741)، هنري بيرسيل (1659-1695)، جورج فيليب تيليمان (1681-1767)، جان بابتيست لولّي (1632-1687)، أركانجيلو كوريلّي (1653-1713)، توماسو ألبينوني (1671-1751)، فرانسوا كوبيرين (1668-1733)، دينيس جوتييه (1597-1672)، كلاوديو مونتيفيردي (1567-1643)، هاينريخ شوتس (1585-1672)، يان ديسماس زيلينكا (1679-1745)، يوهان باخايبل (1653-1706).

عن محمد صالح

موسيقي وكاتب ومترجم. تخرج من كونسيرفاتوار بطرسبورج الحكومي (روسيا) عام 1996، عمل بأوركسترا القاهرة السيمفوني – دار الأوبرا المصرية في الفترة من 2000-2017. يعمل محررا بالموقع العربي لقناة "روسيا اليوم" من 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *