أحدث الحكايا

د. محمد عفيفي يحكي حكاية التاريخ الجديد: مدرسة الحوليات الفرنسية

مدرسة الحوليات الفرنسية. يرجع اسم هذه المدرسة الشهيرة من المدارس التاريخية إلى مجلة “الحوليات” الفرنسية التي صدرت لأول مرة في عام 1929، وما تزال تصدر حتى الآن رغم تغيُر اسم المجلة عدة مرات، فضلاً عن تغير اتجاهات الدراسة التاريخية لكُتَّاب المجلة. فما هي حكاية هذه المدرسة التاريخية؟

صدر العدد الأول من مجلة الحوليات في 5 يناير 1929 تحت اسم “حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي”، وكان مديرا المجلة هما لوسيان فافر (Lucien Febvre) وهو مؤرخ في التاريخ الحديث، إضافةً إلى مارك بلوك (Marc Bloch) وهو مؤرخ في التاريخ الوسيط الأوربي.

المؤرخ مارك بلوك

 

وقد غيرت المجلة اسمها إلى (حوليات التاريخ الاجتماعي) في الفترة من 1939- 1941، ثم (منوعات تاريخية) في الفترة من 1942- 1944، ثم عادت المجلة إلى اسمها القديم (حوليات التاريخ الاجتماعي) عام 1945، وفي عام 1946 اتخذت المجلة اسم (الحوليات: اقتصاديات ـ مجتمعات ـ حضارات)، وفي عام 1993 غيرت المجلة اسمها وأصبحت تُسمى (التاريخ والعلوم الاجتماعية).

ولفهم مدرسة الحوليات الفرنسية ودراسة تطور اتجاهاتها لا بُد من العودة إلى الفترة التالية على الحرب العالمية الأولى حيث انتصرت فرنسا على ألمانيا واسترجعت إقليمي الإلزاس واللورين. من هنا حاول الفرنسيون إعادة صبغ الإقليمين بالصبغة الإقليمية حيث اهتمت السلطات الفرنسية اهتمامًا خاصًا بجامعة ستراسبورج “عاصمة الإلزاس” وأرسلت إليها خيرة علماء فرنسا آنذاك، وكان من أهمهم مارك بلوك ولوسيان فافر وجورج لوفافر (Georges Lefebvre).

المؤرخ لوسيان فافر

مراجعة شاملة لمفهوم التاريخ

بدأ هؤلاء العلماء إجراء مراجعة شاملة لمفهوم التاريخ ومجالاته حيث بدأ عدم الاهتمام بالتاريخ السياسي التقليدي أو ما سُمّي بتاريخ المعارك والحروب، أو تاريخ الوقائع، وتم إعطاء أهمية خاصة إلى تاريخ الناس العاديين والمُهمشين والذين لم يُكتب لهم تاريخ. وبدأت مدرسة الحوليات منذ ذلك الوقت في إرساء تقاليد جديدة حيث عارضت المدرسة الوضعية التقليدية التي كانت ترى أن مهمة المؤرخ هي الموضوعية فقط في دراسته. حيث اهتم أصحاب مدرسة الحوليات بطبيعة المؤرخ وتكوينه العلمي لأن ما يميِّز مؤرخًا عن آخر ليس اكتشاف المصادر التاريخية الجديدة كما طرحت المدرسة الوضعية القديمة، إنما ما يطرحه المؤرخ من أسئلة مهمة في معالجة تلك المصادر (التاريخ والإشكالية).

كما اهتمت مدرسة الحوليات اهتمامًا خاصًا بالتاريخ المعاصر حيث قدمت هذه المدرسة بُعدًا جديدًا للدراسات التاريخية فلم يعد التاريخ هو علم الماضي وإنما حرصت المدرسة على إبراز أهمية أن الهدف من علم التاريخ هو فهم الحاضر وليس الإغراق في الماضي.

وأولت المدرسة عناية خاصة إلى أهمية التداخل والتعاون الوثيق بين العلوم الاجتماعية المختلفة مثل التاريخ والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا.

مدرسة الحوليات وأصنام التاريخ

تأثرت مدرسة الحوليات في البداية بأهمية البُعد الجغرافي في التاريخ، لكنها رفضت فكرة الحتمية في علاقة الإنسان بالمحيط الجغرافي؛ إذ طرحت المدرسة ما يمكن أن نُسميه (الإمكاناتية) وهي نقيض الحتمية أي أنه رغم صعوبة تخلص الإنسان من هيمنة المحيط الجغرافي إلا أنه يستطيع الاستفادة من إمكانيات المحيط الجغرافي بفضل ما يتوصل إليه وما يتوافر تحت يديه من أساليب تقنية.

ودخلت المدرسة في جدال كبير حول تحطيم ما أطلقت عليه أصنام التاريخ؛ وكان أول هذه الأصنام هو ما سُمِّي بالصنم السياسي أي الاهتمام المُبالغ للمؤرخين بالتاريخ السياسي (تاريخ الملوك والمعارك). كما هاجمت المدرسة أيضًا مسألة التحقيب الزمني (الكرونولوجي) وهو اتجاه المؤرخين إلى تقسيم التاريخ وفقًا للأسرات الحاكمة أو للمعارك.

المؤرخ الفرنسي بروديل

 

وكانت ذروة مجد هذه المدرسة على يد المؤرخ الفرنسي بروديل (Fernand Braudel) الذي انطلق بمدرسة الحوليات إلى أبعادٍ جديدة. فلم يعد اهتمام مؤرخي مدرسة الحوليات يقتصر على فرنسا أو حتى أوروبا بل تجاوز ذلك إلى أجزاء أخرى من العالم لا سيما مع ما أبرزته الحرب العالمية الثانية من اتجاه نحو أنماط جديدة من العولمة.

كما اهتمت المدرسة اهتمامًا خاصًا بالتاريخ الاقتصادي حيث ظهرت العديد من الدراسات حول تاريخ الموانئ والشبكات العائلية فضلاً عن التاريخ الكمي وكتابة التاريخ من خلال (جداول وإحصاءات) تعتمد على تحويل كم كبير من الوثائق إلى جداول إحصائية مفيدة ومهمة لتفسير ظواهر مجتمعية مهمة.

تاريخ الذهنيات

وفي أواخر الستينات ظهرت متغيرات جديدة على مدرسة الحوليات نتيجة تحولات في المجتمع الفرنسي أو تطورات أوربية وعالمية. وظهر ما يُعرف بتاريخ الذهنيات أو (المخيال) وتأثر المؤرخون بشدة بنظرية فرويد حيث ظهرت دراسات تاريخية حول الموت وأنماط الحياة اليومية والطقوس الدينية وموضوعات مثل الحب، الخوف وغيره. ولم يعد مجال المؤرخين محصورًا في كهنوت الجامعة من خلال إلقاء المحاضرات، وإنما طالبت المدرسة بنزول المؤرخين إلى الشارع. من هنا نرصد الحضور المكثف للمؤرخين في وسائل الإعلام مثل الراديو والتلفزيون والصحافة.

فرويد

 

مراجعات شديدة

وفي الفترة الأخيرة دخلت مدرسة الحوليات في مراجعات شديدة وعنيفة مع النفس، حيث ظهرت اتجاهات جديدة تأثرت بالنظرية البنيويَّة وظهرت موضوعات جديدة من حيث المعالجة مثل تاريخ المرأة، كما تم توجيه سهام النقد إلى المفهوم القديم الذي كان يُسمى (التاريخ الشمولي) الذي يحتم على المؤرخ أن يتخصص في العديد من الميادين من التاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا والاجتماع، حيث رأى هؤلاء أنه من الأجدى أن يُجري المؤرخ دراسات دقيقة حول نقاط محددة في الزمان والمكان. كما أُعيد الاهتمام بمسألة ذاتية المؤرخ ورأيه في الحدث التاريخي.

وما تزال مدرسة الحوليات تحاول النقاش مع المدارس الأخرى والخروج باتجاهات جديدة تواكب المتغيرات والمدارس الأخرى التي بدأت في الظهور في أوربا وأمريكا وآسيا.

عن د. محمد عفيفي

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، حصل على الماجستير عن رسالته التي تناولت الأوقاف في العصر العثماني، ومن بعدها درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن دراسة حول الأقباط في العصر العثماني، وقد تولى رئاسة قسم التاريخ بآداب القاهرة مرتين. كما عمل باحثًا في المعهد الفرنسي للآثار، وفي المعهد الفرنسي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية. ثم شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في الفترة من 2014 إلى 2015. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية لعام 2004، والتفوق في العلوم الاجتماعية لعام 2009، والتقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2020-2021.

تعليق واحد

  1. الموضوع مشوق وجيد ويحتاج الى دراسة متانيه من الباحثين لمعرفة المزيد من الموضوعات والاتجاهات التى يتم فى ضوئها التاريخ من اتجاهات الناس وسيرهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *