هذه الحلقة الثانية من حكاية الشر، والتي بدأناها بـ ”الفردوس المفقود” للشاعر الإنجليزي جون ميلتون. وفي السلسلة نفتش في الأدب، في الملاحم والأعمال الكبرى والمؤسسة التي ناقشت مشكلة الشر، لعلنا نجد إجابة. أكثر من إجابة، لما هو الشر الذي صار حولنا يحاصرنا من كل النواحي؟

اقرأ

مينا عادل جيَّد يحكي (حكاية الشرّ): هل انتصر الشيطان بسقوطه في “الفردوس المفقود”؟

 

واليوم نبحث عن الشر في الكوميديا الإلهية، وهي ملحمة شعرية كتبها الشاعر الإيطالي دانتي أليجييري بين أعوام 1308– 1321 م، وتتكون من ثلاثة أجزاء هي: الجحيم، المطهر والفردوس. ولا تعتبر الكوميديا لدانتي جوهرة أدبية إيطالية فحسب، إنما هي درة من درر الأدب الإنساني قاطبة، وهي في غنى عن التعريف، وسنتناول هنا الجحيم فقط، والذي يتكون من أربعة وثلاثين نشيدًا نبحث فيها عن رؤية دانتي للشر.

 

بداية لا يوجد في الكوميديا الإلهية أي كوميديا بمعناها المعروف حاليًا، هي سميت بذلك فحسب لأنها ملهاة تنتهي بنهاية سعيدة بعد رحلة شنيعة من ملاحظة العذابات ونتائج الشر، رحلة الوصول إلى نور الله بعد ظلام طويل، وتسمى بالكوميديا أيضا لأنها كتبت بالعامية على عكس كتابات ذاك العصر التي كانت باللغة اللاتينية الفخمة والمحملة بالفلسفة.

هناك أكثر من ترجمة عربية للكوميديا الإلهية؛ قرأتها قبل كذلك بترجمة ما لم تدفعني لهضمها، أما اليوم أكتب إليكم من ترجمة حسن عثمان، الذي ترجم الكوميديا على عدة سنوات: الجحيم سنة 1959، والمطهر سنة 1964، والفردوس سنة 1967، طبعة دار المعارف المصرية، بمقدمة معتبرة وحواشي موسوعية تفك أغلب غموض الكوميديا التي تبعدنا عنها سبعة قرون والبحر الأبيض المتوسط.

 

مرشد دانتي في الجحيم

يفتتح دانتي الكوميديا‏ قائلا: “في منتصف طريق حياتنا، وجدت نفسي في غابة مظلمة، إذ ضللت سواء السبيل”.. وذلك لأن دانتي بدأ تحفته وهو في الخامسة والثلاثين من عمره؛ لا نعرف كيف وصل دانتي إلى الجحيم، ربما كان كل ذلك حلم، فهو يقول في الأنشودة الأولى: “لا أحسن أن أقول كيف دخلتها، فقد كنت مثقلا بالنوم في اللحظة التي حدت فيها عن طريق الصواب”.

 

يلتقي دانتي بالشاعر الروماني العظيم فيرجيل (فيرجيليو على حسب ترجمة حسن عثمان) مؤلف الإنياذة الذي سيكون مرشده لجزء كبير من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى الحياة الآخرة؛ يرشده في الجحيم كله، وكثير من المطهر إلى أن تأتي حبيبة دانتي الميتة “بياتريتشي” وتأخذ بيده إلى الفردوس، ودانتي ينادي فيرجيليو دائما بـ”أستاذي”، والمعذبون في الجحيم أيضًا يعرفون أنه أستاذه.

“ليس من ألم أشد من تذكر العهد السعيد وقت البؤس، وهذا ما يعرفه أستاذك”

الأنشودة 5- 121

 

في مدخل الجحيم جلس الذين عاشوا دون خزي أو ثناء يحسدون الناس على الخير وعلى الشر، كم هو مقلق ومرعب ذلك التصنيف، الحياد مدخل الجحيم!

شكل الجحيم

يقع الجحيم الذي يصفه دانتي في نصف الكرة الشمالي، والقدس هي مركز هذا العالم؛ والجحيم في جغرافيا دانتي عبارة عن قُمع ضخم تشكل أثناء سقوط الملاك المتمرد لوسيفر؛ ويتكون الجحيم من تسع مصاطب تكونت أثر السقوط، دوائر تضيق كلما نزل المرء نحو القاع، حيث أدنى نقطة في الجحيم والتي هي عبارة عن بحيرة متجمدة إلى حد أن دموع دانتي تتجمد فيها على وجهُه، وفي القاع موضع لوسيفر، الشيطان، المحاصر هناك، والشيطان في الكوميديا -على حسب تعبير دانتي نفسه- ليس أسودا كما يرسمونه بخيال طفولي، إنما لشيطان دانتي سمات بشرية أيضا فنجده في قاع الجحيم يبكي من ثلاثة وجوه وهو يأكل الخائنين وعلى رأسهم يهوذا، وكأن دانتي يقول -من حيث شكل الجحيم- إن الجحيم حُفر حرفيا من سقوط فعلي للشيطان من مكان أعلى بسبب الكبرياء، ويقول أيضا -من ناحية بكاء لوسيفر- إن كل شرير يندم في النهاية حتى الشيطان ذاته -إن لم يكن يقصد أن الشيطان هو نحن.

أنواع الشرور

كُتب على باب الجحيم “أيها الداخلون، اطرحوا عنكم كل أمل”، وذلك لأن هنا لا ينفع ندم. كل شرير يحاسب على حسب أعماله بما لا رجعة فيه. تأتي ألمع أفكار الكوميديا الإلهية، وأكثرها إثارة فنية منذ الصفحات الأولى في الجحيم، حين يصف دانتي أولئك الذين وجدهم في مدخل الجحيم، فما يا ترى الذي وضعهم في هذا المكان البائس؟ أتتخيل أنهم أولئك الذين لم يكن لديهم في الدنيا شجاعة فعل الخير أو الشر؟ الذين لم يعصوا الله وفي نفس الوقت لم يطيعوه؟ في مدخل الجحيم جلس الذين عاشوا دون خزي أو ثناء يحسدون الناس على الخير وعلى الشر.. كم هو مقلق ومرعب ذلك التصنيف، الحياد مدخل الجحيم!

 

أنواع الشرور

ثم تتوالى رحلة دانتي في الجحيم ليرنا أنواع الشرور في الدنيا والتي تستحق العذاب الأبدي؛ منها ما هو متفق عليه بديهيا مثل القتل والهرطقة، والسرقة والرشوة والاختلاس، والغدر والعنف؛ ثلاث صور للعنف، مع الله ومع النفس ومع الأقربين، ويوجد اللصوص والمرتشون.

“هناك بالمال تصبح لا بمعنى نعم”

الأنشودة ٢١-٤٠

 

هناك أفعال أخرى يحسم دانتي الجدل في أخلاقيتها ويعلنها صراحة أنها شرور يستحق أصحابها الجحيم، وهم المنفاقون والمتملقون والمزيفون، وأولئك الذين فضلوا العاطفة على العقل، والذين يُخضعون العقل للشهوات، وأصحاب الجشع والنهم اللعين والبهيمية المجنونة، والبخلاء والمسرفون (“لماذا تحرص؟ ولماذا تبدد؟” الأنشودة السابعة)، وأصحاب الغطرسة والحسد لأنها الشرارات التي تشعل القلوب، ومن سادهم في الدنيا سرعة الغضب، والذين حصلوا على الأشياء المقدسة بالمال دون تقوى، ومشيرو السوء الذين لا يصدرون في آرائهم الأمانة والصدق، والذين أثاروا الفتن الدينية والسياسية وخونة الوطن والمبدأ السياسي، والجوع أيضا شر (“كان الجوع أقدر من الألم”. الأنشودة 33 – 73). كما أن دانتي الشجاع لا يخشى أو يغفل أن يضع بعض البابوات في الجحيم.

عبقرية العقاب عند دانتي

“وإن كنت أيها القارئ متأخرا عن تصديق ما سأقول، فلن يكون عجيبا، لأني، أنا الذي رأيته لا أكاد أجده مقبولا”.

 الأنشودة 25 – 46

 

لدانتي رؤية إبداعية في رسم عقوبات الشرور في الجحيم، تتجلى في اختيار الجزاءات واللعنات المفروضة على الملعونين، إما على النقيض من أفعالهم في الحياة أو بالقياس عليها، وهي في تقديري أكثر نقاط الكوميديا عبقرية، وهي أيضًا أول خيط لفهم القصيدة، وفهم الشر في الكوميديا الإلهية؛ فتجد البخلاء والمبذرين يدفعون أثقالا من الصخر بقوة صدورهم، وسريعي الغضب يتضاربون بالأيادي والصدور والأقدام وغمرهم الطين، والكسالى مغمورين في الماء تتحشرج الكلمات في حناجرهم، والهراطقة في قبور من ألسنة لهب، ومريقي الدماء والناهبين غطسوا في جحيم دانتي في الدم حتى عيونهم، والعرافين الذين تنبؤوا بالمستقبل تجدهم وقد التوت رؤوسهم إلى الخلف، وساروا إلى الوراء وبللت دموعهم فلقة الأرداف، بينما يدفن دانتي المتملقين في البراز (شكرا يا دانتي لأنك اقترحت ذلك العقاب الأخير).

 

“ارجع إلى علمك الذي يرى كلما أصبح الكائن أكثر كمالا زاد إحساسه باللذة وكذلك بالألم”.

الأنشودة السادسة 106

نجد في رحلة دانتي كلما زاد الهبوط في الجحيم زادت صنوف العذاب، وعلى الرغم من أن الكوميديا تقر‏ أن كل شر يثير الكراهية في السماء، إلا أنه وعلى حسب فرجيليو، مرشد دانتي في الجحيم، والذي يتفق مع أرسطو في كتابه علم الأخلاق، تقول الكوميديا‏ أيضا إن الخطايا تختلف في خطورتها، فالعنف والخيانة أشد من سائر الخطايا.

“يجب أن نخشى -حسب- تلك الأشياء التي لها القدرة على الإضرار بالناس؛ أنما غيرها فلا؛ لأنها لا تبعث الخوف”.

الأنشودة 2-88

ما الشر في الكوميديا‏ الإلهية؟

منذ دخول دانتي إلى الجحيم، من بابه حتى قاعه، تنقلب الأشياء والأرواح رأسا على عقب، تتشوه وتتعذب وتلتوى، الشر عند دانتي مثير للاشمئزاز إلى حد فظيع، والجحيم هو مكان مروع، وفيه الخطاة مشوهون، والمخلوقات الأسطورية تشارك في عذاب الجناة والجميع غاضب، ومتأوه ويبكي.

فليجعلك الله تجني ثمرة قراءاتك أيها القاريء؛ ولتفكر الآن بنفسك

كيف كنتُ أستطيع حفظ وجي جافا من الدموع

عندما رأيت من كثب صورتنا الإنسانية متقلبة على هذا الوضع،

حتى بلل بكاء الأعين منهم قناة الردفين.

الأنشودة العشرون من ١٩ إلى ٢٤

 

هذا جحيم آثر، ألهم الفنانين بغرائبيته وجموح خياله لأكثر من 700 عام، وما زال معاصرا فنيا إلى الآن، وذلك لقدرة دانتي على رسم عالم من الإبداع الخالص بأدق التفاصيل، أما فيما يخص المعنى؛ يصور دانتي البشريين طوال رحلته في الجحيم بسمات حيوانات ووحوش أدنى في في المنزلة من الإنسان، هذا التشوية ليس اعتباطيا. وفي إجابة دانتي لسؤال ما هو الشر تأكيد لذلك: الله خلقنا في أفضل صورة، والخطيئة هي تشويهنا نحن أنفسنا لصنيعة الله الجميلة.

 

تقول الكوميديا الإلهية صراحة إن الله هو الخالق الوحيد، به كان كل شيء ومن غيره لم يكن شيء، وذلك على حسب الفهم المسيحي، لكن دانتي يرى أيضا أن الشر ليس شيئا مخلوقا من قبل الله -ليس له جوهر- ولكنه هو عبارة عن فساد، تخريب حدث من قبل الإنسان -مستخدمًا إرادته الحرة- لتشويه نفسه، صنع الإنسان مأساة تشوه كل ما خلقه الله جميلا جمالا مطلقا، تشويها يدفع دانتي نفسه إلى أن يبكي في أكثر من موضع حينما يرى ما فعلته شرور الإنسان من تشويه وحشي لعالم الله الجميل.