أحدث الحكايا

أحمد شوقي يحكي: أفلام لن تُعرض هنا.. السينما والجنس في مهرجان كان

أثناء الخروج من أحد العروض الصحفية في مهرجان كان السينمائي، علّق أحد النقاد مازحًا بأن مبرمجي المهرجانات العربية سيجدون صعوبة كبيرة في العثور على أفلام صالحة للعرض في المنطقة دون محاذير رقابية. التعليق ساخر يحمل بعض المبالغة بطبيعة الحال، فعدد الأفلام الضخم المعروض في مختلف برامج كان سيكفي المهرجانات العربية ويزيد، لكنه يشير إلى ملاحظة سديدة تتعلق بعدد الأفلام ذات المحتوى الذي يمكن اعتباره جريئًا أو مثيرًا للتحفظ وفقًا لقيود الأجهزة الرقابية العربية.

الحقيقة أن الرقابة تتساهل قليلًا مع المهرجانات، فتمنحها هامش حرية أوسع بعض الشيء من الهامش الممنوح للعروض التجارية، باعتبار أن من يذهب إلى عروض المهرجانات جمهور متخصص، أكثر انفتاحًا على مشاهدة مواد قد لا تناسب الجمهور العام، لكن هذا التساهل يقف عند حد معين لا يتجاوزه. صحيح أن هذا يقودنا لأسئلة بديهية من نوعية: هل الحرية هامش تمنحه الجهات متفضلة أم يُفترَض أن تكون حقًا دستوريًا مكفولًا للجميع؟ وهل من حق الأجهزة الرقابية أن تحدد العمر العقلي لكل نوعية من الجمهور فتقرر أن تسمح لهذه المجموعة بمشاهدة أعمال تُمنع على مجموعة أخرى؟ تذكر أننا في عصر الفضاء المفتوح الذي يمكن لكل إنسان فيه أن يشاهد ما يحب وقت ما يريد.

لكن هذا ليس موضوعنا، فنحن مع الحرية إجمالًا، وضد أي رقابة على الأفلام باستثناء التصنيف العمري الذي تكون أكثر سلطة فيه هي منح الفيلم تصنيفًا مرتفعًا كأن يشاهده من تجاوزوا سن الثامنة عشر مثلًا. لكن هذه القناعة لا تمنعنا من أن نؤكد رجاحة الملاحظة، ونؤكد أن مهرجان كان قد عرض أكبر عدد من الأفلام ذات المحتوى الحسي شاهدته خلال سنوات حضوري المهرجان التي اقتربت من العشر.

يُمثل الجنس هنا عنصرًا رئيسيًا في توازنات القوى التي يبني عليها بيكر نصّه، فالجنس هو قوة تملكها آني تواجه بها المال الذي يملكه فانيا وأسرته، وهي المرأة المتمرسة التي تدخل الشاب عالمًا جديدًا من اللذة

يصعب تحديد سبب هذا التوجه، لكن المؤكد أن مهرجان كان لا يعوزه الاختيارات، فهو ليس مهرجانًا يُشكل برنامجه وفق ما يتاح له من الأفلام، بل هو المكان الذي يُعرض عليه كل إنتاجات العام من قِبل كل المخرجين الكبار حول العالم فيختار الأفضل من بينها. وإذا كانت هذه سمة غالبة في أفلام كان، فهذا يعني كونه توجهًا عامًا يسيطر على خلال أكبر صناع الأفلام في العالم حاليًا.

ربما كان للأمر علاقة بمنصات العرض الرقمي، التي خلقت على مدار السنوات الماضية مساحة حرية أوسع لأفكار ومشاهد جريئة حققت نجاحًا واسعًا حول العالم. الأمر الذي لا يفرض فقط على السينما أن تحاول مجاراته لأسباب تجارية (كما فعلت السينما قديمًا لتتجاوز مشكلة ظهور التلفزيون)، بل يطرح إنتاج المنصات -وهو الأهم في حالتنا- أسئلة جديدة، تفتح آفاق المبدع على التفكير في موضوعات ومعالجات ربما كان قبل عدة أعوام يراها غير ملائمة للتقديم في لحظتها.

 

فيلم السعفة والجنس سلاحًا

ولنفهم قدر انتشار الأمر في أفلام كان 77 سنبدأ بفيلم السعفة الذهبية، “أنورا Anora” للمخرج الأمريكي شون بيكر، الذي يهتم في كل أفلامه بدخول عالم العاملين في صناعة الجنس بأشكالها المختلفة، متمثلة هذه المرة في فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تعمل كراقصة إيروتيكية في نادي للتعري بنيويورك. تقابل عميلًا روسيًا شابًا تكتشف كونه ابن ملياردير من أوليجارشية بوتين. يقع الشاب في حبها -أو هكذا تعتقد- فيعرض عليها الزواج. يتزوجان بالفعل فتعرف أسرته لترسل رجالها لإنهاء الزيجة.

يُمثل الجنس هنا عنصرًا رئيسيًا في توازنات القوى التي يبني عليها بيكر نصّه، فالجنس هو قوة تملكها آني تواجه بها المال الذي يملكه فانيا وأسرته، وهي المرأة المتمرسة التي تدخل الشاب عالمًا جديدًا من اللذة، بما يكشف ما فعلته بها السنوات من صقل تجاربها بما يجعلها أنضج عقليًا بعقود منه حتى وإن كانت تكبره عمرًا بعامين فقط. الجنس هنا جوهري شكلًا ومضمونًا، تنطلق منه الحكاية وترتكز عليه بشكل عضوي.

فبدون المشاهد التي يكتشف فانيا فيها لذة الجنس بصورة لم يعتدها في ممارساته السابقة، لم تكن الحكاية لتسير في طريقها بصورة منطقية، ودون مشاهد نادي التعري لم يكن من الممكن للقصة أن تبدأ من الأساس. والأهم هو جوهر مشروع شون بيكر السينمائي كله: إذا كان من حق بعض البشر استغلال المال أو السلطة لتحقيق مكاسب وسعادة، فمن حق كل إنسان استخدام مصادر قوته (بما يتضمن جمال الشكل والجسد) في تحقيق أهداف مماثلة.

ساعي البريد في البرازيل

الأمر نفسه يتكرر في “موتيل ديستينو Motel Destino”، أحدث أفلام المخرج البرازيلي جزائري الأصل كريم أينوز، الذي يواصل التنقل بحرية بين الأنواع والأشكال الفيلمية. أينوز شارك في مسابقة كان العام الماضي بفيلم تاريخي ناطق بالإنجليزية عن زوجة الملك هنري السابع، لكنه عاد في العام الحالي بفيلم يدور داخل فندق صغير في البرازيل مخصص للقاءات الجنسية، تتغير الحياة فيه عندما يصله شاب هارب من مطاردة، يوافق صاحب الفندق على توظيفه لتبدأ علاقة تنشأ بينه وبين زوجة صاحب الفندق الشابة.

نظريًا نحن أمام مثلث درامي معتاد: صاحب الفندق العجوز والزوجة الشهوانية والشاب الذي يأتي لتقع في حبه. مثلث نموذجه الأساسي هو رواية “ساعي البريد يدق دائمًا مرتين” للأمريكي جيمس كاين، والتي قدمها الإيطالي لوكينو فيسكونتي في فيلمه الشهير “هوس Ossessione” عام 1943، قبل أن يقدمها الأمريكي تاي جارنيت في فيلم حمل نفس اسم الرواية عام 1946. لكن المختلف هنا هو أن أينوز يحرر المثلث من الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للأعمال الكلاسيكية، ويستخدم كل أدواته السينمائية للتركيز على الحسية التي تمثل مركز هذا الصراع الدرامي.

لدى الشاب قصة قادته إلى الموتيل، وبالتأكيد لدى الزوجة حكاية وراء زواجها من هذا الرجل متقلب المزاج الذي يكبرها عمرًا، لكن الفيلم لا ينشغل كثيرًا بهذه الخلفيات قدر انشغاله بالانجذاب الجسدي الذي يحركه الوجود في مكان مثل هذا الفندق الغريب، الذي يسيطر الجنس على كافة تفاصيله البصرية والسمعية، فلا يتوقف من يوجد داخله عن سماع آهات النزلاء الذي يزورون المكان لساعة أو ساعتين لأغراض جنسية بحتة. هل يشبه المكان عالمنا الحالي الذي صار أشبه بموتيل جنسي كبير يصعب للفرد أن يمنع نفسه داخله من الاندفاع نحو الحسّية؟ ربما كان هذا أحد التفسيرات.

لكن المهم في الفيلم الذي لم يفز بأي جوائز، هو الأسلوب الذي صور به كريم أينوز الحكاية بما فيها حضور دائم للجنس سواء كان الحدث المركزي أم كان شيئًا يحدث في الخلفية. توظيف الألوان الساخنة المشبّعة، وشريط الصوت الحافل، وميكانيكية تصوير الفعل الجنسي نفسه، والتي تتفادى السقوط في فخ البورنوغرافيا وتحاول تصوير الجنس كما هو في الحقيقة لا كما تتخيله الأفلام الإباحية، تجعله تجربة تستحق المشاهدة وإن كان من المستحيل عمليًا عرضها في أي مهرجان أو عرض جماهيري عربي.

صور عديدة لجوهر واحد

سيطول هذا المقال كثيرًا لو تحدثنا بالتفصيل عن كل مرة يرتكز فيها أحد الأفلام على مشهد حسي، ففي “بارثينوبى Parthenope” للإيطالي باولو سورنتينو تتمثل إحدى اللحظات المفصلية في وعي بطلة الفيلم التي تحمل الاسم القديم لمدينة نابولي في الليلة التي تقضيها صحبة أسقف المدينة. تذهب الفتاة التي تبحث في الأنثروبولوجيا لتجري حوارًا حول المعجزات مع الرجل الذي وصفه أستاذها بأنه شيطان، لتجد نفسها تقضي الليلة معه لتقع المعجزة بشكل فعلي فقط لهذا التلاقي.

وفي “ليمونوف Limonov” للروسي كيريل سيريبرينيكوف (الفيلم الذي تحدثنا عنه باستفاضة في مقال الأسبوع الماضي)، يكتشف الأديب السوفيتي الكثير عن نفسه وعن الحياة عندما تقوده قدماه وغريزته لممارسة الجنس مع أحد المتشردين في شوارع نيويورك. المشهد الذي يصوّره المخرج بشكل صاخب يكشف من خلاله عن جانب من تكوين شخصية ليمونوف كما يراها.

وفي “أنواع الطيبة Kind of Kindness” لليوناني يورغوس لانثيموس يحضر الجنس دائمًا في الحكايات الثلاثة التي يضمها الفيلم، في حكايتين منهم كصورة للانضباط: فالموظف يمارس الجنس بالطريقة التي يفرضها عليه مديره، والمؤمن بطائفة دينية ينصاع لقواعد القائد الروحي فيما يتعلق بكل السوائل التي تدخل جسده بأي طريقة. أما الحكاية الثالثة فالجنس فيها يُشكل عنصرًا من علاقة بطل الحكاية بزوجته المفقودة التي تعود إليه فيشعر بكونها كائن آخر يتظاهر بكونه الزوجة.

وفي “المادة The Substance” للفرنسية كورالين فارجيا يظهر الجنس مرة أو مرتين بشكل عابر، لكن ما يستمر طيلة الأحداث هو تيمة عبادة الجسد الجميل الكامل، متمثلًا في الممثلة المتقدمة في العمر (ديمي مور)، والتي توافق على استخدام مادة غامضة تخلق من داخلها فتاة شابة (مارجريت كويلي) تمثل الأنثى الشابة مكتملة الجمال، التي يُفرط الفيلم في تصويرها بشكل يُبرز كل بوصة من جمالها، قبل أن ينقلب ذلك كليًا في نصف الفيلم الثاني عندما يبدأ الفيلم في إيضاح الأفكار التي يطرحها.

يمكننا الاستمرار أكثر في ضرب أمثلة مختلفة من أفلام المسابقة، بما يؤكد الملاحظة الطريفة التي ذكرها الناقد الزميل، وبما يدفع أيضًا للتفكير في أنه من المستحيل عمليًا في كل الأفلام المذكورة تقريبًا الاستغناء ولو عن مشهد واحد، بما يتناقض مع العبارات المتكررة في إعلامنا المحلي وعلى ألسنة بعض الفنانين، الذي يرون أن التلميح بالأشياء أفضل من تصويرها. قد يكون هذا رأيهم وقد يقولونه إرضاءً للجموع أو اتقاءً لردود الأفعال، وفي النهاية كل شخص حر فيما يقتنع به. لكن زمننا الحالي يخبرنا أن الفنون البصرية عمومًا، والسينما خصوصًا، قد تحررت في العالم من قيود كثيرة كانت تكبّلها، بينما نحن ما زلنا نذهب لمشاهدة الأفلام وداخل عقلنا سؤال مؤلم: هل يصلح هذا الفيلم للعرض في بلدي أم لا؟

عن أحمد شوقي

ناقد سينمائي مصري ومبرمج ومشرف سيناريو. حاليًا هو رئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، ورئيس جمعية نقاد السينما المصريين. ينشر مقالات أسبوعية عن السينما وصناعة الترفيه. كما أصدر ثمانية كتب متخصصة حول السينما المصرية. شوقي يشغل منصب مدير منطلق الجونة، برنامج تطوير المشروعات والإنتاج المشترك الخاص بمهرجان الجونة السينمائي. كما إنه مدير التطوير لمنطقة الشرق الأوسط بمنصة "فيو" الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *