كنت أذهب مع أمي إلى السينما كثيراً في طفولتي. تصطحبني إلى أفلامها المصرية المنتقاة بعناية، وتتبعني في اختياراتي منذ سن العاشرة، فشاهدت معي العديد من أفلام المغامرات والكاوبوي والكوميديات الخفيفة العربية والأمريكية.
أما خالي فكنت رفيقه أمام شاشة التلفزيون. كانت أمي متخصصة في الأفلام العربية، أما خالي فلم يكن يحب شيئاً قدر حبه لمواد التسلية الأمريكية التي كان يحفل بها التلفزيون المصري، سواء كانت أفلاماً أمريكية تعرض على شاشة القناة الثانية التي كانت متخصصة في تلك المواد، أو مسلسلات بوليسية، أو حركة، أو إثارة أمريكية، أو مسلسلات رعاة البقر (الكاوبوي). تعلقت بالعديد من مسلسلات الحركة والمسلسلات البوليسية وقصص الجريمة والإثارة، من خلال جلوسي بجوار خالي أثناء مشاهدته القناة الثانية. لكن كانت برمجة هذه المواد تخضع لعجائب تقاطع المنطق السياسي مع المنطق الثقافي في ستينات طفولتي وسبعينات مراهقتي في القرن العشرين.
مقاطعة ما بعد النكسة
بعد حرب عام 1967، صدر في مصر قرار بمقاطعة العديد من الأفلام الأمريكية أو الأمريكية/البريطانية، وأشهرها أفلام جيمس بوند التي مُنِعَت من العرض في دور السينما المصرية.
بعد عام 1967، كانت مصر تعيش ازدواجية غريبة في مجال استهلاك المواد السينمائية والتلفزيونية الأمريكية. فكان هناك توجه رسمي لمقاطعة المنتجات الدرامية الأمريكية التي تحمل دعاية مضمونها تفوق الغرب والغرب الأنجلو ساكسوني تحديداً، على المستوى العسكري والمخابراتي، وتمثل بجلاء في منع أفلام جيمس بوند. لكن كان المسؤولون في التلفزيون مفتونين بالمنتجات الأمريكية، ولعل سبب ذلك أن معظم مديري ومخرجي التلفزيون المصري كانوا يتلقون تدريبات في الغرب. وكان مشاهدو التلفزيون في مصر في فترة الستينات يستهلكون مسلسلات مثل “مهمة مستحيلة”، المعروفة اليوم بسبب تولي النجم توم كروز بطولة سلسلة أفلام مبنية على فكرة المسلسل الأصلي.
كانت “مهمة مستحيلة” في أصلها التلفزيوني تدور دائما حول عملاء غربيين أمريكان في الغالب ينتصرون على عملاء سوفييت وحلفائهم. وكان التلفزيون المصري يحتفي بها، رغم أن الاتحاد السوفييتي كان حليف مصر وأن الولايات المتحدة كانت حليف إسرائيل.
بالمثل، كان التلفزيون يعرض حلقات “القديس” من بطولة روجر مور والذي كان أيضاً شخصية جاسوس غربي ينتصر على عملاء الكتلة الشرقية بزعامة روسيا السوفييتية. وبعد أن قام ببطولة “القديس” في التلفزيون، انتقل في السبعينات إلى تمثيل دور جيمس بوند في السينما.
وبالفعل، فأول مرة أشاهد فيلما لجيمس بوند في طفولتي كان عام 1977، عندما عرض بمصر واحد من أفضل أفلام جيمس بوند من بطولة روجر مور، وهو: “الجاسوس الذي أحبني”، والذي تدور أحداثه في القاهرة
جيمس بوند في مصر
وبالفعل، فأول مرة أشاهد فيلما لجيمس بوند في طفولتي كان عام 1977، عندما عرض بمصر واحد من أفضل أفلام جيمس بوند من بطولة روجر مور، وهو: “الجاسوس الذي أحبني”، والذي تدور أحداثه في القاهرة، ويحكي قصة حب بين الجاسوس البريطاني الشهير وجاسوسة روسية. وكان السماح بتصوير هذا الفيلم في مصر، ثم عرضه بدور السينما المصرية، إشارة رمزية قوية إلى انتهاء فترة التوتر مع الدعاية الاستعلائية الأمريكية المتمثلة في أفلام تظهر بطل الحركة والجاسوسة الأمريكي/البريطاني الخارق.
بسبب منع الكثير من المواد الأمريكية بعد 1967، ولاسيما المسلسلات التي تعلي من شأن المؤسسات الأمنية الأمريكية، تراجع عدد مسلسلات الحركة التلفزيونية الأمريكية التي كانت تعرض على شاشة القناة الثانية بالتلفزيون المصري. لكن يبدو أن محبي أمريكا بين أجنحة النظام قد وصلوا لوسيلة للالتفاف حول هذا المنع. فذكرياتي أن مسلسل “هاواي 5” البوليسي والأكشن في نسخته الأصلية التي كانت تُعْرَض في الستينات، قد استمر عرضه في التلفزيون المصري لكن مدبلجاً بالفرنسية. وأَحْذِرُ أن السر في هذا هو أن المسلسل كان يستورد على أنه فرنسي لا أمريكي، ويتحايل التلفزيون بذلك على قرار منع المواد الأمريكية.
جلست في الظلام مستمتعاً بمغامرات الكاوبوي، وإطلاق الرصاص، والمطاردات على ظهر الخيول، وانتصار الفتوة راعي البقر للبسطاء، ودفاعه عنهم ضد الأشرار. لكني ظللت طيلة الفيلم متحيراً ومتململاً لأنني تصورت أن فيلما بعنوان “العمالقة” لابد أن به أجواء ألف ليلة وليلة ومغامرات تشبه مغامرات السندباد
الكاوبوي والسينما
المرة الوحيدة التي اصطحبني فيها خالي إلى السينما كانت لمشاهدة فيلم كاوبوي، لعله كان بعنوان “العمالقة”. كنت أعرف كثيراً من المفردات الصعبة بالنسبة لطفل في السابعة أو الثامنة، بفضل جدي معلم اللغة العربية بمدرسة العائلة المقدسة (أو الجزويت) التي التحقت بها، ولذلك كنت أعرف معنى كلمة “عمالقة” في سنٍ مبكرة. وجلست في الظلام مستمتعاً بمغامرات الكاوبوي، وإطلاق الرصاص، والمطاردات على ظهر الخيول، وانتصار الفتوة راعي البقر للبسطاء، ودفاعه عنهم ضد الأشرار. لكني ظللت طيلة الفيلم متحيراً ومتململاً لأنني تصورت أن فيلما بعنوان “العمالقة” لابد أن به أجواء ألف ليلة وليلة ومغامرات تشبه مغامرات السندباد الذي واجه عمالقة وانتصر عليهم. إلا أن الفيلم قد انتهى، ولم أر عملاقاً واحداً على الشاشة.
قمنا وأنا في غاية الإحباط لأنني لم أر عملاقاً واحداً على الشاشة. ثم انتبهت ونحن نقف متأهبين لمغادرة قاعة السينما أن أجساد الممثلين تستطيل على الشاشة، وأن الكاميرا تقترب منهم في حركة زووم فبدت أجسادهم فعلا متطاولة عظيمة وكأنهم عمالقة، وأثلج ذلك صدري. كان الشريط مصوراً بتقنية السينما سكوب، وكانت تتطلب معالجة فنية لكي تظهر الصورة بشكل واقعي غير مشوه أو منبعج. وكان المعتاد أن بوبينة الشريط المسجل عليها تيترات الفيلم الختامية لا تعالج، ولذلك كانت الأجسام تظهر متطاولة بشكل مبالغ فيه. عندما استطالت صورة الممثل وحيداً في نهاية الفيلم مع ظهور تيترات الختام، صار جسده فائق الطول، وزاد من طوله أن اللقطة كانت متوسطة مقربة، فقلت لنفسي هذا عملاق. إذاً فالسر في عنوان “العمالقة” يكمن في اللقطة الأخيرة من الفيلم.
تعلقت بتلك الصور الأخيرة لأقنع نفسي بأن عنوان الفيلم “العمالقة” سببه أن الأبطال رعاة البقر يتحولون إلى عمالقة في نهاية الفيلم. فيما بعد فهمت مبدأ المجاز، وأن أبطال الفيلم عظماء لعظمة عملهم، وأن تلك العظمة المعنوية تشبه عظمة جسد الشخص العملاق.
وبعد عامين أو ثلاثة، فهمت أن ثلث أفلام الكاوبوي والأكشن لابد أن يتضمن في عناوينه المترجمة إلى العربية كلمة “عمالقة”، وأن الثلث الثاني لابد أن يتضمن عناوينها كلمة “جبابرة”، والثلث الأخير لكلمة “الشياطين”. هكذا كانت ذائقة السوق في نوع الأكشن بشكل عام.
نستغرب اليوم إن تذكرنا كيف كانت أفلام رعاة البقر ذات حضور طاغ في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لدرجة أن كل استوديوهات هوليوود كانت تتضمن مدينة كاوبوي كاملة، تماما مثلما أن مدينة الإنتاج الإعلامي بمصر تتضمن حارة شعبية كاملة مبنية ودائمة
نستغرب اليوم إن تذكرنا كيف كانت أفلام رعاة البقر ذات حضور طاغ في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لدرجة أن كل استوديوهات هوليوود كانت تتضمن مدينة كاوبوي كاملة، تماما مثلما أن مدينة الإنتاج الإعلامي بمصر تتضمن حارة شعبية كاملة مبنية ودائمة، لأن الأفلام والمسلسلات المصرية لا تكاد تخلو من منظر حارة.
دارت دائرة الأيام وكادت أفلام الكاوبوي أن تختفي منذ ثمانينات القرن العشرين، وأصبح ظهورها على الشاشات حدثاً استثنائياً. وربما لهذا أصبحت أفلام الكاوبوي جزءًا من حنين أجيال كاملة من العرب إلى مواد تسلية سينمائية وتلفزيونية من زمن الأبيض والأسود. ليس الحنين فقط لكلاسيكيات السينما العربية، بل هو حنين للوجبة الدرامية المستوردة والمحلية، كما كانت أجيال كاملة تستهلكها في طفولتها، بغض النظر عن الحمولات السياسية.