أحدث الحكايا

سامح فايز يحكي: حكاية ميلاد بائع كتب وقع في غرام الجوابات القديمة

العالم مظلم من حولي.

كنت أدعي القوة!

لكنني أضعف ما أكون!

قبل عام، خسرت عملي في واحدة من الصحف الخاصة. لا يهم السبب الآن. الشاهد أنني مع فصلي من العمل خسرت كل شيء؛ الوظيفة، والأصدقاء، وبالطبع، مصدر الدخل. معهم خسرت لقب الصحفي، وأُغلقت الأبواب أمامي.

دون الخوض في تفاصيل لا فائدة منها الآن، فما حدث كان رحلة من الفشل، حملت معها بداية جديدة، لكن، ليس كصحفي، إنما بائع للكتب!

رحلة البداية الجديدة

استيقظت في ذلك اليوم وقد فرغت ثلاجة منزلي من كل شيء، تقول زوجتي: “ما العمل الآن؟”

تكفي تلك الكلمات لأفهم أنني الأب المسئول عن البيت واحتياجاته، الوقت ليس الأنسب لأخبرها بأنني لا أجيد سوى الكتابة، وأن يدي الخشنة من العمل بائعا متجولا قبل عشرة أعوام من الآن قد تنعمت من كثرة الإمساك بالقلم أو الكتابة على الكمبيوتر، وجهت عينيها إلى آلاف الكتب في الغرفة والتي لم تعد ذات فائدة من وجهة نظرها. نظرة فهمت منها ما تريد: “بياع كتب؟، هاشتغل بياع كتب؟”.

وجدت طريقي إلى (سوق ديانا)، بضعة مقاهي متجاورة بالقرب من سور الأزبكية القديم، يتناثر بعضها خلف سينما ديانا في منطقة عماد الدين بوسط البلد، يجتمع عليها هواة المقتنيات وبيع وشراء الكتب يوم السبت من كل أسبوع، وعلى مقهى (صهللة) وجدت كرسيا فجلست.

سوق ديانا

 

أحمل معي كيسًا يضم الأعمال النقدية لسامي السلاموني، وبضعة روايات؛ اشتراهم أحد زملائي الصحفيين عندما عرضتهم للبيع على بروفايلي الشخصي بمنصة فيس بوك. حددنا المكان والموعد للاستلام في (سوق ديانا)، وبمجرد التسليم لم أجد ما أفعله سوى متابعة الناس وهم يتبادلون الكتب.

هنا، لا تعرف من البائع ومن المشتري، الكل هنا بائع ومشتر في نفس الآن، الكل محب للكتب -أو الأغلبية إن أردنا الدقة- فالبعض يراها مجرد عمل مناسب، أو ربما ورث العمل عن العائلة!

ميلاد بائع الكتب

زيارة تلو الأخرى وشهرا بعد الآخر ثم أتقنت مهنة بائع الكتب القديمة. في البداية كنت أهرب من نظرات زملائي الصحفيين والكتاب، أشهر زبائن سوق ديانا ومقاهيه؛ بالأمس القريب كنت مديرا لتحرير مجلة عالم الكتاب، ومديرا لتحرير النشرة الرسمية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب -ثاني أكبر معارض بيع الكتب في العالم- وصحفيا ناجحا نوعا ما.

No photo description available.
في عالمي الجديد

 

وقبل أشهر فقط من ذلك التحول حصلت على جائزة ساويرس في النقد. وفجأة اختفى كل شيء. وهم يشاهدون الآن ذلك الصحفي الجالس القرفصاء ينتقي الكتب من على أرصفة مقاهي (سوق ديانا) كي يبيعها على بروفايل أنشأه خصيصا على فيس بوك لبيع الكتب، فالثلاجة فارغة، وزوجتي والأولاد ينتظرون عودة الأب، لا يهم صحفيا كان أو جامع قمامة، فالعمل ليس عيبا في ذاته، إنما العيب أن يفقد الأب القدرة على تسيير البيت!

سامح فايز فائزا بجائزة ساويرس الثفافية

 

خمسة عشر شهرًا مضت منذ عرفت الطريق إلى سوق الكتب، وعلى الرغم من ضغط المسؤوليات واحتياجات البيت، فلم تكن هي الأساس الذي دفعني للتقدم في تلك المهنة دون كلل أو ملل طول ذلك الوقت -عام ونصف العام-؛ إنما مجموعة من الخطابات رأيتها مع عبد الله جوهر، بائع الكتب الذي أصبح لاحقا صديقي، والذي تعرفت إليه بعد أسابيع قليلة من خوضى غمار تلك التجربة.

خطابات قديمة.. شغف جديد

جوهر أزهري من محافظة الشرقية وداعية ومحفظ قرآن، أما يوم السبت في سوق ديانا يتحول مثلنا جميعا إلى بائع كتب، متخصصا في كتب التراث والكتاب الديني. لكنه في ذلك اليوم حمل العشرات من الخطابات الموضوعة ضمن كراسة بدا من هيئتها أنها دفتر يوميات، والأوراق جميعها مؤرخة ما بين أعوام 1958 و1961!

جذبتني الأوراق فانتبه صديقي التاجر، في النهاية هو بائع حتى لو كنا أبناء نفس المهنة، لكنه استغل الفرصة قائلا: “شاري؟”. ثم أكمل عارضا بضاعته: “اشتريت مكتبة ولقيت الجوابات دي متوزعة بين الكتب، جوابات حب وغرام بس على ذوقك”.

لا يعرف زميلي بائع الكتب القديمة أنه ليس في حاجة لعرض بضاعته حتى أشتريها، فقد وقعت في غرامها منذ النظرة الأولى، وقبل أن يكمل أجبت: “أنا شاري”.

حين وصلت إلى المنزل وضعت في الثلاجة ما اشتريته من طعام بعد يوم حافل في السوق، ومكسب مناسب نوعا ما ليكفي احتياجات البيت بضعة أيام، ثم وجدت طريقي إلى غرفة مكتبي التي هجرتها شهورا، لا قراءة ولا كتابة، للدرجة أن الأتربة وجدت طريقها وزحفت على بعض الكتب. نفضت عن كتبي الأتربة وأشعلت سجارة وأدرت المسجل على أغنية نجاة “طول عمري أحبك”. وقرأت أول خطاب!

“يا علي يا ابني
نصيحة من نفس تكبرك في السن على الأقل، لا يوجد في الحياة الآن سوى المادة والمادة فقط. دعك من المبادئ فقد ذهبت مع الرياح. عش ليومك واترك غدك مع القدر فنحن في عالم قوامه نفسك فقط. ومصلحتك فقط، ومن أجل هذا ثق أن كل من حولك منافقون مخادعون حيوانات وإن استطعت فقل فيهم ما شئت”.

كأن الخطاب مرسل لي، دهشة احتوتني، أخذت أقلب في بقية الخطابات، عرفت منها أنها مراسلات بين شاب جامعي حضر إلى القاهرة للدراسة في كلية الإعلام وحبيبته التي تركها خلفه في القرية.

العشرات منها، وبينهم خطاب وحيد مع زميلته في واحدة من أهم الصحف في مصر عام 1961. في الخطاب يبكي الصحفي الشاب الأمل المفقود بعد أن وجد في الصحافة عكس ما توقعه من ضرورة التعبير عن آلام الناس وكشف الزيف والظلم!

فاطمة..

قد أكون إنسانا غبيا عبيطا لإذا قلت لك أنا لا أؤمن بالمادة…. المادة لخدمتي فقط. لا أكون عبدا لها. ويا زميلتي عندي أسرار كثيرة كثيرة، لا استطيع أن أبوح بها الآن. وقد يأتي اليوم الذي أشرح للناس هذه الأسرار. فعندا تنظرين إلي يا فاطمة لا تحكمين بالله علي فأنا علامة استفهام كبيرة تتحرك وتسیر. آسف يا فاطمة اذا قلت لك بعض هذه الأسرار، وإنني أؤمن بأن الحياة هي المادة ولكن ليست المادة هي الحياة.. سأعيش بدون المادة. وسأحطم النفوس الضعيفة لأنها تعيش للحظات قليلة. لأيام ستزول. وستبقى النفوس الصلبة القوية الإرادة . وفي حياة العظماء كثير. ولعل أستاذنا مصطفى وعلى أمين هم خير مثال فقد عاشوا…”

وفي خطابه لزميلته فاطمة وجدت رد الصحفي عليّ:

“… ولكن يافاطمة أنا إنسان مؤمن جدا بالله. ثم بنفسي. ثم بوطني. إن شاء الله سأعيش وتحطم المادة”.

 

وذيلت زميلته بالجريدة ردها ببضعة سطور، قالت:

“يا ابني هذا كله وهم، عش لنفسك فقط وسترى صدق قولي في يوم من الأيام. حولك ذئاب. فاحذر أن يفترسوك”.

ألقيت بالخطابات جانبا وأدرت جهاز الكمبيوتر متصفحا في الشبكة العنكبوتية عن اسم صاحب الخطابات، لأعرف أنه أصبح لاحقا أحد أقطاب الصحافة الاقتصادية في مؤسسة أخبار اليوم في الثمانينات، وقد رحل عام 2020، رحل تاركا خلفه رسائله التي وصلتني، كأنها اختارت طريقها إلى يدي.

رحل هو وبدأت حكايتي مع الخطابات التي فقدها أصحابها ووجدت طريقها إلى بائعي الكتب القديمة، ومع كل خطاب حكاية ساعدتني على الوقوف مرة أخرى، واستشعار الأمل من جديد!

التهمني شغف جمع الخطابات، الأوراق القديمة عموما، ومعه اتسعت دائرة البحث؛ فلم أعد مكتفيا بما تمنحه مقاهي (سوق ديانا)، بل ذهبت إلى أسواق أخرى أقدم وأكبر، ذهبت إلى مخازن بيع الكتب المنتشرة في ضواحي المدن الكبرى.

وفي واحدة منها وقع في يدي كنز آخر، خطابات أيضا لكنها ليست ورقية تلك المرة، إنما أحاديث مسجلة على أشرطة كاسيت، أرسلتها أسرة مصرية هاجرت إلى أمريكا، وأصبح شريط الكاسيت مع رحلتهم أنسب وسيلة للتواصل مع الأهل في القاهرة. وهي ما سأترك الحديث عنها للحكاية المقبلة.

عن سامح فايز

كاتب وصحفي مصري، من مواليد 1985. تخرج في كلية الحقوق جامعة عين شمس 2007. عمل بالمحاماة قبل أن يتفرغ للصحافة الثقافية، وعمل بأقسام الثقافة في صحف مثل "المصور" و"فيتو" و"التحرير" و"البوابة نيوز" و"القاهرة" و"الهلال". رأس تحرير بوابتي "كُتب وكتَّاب" و"الشباك" الثقافيتين. وصدر له: كتاب "جنة الإخوان: رحلة الخروج من الجماعة" سيرة ذاتية، ورواية "أسوار القرية"، وكتاب "رحلة يوسف"، وكتاب نقدي بعنوان "بيست سيلر – حكايات عن القراءة"، وفاز الأخير بجائزة ساويرس في النقد الأدبي دورة 2020.

6 تعليقات

  1. قمة التواضع وقمة الشفافية والمصالحة مع النفس تحياتي وتقديري للاستاذ سامح فايز

  2. الله 😍 ، تسلم الايدين اللي كتبت

  3. القدوة والمثل الأعلي
    لم أقراء مقال ولكن قرأت واقع اراة كل سبت في الجميل عمي سامح
    عند وجودة تري المزيد من البهجة والمزيد من المرح والمزيد من الحب في عينة للجميع
    والمزيد من اسئل عليا 😂
    من اجمل الناس وعم الناس
    سامح فايز جيفارا الكتبيين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *