أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: جيرترود نسيم.. الجيولوجية المصرية الأولى التي سبقت خيال المبدعين

في بدايات الستينيات بدأت السينما المصرية في ترسيخ رؤية جديدة للمرأة المصرية بوصفها مشاركة للرجل في بناء المجتمع الجديد، وبدأ عدد من الكتاب والمخرجين في العمل على قصص اعتبروها من قبيل الخيال الذي يأملون أن يصل المجتمع إليه، فظهر فيلم مثل “للرجال فقط” الذي كتب قصته وأخرجه محمود ذو الفقار، وكتب السيناريو والحوار محمد أبو يوسف.

نجح الفيلم إلى حد كبير في التعبير عن هذه الرؤية الجديدة، عبر وضع اثنتين من أهم وأرق الممثلات في ذلك الوقت هما سعاد حسني ونادية لطفي، في تجسيد لعمل المرأة في مجال الجيولوجيا، وكيف أنهما تودان الذهاب إلى حقل البترول الذي تعملان عليه، غير أن الشركة ترفض ذلك بحجة أن هذا عمل للرجال فقط، فتضطران إلى انتحال شخصيتي مهندسين رجلين لا يودان العمل في الصحراء، وتتنكر الفتاتان في مظهر رجالي، وتذهبان إلى موقع العمل الصحراوي، لتكون الأحداث الكوميدية التي نراها في الفيلم، والتي تنتهي بنجاحهما في تحقيق حلم استكشاف البترول، مما يجعل الشركة تتغاضى عن جريمة الانتحال.

سعاد حسني ونادية لطفي من أحد مشاهد فيلم ” للرجال فقط”

 

تم عرض الفيلم في عام 1964، ويعد محاولة لتهيئة المجتمع لتقبل هذه الفكرة، غير أن ما لا يعرفه الكثيرون أن هناك فتاة مصرية قد حققت هذا الحلم قبل ذلك بحوالي ربع قرن، لكن الحكاية بدأت قبل ذلك التاريخ بنصف قرن.

البداية..

عرفت مصر صناعة الصلب منذ العام 1917، على الرغم من أن كثيرين جدا يظنون أن صناعة الصلب قد بدأت بشكل حقيقي في مصر مع تكوين شركة الحديد والصلب المصرية، فالحقيقة أن صناعة الصلب بدأت مع ظهور اسم الجيولوجي لبيب نسيم عام 1917، وهو الذي اكتشف أول خامات الحديد بجنوب مصر بأسوان.

وبالعودة إلى كتاب “رواد التعدين في مصر” للدكتور محمد رجائي، الصادر عن الجمعية العربية للتعدين والبترول بالتعاون مع جامعة أسيوط عام 2012، سنجد أن لبيب نسيم ومعه المهندس حسن حلمي، وإدواردو الألفي، ومصطفى عزت هم الرواد الأوائل لصناعة التعدين في مصر، وجميعهم نال درجات علمية مرموقة من جامعات إنجلترا وألمانيا بجانب جامعة فؤاد الأول.

غلاف كتاب “رواد التعدين والبترول في مصر” لمحمد رجائي

 

أما لبيب نسيم فهو الذي ينبغي التوقف عنده لأنه يعد أول مصري يحصل على ترخيص باستخراج أكاسيد الحديد المنتشرة حول أسوان، ويعد لبيب نسيم أيضا من أقدم الباحثين عن المعادن في مصر وأشدهم اهتماما بها، وقد وضع كتبا عديدة عن هذه الصناعة، ودرس القوانين المتعلقة بالمناجم والمحاجر في عديد من البلدان، واشترك في وضع قانون المناجم المصري الجديد عام 1956.

في هذه الرحلة الطويلة كان المهندس لبيب نسيم يدعم ابنته جيرترود المولودة عام 1915، والتي كانت تساعده، فعلى الرغم من أن لبيب كان لديه ثلاثة أبناء، فقد كانت جيرترود عادة هي التي ترافقه في الرحلات الاستكشافية.

جيرترود نسيم

جيرترود الفتاة الأولى في قسم الجيولوجيا

ومن هنا كان الدور المهم الذي أدته جيرترود، حيث كانت أول فتاة مصرية تتخرج في قسم الجيولوجيا بجامعة فؤاد الأول عام 1939، كما كانت جيرترود لبيب نسيم أول امرأة تحصل على الماجستير من الجامعة نفسها، ثم سافرت إلى لندن وحصلت على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا، وظلت تساعد والدها في العمل بالمناجم والمحاجر بالصحراء الشرقية.

وفي ظروف غير عادية بالنسبة لامرأة ولدت في وقتها، نظمت جيرترود ومولت بعثاتها الخاصة إلى الصحراء، كما أمضت فترات طويلة من الوقت في الصحراء في وقت لم تكن فيه وسائل النقل سهلة ميسرة أو آمنة تماما، ولم تكن معدات الاتصالات والملاحة الحديثة موجودة.

وبالصدفة في أثناء تحضيرها لرسالة الماجستير اكتشفت معدن النيكل، حيث كانت تقوم بدراسة منجم قديم للنحاس سبق أن استغله قدماء المصريين كما استغلته شركة إنجليزية عام ١٩٠٤، وكان معروفا لدي جميع العاملين بالمناجم والتعدين أنه منجم نحاس فقط، لذا كانت دهشتها عندما قامت بتحليل جزء من خاماته لتكتشف وجود النيكل فيه بنسبة لا بأس بها.

وعندئذ امتد بحثها إلى مناطق أخرى فكشفت عن وجود كميات عائلة من هذا المعدن وتمضى الآنسة جرترود نسيم معظم أيام الشتاء في التنقل في الصحاري المصرية للبحث عن المعادن المختلفة، وفي كل رحلة تعود محملة بالعينات الكثيرة حيث تقوم بتحليلها في معملها الكيميائي الخاص. أما الصيف فانها تقضى أيامه في المعمل وفي الإشراف على إدارة مصانع والدها.

الصورة لجرترود نسيم أول من اكتشفت معدن النيكل في مصر عام ١٩٤٠، في ربيورتاچ بمجلة المصوّر عام ١٩٤٥

 

وقد نشرت جيرترود أبحاثها العلمية في مجلات معتمدة في مصر وخارجها في ذلك الوقت، خاصة ما يتعلق باكتشافها الأول للنيكل في مصر. وقد رافقت والدها في زيارة لقصر رأس التين حيث نالت تكريما خاصا من الملك فاروق، وأهدته أول سبيكة نيكل مصرية، لتحصل على دفعة معنوية مهمة جعلتها تبدأ في العام نفسه مجموعة رحلاتها الاستكشافية الخاصة في الصحراء الشرقية، خاصة جنوب أسوان، ولتكتشف عددا من المناجم والمحاجر في تلك المنطقة، لخامات مثل الحديد والنحاس وبودرة التلك ومادة الفيرميكيولايت التي تستخدم في عزل الحرارة المرتفعة للأفران، بالإضافة إلى مادة الثوريوم المشعة.

ومن طرائف اكتشافاتها أحد الأنواع الفريدة للجرانيت المصري رمادي اللون والذي لا يشوبه أي احمرار، وقد سمي هذا النوع باسمها ليظل معروفا إلى الآن باسم: جرانيت جيرتي.

جرترود نسيم مع والدها لبيب نسيم

 

هكذا أثبتت جيرترود نسيم أن فيلم “للرجال فقط” لم يكن محض خيال، وأن المرأة المصرية قد سبقت في الواقع خيال المبدعين، والغريب أنها لم تشاهد هذا الفيلم، فقد توفيت قبل عرضه بأقل من عام، وتحديدا في فبراير 1963، متأثرة بإصابتها بمرض السرطان نتيجة لتعرضها لإشعاع ذري قوي في أحد المناجم التي اكتشفتها.

وليبقى السؤال المتكرر، لماذا لم نعرف أو يعرف أبناؤنا باسم جيرترود نسيم، على الرغم من إنجازها العلمي الذي يتساوى مع إنجازها المجتمعي؟ وكيف لا نقوم بتخليد اسمها في كليات العلوم، ودراسة مسيرتها التي أثبتت قدرتها الفذة؟!

تحية إلى تلك السيدة المصرية العظيمة، وإلى كل زميلاتها من المصريات الرائدات.

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

تعليق واحد

  1. منير عتيبة

    سلسلة مهمة جدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *