أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): الراية والريح وعين القلب.. وادعاء التصوف

اتهمني صديق مرة بأنني أدّعي التصوف. وهو قد يكون محقًا في اتهامه.

أحب التصوف ولستُ متصوفًا. تعجز روحي عن ضبط حياتي على مقاماته وأحواله ولا يأخذني عقلي مريدًا لشيخ. لكنني أرتاح لأحواله وحكاياته وتعاريفه. وكثيرًا ما سألتُ نفسي لماذا أنجذب إلى التصوف وأجد راحتي فيه؟

ربما كان التصوف اختيارًا قارًّا في الجينات بحكم الانتماء إلى جد وأب كانا تابعين لطريقتين صوفيتين: البازية والبرهانية.

ربما لأنني أحب تلك المتاهة التي تخلقها الموالد حين أدور بين جنباتها وأتنقل من مداح إلى آخر.

ربما لأن التصوف موقف شعري من الوجود ليس فلسفيًا ولا طقوسيًا بالضرورة وإنما ممارسة بسيطة صافية. تجربة ذاتية قوامها الحب. والحب شعور وتصور وممارسة في آن. يلغي الحب المسافة بين الذات وموضوعها. يلغي الفجوة بين القول والفعل.. بين التجريد والتجسيد.

ثمة من يقول بأن التصوف طريق الحقيقة وقد يختلف عن طريق الشريعة لكنني أومن أكثر بمقولة زكي مبارك إن المتصوف “ينظر إلى الكون بعين القلب”.

من أحد الموالد بالقاهرة

 

سأل تلميذ معلمه:

– ما حقيقة بوذا؟

أجاب المعلم:

– “السروة في حوش الدار”.

فالمرئي يقود إلى الخفي، والخفي يتجلى في المرئي.

يشبه ذلك جملة كازنتزاكيس الشهيرة:

“قلتُ لشجرةِ اللوز: حدّثيني عن اللهِ يا أخت، فأزهرتْ شجرة اللوز!”.

فإذا رأيتَ الله في بديع خلقه، فالكون كله معبدك تُتعبد فيه بالمحبة والرضا والامتنان. ساعتها سوف تدرك الواجد في الموجود. فليس فصل المادي المتجسد والمؤقت عن الخفي الأزلي المتجرد إلا محض وهم وهراء.

ولكي نتجاوز تلك الازدواجية وولعنا المنطقي بالفرز والتصنيف نحتاج أن نرى بعين قلوبنا. مثلما رأى كازانتزاكيس ومن قبله ذلك المعلم الراهب. أو كما غنى التوني بكلام الحلاج: “قلوب العاشقين لها عيون.. ترى ما لا يراه الناظرونا”.

الراية أم الريح.. أم الحب؟!

يروى أن راهبين شابين كان في حراسة معبد وشاهدا الراية تتحرك فتجادلا واحتدم الجدل بينهما. الأول أصر أن “الراية” هي التي تتحرك.. والآخر أصر أن الراية ما كان لها أن تتحرك لولا أن الريح حركتها.. إذن الريح هي التي تتحرك. وجاء المُعلم فاحتكما إليه فابتسم ثم قال لهما: بل عقلكما هو الذي يتحرك!

ليس ثمة إجابة حاسمة. بل كل الإجابات تعجز عن إدراك الحقيقة، ولا أحد يعلم علم اليقين. بينما القلب وحده يمكنه أن يصل بالحدس والتجربة والمكابدة. لا يهم أن تعثر على إجابة دقيقة. ولا أن تستسلم لصرامة منطق العقل. بل المهم أن تعيش مع الكون علاقة حب. فالأسئلة الحاذقة لا تؤدي إلى شيء بالضرورة.

ربما لا يحتاج كلا الراهبين سوى أن يفتح كلاهما قلبه للحب. حب الراية والريح وتلك الطاقة الخفية التي تجعلهما يرقصان معًا.

راهبان أمام معبد- صورة تعبيرية

بحثا عن الحب!

لم أعد أرغب في سجال مع العالم. لم أعد متحمسًا للانتصار للأبيض والأسود والحلال والحرام والقريب على الغريب..تخليتُ عن دوائر الصراع التي تتغذى على خوف وهشاشة وتضخم الأنا.. بحثًا عن دائرة الحب، ففيها وحدها تنحل وتذوب كل التناقضات، ويصبح السؤال إجابة والإجابة سؤال. مثلما بوذا هو السروة في الحوش، والسروة في الحوش هي بوذا.

ربما يمنحك أداء الطقوس شعورًا بالفخر والتباهي والاستحقاق والجدارة.. ربما يجعلك تطلب المكافأة والعدل معك جزاء صلاتك وصيامك.. لكن المتصوف ينشد الرحمة.. ولا يملؤه ذلك العجب بالذات. ومهما فعل لا يغره شعور أنه “الأفضل”. فما نفع الله بعبادتنا وإنما ينفعنا نحن أن نلقاه بقلب محب.

نحن نميل إلى التصنيف وتمييز الخطأ من الصواب. وهذا جيد أحيانًا.. لكن ليس دائمًا.. لأن الخطأ يعُلمنا مثلما يعلمنا الصواب.. والوقوع في الحرام ربما يحررنا منه.. فكل ابن آدم خطّاء.. ولكل منا رحلته لاختبار كل معنى.. وكل معنى ضده. وقد لا يُفهم التوق إلى الكمال والسعي إلى الخلاص إلا بفهم ضعفنا ونقصنا الإنساني أولًا..

كثيرًا ما تنبع شرور الإنسان من نرجسية الذات والتمركز حولها والسعي خلف رغباتها وشهواتها وأطماعها.. لذلك فإن التصوف هو تصفية للذات والتخلص من ثقلها وعدم الاستسلام لنوازعها.. هو إدارك الأنا بأنها “لا أنا”. ومد بحور عطاء للآخر لا للذات.

الزمن حليف أم عدو؟

أحيانًا يظن الإنسان الزمن حليفًا حين يساعده على الإنجاز وامتلاك القوة والنفوذ والمناصب والشباب وكل أسباب الرخاء.

وأحيانًا يظن الإنسان الزمن عدوًا حين ينقلب عليه ويسلبه كل ما أُعطي له تباعًا. الزمن ليس عدوًا ولا حليفًا.. وإنما هي طبيعة الأشياء في حركة وصيرورة.. ظهور واختفاء.. أخذ وعطاء.. بروز وتلاشٍ.. كل شيء ينعقد ينحل.. ولا تملك إزاء تلك الحركة وأنت تسعى في هدم نفسك.. إلا أن تدرك أن الماضي ذهب ولن يعود.. والمستقبل مجهول ربما لن تمر به.. فليس لك إلا لحظتك التي أنت فيها.. فاقنع بها وحرر نفسك من حربك مع ما فات.. وخوفك مما هو آت.

صورة تعبيرية

 

إذا كان الزمن ليس كما يتبدى لنا في حقيقته.. إذا كانت الأشياء لا تبقى على عهدها كما ألفناها.. وإذا كنا نشهد ما أكلنا من فواكه وقد خرج من الأمعاء قاذورات.. ورأينا شبابًا أصحاء ينتكسون وأثرياء ينقلبون فقراء.. فلماذا التمسك بكل تلك الأوهام؟ أليس من الأفضل التحرر منها بالاستغناء عنها؟ ألا يخرجنا الرضا بالقليل من دائرة التكالب على الدنيا برغم أنها دنيا.. لماذا نكد ونكنز ونطمع ثم لا نشعر إلا بالهموم والتعاسة؟! لأن من يترك نفسه تستعبدها رغباته مثل ذلك السائس الذي يلهب فرسه بالسوط حتى ينهكها.. فلا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع.

يتخلل التصوف كل الأديان والمذاهب.. من البوذية إلى المسيحية ومن الكونفوشيوسية إلى الإسلام.. يُلاقي بين الناس ولا يفرقهم بدعاوى كاذبة.. يحررنا من الأوهام.. وشؤم الرغبات.. وحسبما يُروى من حكايات الزن.. كان هناك إمبراطور يعيش سعيدًا في مملكته.. فهو يملك كل شيء باستثناء أنه لا ينجب وليس لديه من يخلفه.. وذات يوم ذهب إلى ناسك وقال له: ألا تريد أن تصبح إمبراطورًا وتخلفني على العرش (وتلك أعظم رغبات وأشد أوهام الإنسان فتكًا). كان الإمبراطور قد تعود أن يراقب الناسك في تعبده وكان معجبًا بإخلاصه وزهده وكيف يعيش قانعًا بقطع الأشجار بفأسه راضيًا من كل شيء بالقليل.

أصغى الراهب إلى العرض المغري ولم يرد.. فدُهش الإمبراطور: ما بك أيها الراهب؟ تخيل المتع والثروة والسلطة المطلقة وحق الحياة والموت على كل من يتنفس في مملكتك.. عندئذ وضع الراهب الفأس من يده وقال للإمبراطور: أنا ذاهب إلى النهر لأغسل أذني اللتين لوثهما كلامك.. وفي طريقه إلى النهر التقاه فلاح مستغربًا: “أيها الراهب.. أتغسل أذنيك في هذه الساعة من النهار؟. رد الناسك: “نعم، كلمات الإمبراطور لوثت أذني.. عرض عليّ أن أخلفه في ارتقاء العرش. وهنا رد الفلاح: في هذه الحال، لن أدع بقرتي تشرب من هذا الماء الملوث”.

إنها ضحكة الزن الكبرى المحررة.. فالراهب لا يميز بين الأمير والصعلوك، ولا الأسد والدودة.. لا يرغب في شيء.. ولا يملك شيئًا.. الزن هو الحرية الكاملة. إنها الحكمة ذاتها التي اختار كازانتزاكيس أن تُنقش على قبره: “إنني لا آمل في شيء، لا أخشى شيئًا، فأنا حر”.

قبر كازانتزاكيس

 

قد لا يمنحنا التصوف أفضل إجابة.. قد لا نجد فيه كتالوجًا جاهزًا قابلًا للتطبيق. لعله وهمًا مضافًا إلى أوهامنا الأخرى عن الوجود.. وهكذا تظل الشكوك تساورنا عن حقيقة الذات وحقيقة الله لكنه على الأقل يهدهد مخاوفنا.. يدفعنا للعيش باستغناء وراحة.. بالتفكر في الحب لا الرغبات.. وللحب ألف طريق.. بالموسيقى والطرب والرقص والضحك.. باليوجا والصلاة والسير حفاة الأقدام وتنسيق الأزهار وإماطة الأذى عن الناس.. فكل طريق إلى الحب والخير والجمال، هو بالضرورة طريق إلى الله. والمعصية هي كل ما يقودنا إلى غير ذلك.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *