لم أهتم في حياتي أبدا بالشر كاهتمامي به هذه الأيام، وصارت تدور معظم قراءاتي عن الشر تقريبا حتى أنني أهملت روتيني الطبيعي في القراءة، ربما لأن أخبار الشر صارت تحاصرني من كل مكان، من الحدود الشرقية ومن الجنوبية وتصل حتى سيارات شركة أوبر في شوارع القاهرة.
إذا تأملنا الشر بدقة فهو مشكلة فلسفية مهما إن بدا لنا مفهوما واضحا ومحددا؛ إذا تجاهلنا مشكلة أن الشر لا يمكن فهمه على وجه الدقة سنجد أننا أمام مشكلة جديدة ألا وهي أن عالمنا التعس ليس لديه فهم موحد للشر، قد يكون الشر بالنسبة لشعب ما هو بطولة لشعب آخر.
ما هو الشر؟
ومن وجهة نظر لاهوتية جرّب هكذا أن تحاول فهم الشر، ما هو الشر؟ ولماذا يسمح الله الصالح بوجود شر في عالم من إدارة صلاحه؟ لماذا لا يهزم الله كُلي القدرة الشر ويخلصنا؟ لماذا يتركنا الحكيم للشر يلون حياتنا بالعبثية؟ ما حكمة الله في الكوارث الطبيعية؟ في المجاعات؟ في الحروب؟ في الإبادات الجماعية؟ في اغتصاب الأطفال؟
ووجدت نفسي أقرأ أعمالا ضخمة وملاحم ناقشت مسألة الشر علّني أجد إجابة شافية وفكرت في أن أنشر اكتشافاتي وقراءاتي وأشاركها مع القراء الأعزاء، وأبدأ بـ”الفردوس المفقود” لشاعر إنجلترا العظيم جون ميلتون.
ملحمة الفردوس المفقود
نشرت ملحمة “الفردوس المفقود” -لأول مرة- عام 1667 والمكونة في شكلها النهائي من 10550 بيتا من الشعر، ونقلها إلى العربية الدكتور محمد عناني، عبر 20 عاما تقريبا في مجلد ضخم من 1148 صفحة تشمل مقدمة أقرب إلى الدراسة وحواشي والمصادر والخلفيات ومعجما للأسماء التي وردت في النص وصدرت في طبعة عن الدار المصرية اللبنانية.
يبحث جون ميلتون في “الفردوس المفقود” عن أصل الشر في العالم، فيلجأ إلى الكتاب المقدس، وخاصة حبكتين رئيسيتين من سفر التكوين، وهما سقوط الملاك بسبب كبريائه ليصير شيطانا فتتكون من هنا مملكة الشر، وخلق الله لآدم وحواء فيغوي الشيطان حواء لتسقط وتأخذ معها آدم في العصيان.
تنقسم الملحمة إلى 12 كتابا، وتبدأ بالشيطان في وحدته فور سقوطه بسبب كبريائه ويتأمل ما حدث له، ثم يفكر في أن يجمع جيشا من الذين سقطوا معه ليحارب الله، فيذهب إليهم حيث مغمى عليهم من أثر السقوط من السماء فيجدهم متكدسين كأوراق الخريف المتناثرة، يجمع الشيطان رجاله ويشجعهم لبداية الحرب مشجعا إياهم:
“حاكم في الجحيم خير من عبد في السماء”
الكتاب الأول، 260
يرغب الشيطان وقومه في التحقق من النبوءة التي تقول إن الله عازم على خلق مخلوق جديد مساو للملائكة أو أدنى قليلا، فيقرر الشيطان أن يذهب بنفسه -لأنها مغامرة خطيرة وشعر بمسؤولية كقائد لا يريد أن يعرض أتباعه لها- إلى عدن للتأكد صحة هذا الأمر وينتقم من المخلوق الجديد المدلل من قبل الله الذي هو الإنسان؛ يكتشف الملائكة أن الشيطان دخل إلى الجنة، وقبل أن يهرب منهم يغوي الخليقة الجديدة حين يدخل في جسم الحية ليتكلم إلى حواء عند الشجرة المحرمة -شجرة معرفة الخير والشر- ويقنعها بالأكل من ثمرتها. تعطي حواء زوجها ليأكل بعدما أكلت، ويواجه الله آدم وحواء، ويطردهما من الجنة.
وفي الكتابين الحادي عشر والثاني عشر يقدم الملاك ميخائيل لآدم نظرة عامة عن تاريخ البشرية الذي سيحدث بعد الطرد من جنة عدن.
“الفردوس المفقود” هو تحفة فنية وعمل عبقري وتشعر بعد الانتهاء منه بالامتلاء الفني وسمو الذائقة، تتزين الحبكة الرئيسة المستمدة من سفر التكوين بالعديد من المقارنات والاستطرادات في التاريخ والفلسفة والأساطير وعلم الفلك، وكلها إضافات توضح التكوين الثقافي المتنوع والعملاق للشاعر جون ميلتون الذي ألف ملحمته وهو يبلغ من العمر 59 عاما -وكان أعمى حينها-. (يبدو أن هناك علاقة ما بين الأدب العظيم والعماء؛ هوميروس – ميلتون – أبو العلاء- طه حسين – بورخيس.
جاذبية الشر
تقر “الفردوس المفقود” بأن أصل الشر هو الخطيئة الأصلية، سقوط آدم وحواء، وتتساءل عن أسباب حدوث أشياء شريرة لأناس صالحين، لماذا نؤذي الآخرين ونؤذي أنفسنا؟ لماذا يفعل الإنسان الشر وهو يعرف عواقبه؟ غير أنها لن تغفل أن تشرح جاذبية الشر ومدى سهولة الانزلاق إليه، تأخذنا الأبيات لنتفهم كيف لعب الشيطان لعبته، ونرى خطيئة حواء في أنها أرادت أن ترتقي لأن الحية أخبرتها أنها لما أكلت من الثمرة صارت تتحدث على غير حال الدواب والحيوانات، مثلما هي وآدم يتحدثان، وبدورها حواء سترتقي درجة إذا أكلت من الثمرة، فإن كانت الجنة جميلة هكذا لمخلوقين خلقهما الله، فكيف تكون المكانة التي يجلس فيها الخالق نفسه الذي ستصير مثله إذا أكلت الثمرة؟!
فالخير إن جهلناه لن نستطيع يقينا أن نناله
وإذا نلناه ونحن نجهله، فكأنما لم ننله على الإطلاق
الكتاب التاسع، 755
مخيلة بشرية
لم ينقل ميلتون الحبكات من الكتاب المقدس كما هي، إلا أنه لا يخالفها قط، كان يملأ ثغرات النص بمخيلة بشرية، ينثر مشاعر إنسانية على الصراع الأزلي الكوني. على سبيل المثال يمكنك أن تستمتع بالكثير من مشاهد العلاقة السعيدة بين آدم وحواء، بداية الحب من أول نظرة، والحب المتجدد كزوجين، ولا يغفل حتى الخلاف بين الزوجين، كما تصور الملحمة أن آدم كان يعي السقوط إذا اتبع حواء وأكل من شجرة معرفة الخير والشر مثلما هي بدأت وفعلت بإغواء من الحية، كان آدم يعرف العواقب، حتى ولو جزئيا، وعلى الرغم من ذلك أكل حتى لا تسقط حواء وحدها وتتركه في الجنة وحيدا. في رؤية “الفردوس المفقود” ما فائدة الجنة دون حواء؟ (يمكنك أن تقرأ “الفردوس المفقود” باعتبارها قصة حب).
“وقد وهبتنا التعاسة ثقة في السعادة أكبر من ثقتنا فيها لو كنا سعداء!“
الكتاب الثاني، 40
هناك من ينظر إلى “الفردوس المفقود” على أنها محاولة لإعادة كتابة الكتاب المقدس، وهي محاولة في منتهى الجرأة والخطورة، خاصة في زمانه، أما أنا فأرى أننا لدينا نصا مقدسا وهو الكتاب المقدس كتبه الله ليوضح طريقة عمل الله، ولدينا نص أدبي بشري، كتبه جون ميلتون لمحاولة أن يوضح كيف يفكر الإنسان وكيف يصنع الشر.
الشيطان في الفردوس المفقود
والشيطان أمير الشر له هنا سمات بشرية؛ تفتتح الملحمة بمشاهد للشيطان في مملكة الشر، فالشيطان هو بطل “الفردوس المفقود” الحقيقي، ويُصوّر كشخصية مركبة، فهو الثوري الذي يحارب كرسي العرش، وهو الحسود الذي يريد تدمير الإنسان، وهو الماكر الذي يتسرسب في أحلام حواء، وهو البليغ والذي لديه الحجج القوية إذ تكلم، وقدرة على التلاعب بالآخرين وبرغباتهم، نجد الشيطان حين يرى الإنسان خليقة الله الجديدة -لأول مرة- ويجده مخلوقا جميلا في أحسن تقويم ويتأمل ما أعده الله من هناء للإنسان في جنة عدن يحزن على خسارته، ليس الندم وحسب وإنما يضفي “الفردوس المفقود” على الشيطان جانبا من الضعف -لن نقول خيرا في الشيطان- ففي الكتاب الأول يقول ميلتون عن الشيطان:
“ثلاث مرات حاول أن ينطق، وثلاث مرات -رغما عنه- تفجرت عيناه بالدموع كدموع الملائكة”
الكتاب الأول، 618 و619
البديع في “الفردوس المفقود” هو أن ملتون، وعبر أجواء ومشاعر الانفصال، والفوضى، والقلق، والتمزق، والعصيان، والتفكك والحب، والمكر والصلاح، والخضوع والكبرياء والرضا الشهوة يجعلك ترى نفسك في آدم وحواء، وفي الله القدير ذاته، وفي الملائكة المخلصين، ولا تنسى أنك سترى نفسك أيضا في طريقة عمل الشيطان، في الحقيقة “الفردوس المفقود” مكتوب ليفسرنا نحن.
“العقل هو مكان ذاته الخاص، وفيه يمكن للنفس
أن تصنع سماء في الجحيم، وجحيما في السماء”
الكتاب الأول، 250
حرية الإرادة
كان آدم يعي موهبته كمخلوق حر الإرادة تماما، فنجده يقول:
أجابها آدم بنبرات انفعال قائلًا:
الواقع يا امرأة إن جميع الأشياء في أحسن صورة
حسبما شاءت إرادة الله وما قضى لها، ويده الخالقة
لم تترك شيئا ناقصا أو يفتقر إلى الكمال
في كل ما خلقه، وخصوصا الإنسان،
أو في أي شيء من شأنه ضمان سعادة حاله،
آمنا من تدخل القوى الخارجية، ففي نفسه
يكمن الخطر.
ولكن الله ترك إرادتنا حرة، فكل ما ينصاع
للعقل يتمتع بالحرية..
الكتاب التاسع
يصرح آدم في نهاية الفردوس أن السقوط (الشر) كان خيرا، حين يريه الملاك ميخائيل مستقبل البشرية ومجيء المسيح الذي سيحمل عن البشر خطيئتهم الأصلية، فيرى آدم أن سقوطا مع مجيء المسيح وتجسده، أفضل من أن تبقى البشرية في عدن.
قد يُلمّح “الفردوس المفقود” أنه نص لعملية تجريب مستمرة من قبل الله لصياغة مخلوق حر وفي الوقت نفسه غير قابل للشر، بدأ بالملائكة فسقط ثلثها كشياطين، عوّض خسارته بالإنسان فسقط أيضا، غير أن ميلتون يشدد على أن الله كان يعرف بالسقوط قبل السقوط، ولا شيء يخفى على الله، ونحن ما إلا ننفذ ما هو مكتوب، إلا أن هذا -في الوقت نفسه- يتعارض مع مبدأ حرية الإرادة، إذا لم يكن جون ميلتون يقصد معاني باطنية غير الظاهرة لنا على سطح النص فيبدو أن صاحب ملحمة “الفردوس المفقود” نفسه يعاني أيضا مع مشكلة الشر.
إذن فلنجرب البحث في مكان آخر في المرة القادمة.