أحدث الحكايا
Yunchan Lim at David Geffen Hall with conductor James Gaffigan and the New York Philharmonic ©Chris Lee

محمد صالح يحكي: كيف تصبح عازف بيانو في أسبوع؟! للاحتيال أصول!

كثيرا ما سألني أصدقاء حول دور عازف البيانو أو دور قائد الأوركسترا. أليست الموسيقى مجرد “دندنة” لطيفة، وتسلية في أوقات الفراغ. واستمعنا أكثر من مرة لأحد “الإفيهات” في فيلم أو مسلسل حول ذلك الرجل الذي “يقف بالعصا” أمام الأوركسترا، وكأن لا دور له سوى “المشاورة”، وإكمال الصورة لا أكثر.

قائد الاوركسترا

 

لغة عابرة للمكان والزمان

إن النص الموسيقي يختلف عن نظيره في المسرح أو في الأدب في تجريده المطلق، فهو نص يستخدم لغة عابرة للمكان والزمان، لا حدود تعيق انتقالها بين الثقافات على اختلافها وتنوعها واتساع امتدادها الجغرافي، فلا تفصل بين قارئيها ومبدعيها أي حواجز للعرق أو القومية أو السياسة أو الدين أو اللغة، اللهم إلا في بعض طرق التدوين الجديدة المبتكرة، وبعض تقاليد النصوص الكنيسة.

كذلك فإن النص الموسيقي ناقل للثقافة، ثقافة العصر والمكان والإنسان، ومع تطور النص، وطريقة التدوين (لم نتوصل إلى الصورة النهائية للنوتة الموسيقية بالشكل الأوروبي المعتاد سوى في القرن السادس عشر)، تطورت الأفكار وآلية التفكير والمجموعات الموسيقية المختلفة وصولاً إلى الأوركسترا السيمفوني المعاصر، وتعقدت طبيعة الكتابة الموسيقية مع الوقت، مع تعقد طرق التعبير والأفكار واكتشاف الإنسان للأبعاد المدهشة للحركة في الفراغ الموسيقي.

نوتة موسيقية – جزء من أغنية “حلوين من يومنا والله” لسيد مكاوي

 

خصائص الموسيقى

والموسيقى، بعيداً عن النص الأدبي، ومن وجهة نظر فيزيائية بحتة تتكون من 3 خصائص: التردد وطول النغمة وطبيعة النسيج الصوتي.

فأما التردد فهو انخفاض وارتفع ما يسمى بالتون، أو النغمة، ما بين أصوات رفيعة وأخرى غليظة، وطول النغمة يتنوع ما بين القصر والطول، وهو ما يحرك النغمات، ويخلق الإيقاعات، ويخلق العلاقة بين النغمات تجسيداً للحن أو فكرة أو مقطع من أغنية وخلافه. وطبيعة النسيج الصوتي هي ما يميز صوت آلة عن صوت أخرى؛ فلكل نغمة بطول معين نسيج صوتي معين (مثل نسيج اللحم الذي يختلف بين لحم البقر ولحم الضأن، باختلاف الطعم واللون والملمس وطريقة الطهي). هناك أيضاً حجم الصوت ما بين هدوء وصخب، وهو ما يقرره المؤدي أثناء أدائه استناداً لما هو مدون أمامه في النوتة الموسيقية.

بدأ تدوين النص الموسيقي في الكنيسة

 

وقد بدأ تدوين النص الموسيقي في الكنيسة، فاعتمد التدوين بداية وبشكل أساسي على تنغيم الكلمات، لاستخدام الموسيقى في حكاية قصص الإنجيل، واجتذاب الإنسان من خلال الفن، كما فعلت كافة الأديان في استخدام الفن بحثاً عن المطلق، لكن الأديان في ذات الوقت حذرت -ولا تزال- من الانجراف نحو البحث عن المطلق في الفن، فالفن آنذاك من وجهة نظر الكنيسة لابد وأن يكون وظيفياً/دينياً/شرعياً، لا استخدام له خارج أسوار الكنيسة.

لكن النص الموسيقي الذي يحوي داخله القدرة على العبور بين الأسوار والثقافات، تمكّن لاحقاً من تطويع القصص الإنجيلي، والخروج بالفن من شرنقة الاستخدام الكنسي المحدود، إلى فضاء العمل الفني المجرد الذي لم يلبث أن خرج خارج أسوار الكنيسة، وحطم جميع التابوهات، ولم يتوقف عند جمال المطلق المقدس الذي كان رجال الدين يظنون أنهم مسيطرون عليه، كوسيلة سحرية للسيطرة على الجماهير، باستخدام الفن وسيلةً لا غاية، وانقلب السحر على الساحر، وتحول الفن في نهاية عصر النهضة إلى غايات أسمى ووسيلة أرقى لدرجات أعلى من البحث عن الحقيقة المطلقة.

 

إنها درجة رفيعة من البحث عن الروح السرمدية المطلقة المحبوسة داخل النص الموسيقي، وإطلاق سراحها من خلال فنان حي يمتلك أبجدية ومفردات خلق النص من جديد. لذلك فالنص الموسيقي على المسرح يبدو وكأنه يخلق من جديد، وكلما ابتعد الإنسان عن ذاته نحو الموضوع، وخرج من دائرة الأنا نحو دائرة الفكرة، ومن دائرة المؤدي إلى دائرة الرسول الأمين، كلما كانت الفكرة الموسيقية سهم يخترق الزمن والمكان ليصل من بيتهوفن أو باخ أو شوبان إلى إنسان القرن الواحد والعشرين في مصر أو في جنوب أفريقيا أو في استراليا.

 

Frederick the Great Playing the Flute at Sanssouci or The Flute Concert is an 1852 oil on canvas history painting by the German painter Adolph Menzel

 

لغة الموسيقى

هنا أصبح النص الموسيقي لغة قائمة بذاتها، بعيدة عن سيطرة الكنيسة، لكنه احتفظ بتقليد الأيقونات في عصور سيطرة الكنيسة، حيث يؤمن الفنان أنه مجرد ممر عابر للكلمة الإلهية، فإنما تتحرك اليد، ويتشكل الوجدان من أعلى، وليس الإنسان سوى وعاء لذلك الأعلى، المطلق، الخالق، لهذا تتلخص وظيفة الإنسان/الفنان/المؤمن في الاستماع بداخله إلى ذلك الأعلى والمطلق، والقدرة على تنفيذ أوامره المقدسة من خلال الفن.

لكن ذلك الأعلى، ذلك المطلق، تلك الحقيقة بعد عصر النهضة لم تعد نفس الحقيقة التي يمتلكها ويسيطر عليها الكاردينال داخل الكنيسة، بل امتدت لتشمل حقيقة الإنسان في كل مكان وزمان، ولتصبح الموسيقى أحد الأدوات التي يستخدمها الإنسان في البحث داخله عن المطلق، والاستماع بداخله إلى تلك الكلمة الإلهية.

 

كلما ابتعد الإنسان عن ذاته نحو الموضوع، وخرج من دائرة الأنا نحو دائرة الفكرة، ومن دائرة المؤدي إلى دائرة الرسول الأمين، كلما كانت الفكرة الموسيقية سهما يخترق الزمن والمكان ليصل من بيتهوفن أو باخ أو شوبان إلى إنسان القرن الواحد والعشرين في مصر أو في جنوب أفريقيا أو في استراليا

 

وإذا كانت الموسيقى قد استخدمت في عصور سابقة خصائصها الثلاث في رسم المستوى المسطح في بُعدين دون أن تنتبه إلى الإمكانيات اللانهائية للنفاذ إلى عمق اللوحة واستخدام تقنية الفن التشكيلي في رسم الأبعاد الثلاثة، واللعب بالألوان في الإيهام بالعمق، واستخدام الألوان في الإضاءة والظل، ورسم المجسمات بشكل يقترب اقتراباً مدهشاً من الحقيقة، وكأن الإنسان كان يبحث طوال رسمه عن تلك الحقيقة التي تواكب ما يرى وما يسمع من أصوات في الطبيعة، فإن النص الموسيقي في عصر النهضة وما تلاه، تمكن من الدخول إلى عمق المدونة الموسيقية، وتكوين المجموعات الآلية المختلفة، ثم خلط أنواعا وقوالب مختلفة من الفنون، لتتحد جميعاً في فن الأوبرا الشهير الذي يضم إلى جانب الأدب والموسيقى، الرقص والفن التشكيلي والمسرح.

Giovanni Paolo Pannini – Fête musicale – 1747

 

العازف الرسول

إننا نتحدث هنا عن قدرة الإنسان على البناء من خلال التدوين، فاللغة الموسيقية، النص الموسيقي هو بداية الحضارة الأوروبية التي تمكنت من إرساء دعائم تلك اللغة، ثم ساهمت الأجيال المتعاقبة في البناء على تلك اللغة لتتعقد الأبجدية والمفردات والآليات، وليصبح ذلك الفن، وتلك اللغة اليوم من أرقى ما وصل إليه الإبداع البشري، حيث تكتسب تلك اللغة هذه الصفة مستندة بشكل أساسي إلى عالمية تلك اللغة، وقدرتها على النفاذ إلى جميع الحضارات وجميع الثقافات دونما استثناء.

وهنا يأتي دور/وظيفة فنان الأداء في النفاذ إلى فكرة المؤلف الموسيقي، وآلية تفكيره، وما يرغب في إيصاله إلى المستمع.

 

التجربة الموسيقية الحية في قاعات الحفلات تجربة فريدة من نوعها، لكونها تجربة تحدث مرة واحدة على الإطلاق، ولا تشبه أي تجربة أخرى في أي زمان أو مكان آخر، إنها إعادة خلق النص الموسيقي مرة واحدة الآن وهنا

 

إنها درجة رفيعة من البحث عن الروح السرمدية المطلقة المحبوسة داخل النص الموسيقي، وإطلاق سراحها من خلال فنان حي يمتلك أبجدية ومفردات خلق النص من جديد. لذلك فالنص الموسيقي على المسرح يبدو وكأنه يخلق من جديد، وكلما ابتعد الإنسان عن ذاته نحو الموضوع، وخرج من دائرة الأنا نحو دائرة الفكرة، ومن دائرة المؤدي إلى دائرة الرسول الأمين، كلما كانت الفكرة الموسيقية سهما يخترق الزمن والمكان ليصل من بيتهوفن أو باخ أو شوبان إلى إنسان القرن الواحد والعشرين في مصر أو في جنوب أفريقيا أو في استراليا.

ومن هنا جاء اختلاف قراءة النص بين عازف وآخر، وقراءة المدونة الموسيقية بين قائد وزميله، حيث تتحكم عوامل شتى في تلك القراءة بينها التعليم/المدرسة الفنية، المعرفة (بمعناها المهني/الموسيقي، وبمعناها الواسع)، الخبرة، استيعاب العالم وبعد ذلك كله يأتي تواصل الفنان مع الجمهور، وتواصل القائد مع زملائه عازفي الأوركسترا حيث يتعامل القائد مع عشرات العازفين يمتلك كل واحد منهم خلفية موسيقية، وتعليم، ومعرفة، وخبرة، ورؤية للعالم خاصة به، وما يحتاجه القائد بعد توفر اللغة المشتركة (الموسيقية والإنسانية) للتواصل مع هؤلاء الفنانين، أن ينقل إليهم ما توصل إليه من نتيجة في بحثه عن الروح السرمدية المطلقة المحبوسة داخل النص الموسيقي.

الموسيقار الألماني لودفيج فان بيتهوفن

 

احتيال فج

ومن هنا أيضاً تصبح التجربة الموسيقية الحية في قاعات الحفلات تجربة فريدة من نوعها، لكونها تجربة تحدث مرة واحدة على الإطلاق، ولا تشبه أي تجربة أخرى في أي زمان أو مكان آخر، إنها إعادة خلق النص الموسيقي مرة واحدة الآن وهنا، ومن هنا يأتي تفرد فنان الأداء في قدرته على نقل النص الموسيقي، واختلافه ليس فقط عن زميله الذي يعزف نفس العمل، بل عن نفسه حينما يعزف العمل في وقت آخر في مكان آخر أو لجمهور آخر.

لهذا تبدو إعلانات من عينة “البيانو بدون معلم” أو “تعلم البيانو في أسبوع” ليست سوى احتيال فج وصارخ، وانتهاك لحرمة مهنة عريقة رفيعة محترمة نشأت عبر تراكم أفكار الإنسان وتجربته لقرون مضت، ولم تأت قطعاً عن طريق الصدفة، وليست حتماً مجرد “تسلية” أو “ترفيه”، وإنما هي تخصص دقيق ومدهش ومعقد لا يقلّ بأي حال من الأحوال عن تخصص جراحة المخ والأعصاب أو الهندسة أو المحاماة وغيرها من المهن التي مرت بتجارب تراكمية مماثلة عبر التاريخ.

عن محمد صالح

موسيقي وكاتب ومترجم. تخرج من كونسيرفاتوار بطرسبورج الحكومي (روسيا) عام 1996، عمل بأوركسترا القاهرة السيمفوني – دار الأوبرا المصرية في الفترة من 2000-2017. يعمل محررا بالموقع العربي لقناة "روسيا اليوم" من 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *