أحدث الحكايا

شريف صالح يحكي (على باب الله): عندما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله!

لنتحدث عن الرحلة، والمتاهة، والنور.

صورة تعبيرية

 

في أحد الأيام خرجتُ مع سائق سيارة نقل في مهمة، وكنتُ ضابط احتياط آنذاك، لكن أثناء عودتنا بعد الغروب ارتأى “حسن” السائق أن يختصر الطريق بنا.

وكما توقعتُ، انتهينا وسط صحراء عن الشمال واليمين، ومن الأمام والخلف. أشعل حسن أنوار السيارة ودار في كل اتجاه فلم نر إلا رمالًا وتبابًا في كل الجهات. تركنا السيارة تُضيء لنا.. واتفقنا أن يجري في اتجاه وأجرى في اتجاه مضاد على أن نعود نحو أنوارها إذا ما عثرنا على طريق. لا أتذكر كيف فقدنا دربنا، وسرنا على غير هدى. ربما استغرق الأمر ساعة إلى أن وجدنا أنفسنا على الطريق الصحيح.

شغلني ذاك العطل الغريب في “الاهتداء” رغم أننا – أنا وهو – نملك عشر حواسٍ، ومن ورائها عقل يترجم كل إشارة. فهل يمكن أن يضللنا العقل والحواس معًا؟

قصة العِقد

لندع جانبًا قصتي أنا وحسن في الصحراء.. ماذا عن قصة “العقد” لجي دي موبسان؟

صورة لقصة “العقد” في صحيفة Gil Albs الفرنسية، بتاريخ 8 أكتوبر 1893.

 

تميزت قصته بنهاية ساخرة ومؤلمة في الوقت نفسه. وكانت عن ماتيلدا المولودة لطبقة متوسطة وغير الراضية، والراغبة في الانتساب إلى الطبقة الأعلى. فعندما تزوجت موظفًا بسيطًا أرهقته بطلباتها، وفي أحد الأيام وفر الزوج دعوة إلى حفل للطبقة العليا، لكنها رفضت الذهاب لأنها لا تملك الملابس المناسبة فأعطاها كل ما ادخره لشراء ثوب، فلم تجد لديها مجوهرات ترتديها، فاقترح عليها أن تقترض “عقدًا” من السيدة “فوريستير”.

تحقق حلم ماتيلدا وذهبت إلى الحفل لكنها أضاعت العقد، ولتجنب الفضيحة ذهبت إلى محل مجوهرات واشترت عقدًا مماثلًا بـ 40 ألف فرنك. على إثر ذلك اضطرت هي وزوجها إلى الاستغناء عن الخادمة، والكدح المتواصل لعشر سنوات.

وبينما كانت تسير التقت بالسيدة فوريستير التي استغربت رثاثة ملابسها وأنها شاخت قبل الأوان، فأخبرتها أن ذلك كله بسبب “العقد” وهنا كشفت لها السيدة بأنه “فالصو” ولا يساوي أكثر من 500 فرنك!

أسطورة سيزيف

لنترك قصة العقد جانبًا ونذهب إلى أسطورة سيزيف، واسمه يعني “خنفساء الروث”. تقول الأسطورة إنه كان ماكرًا محتالًا يقتل المسافرين، ويخادع الإلهة بما فيها إله الموت.

جعران مصري قديم

 

من الواضح أن الأسطورة تستند على تقديس المصريين القدماء للجعران، بوصفه رمزًا من رموز دورة الحياة وتجددها وأبديتها، مثل قرص الشمس، وزهرة اللوتس. لكن اليونانيين اعتبروا “الجعران/سيزيف” قصة عقابية، انتقامًا من الآلهة للمحتال الماكر، فهي حكاية عن أبدية العذاب، أو حسب تفسير ألبير كامو عن عبثية الحياة الإنسانية نفسها، حيث يظل المرء يكدح ويشقى في دائرة لا تنتهي، من أجل لا شيء في نهاية المطاف.

صورة تعبيرية- أسطورة سيزيف

التفكر في روابط

هل ثمة روابط كافية بين القصص الثلاث التي تنتمي إلى بلدان وأزمان متباعدة؟ لنلخص القصة الأولى بأنها عن “المتاهة” التي يجد فيها الإنسان نفسه، نتيجة عجز أو تضليل حواسه وعقله له. فيظل إلى ما لا نهاية يكرر الفعل نفسه دون الوصول إلى طريق.

أما الثانية فهي عن كدح الإنسان إلى ما لا نهاية في “متاهة” حيث يكرر فعل الشقاء نفسه نتيجة كذبه وتفاخره وتمسكه بأهداف خادعة، إنه الثمن الفادح لعقد “فالصو”! وما أكثر الأهداف “الفالصو” التي نفني حيواتنا من أجلها!

وأخيرًا القصة الثالثة عن “المتاهة/الدنيا” كعقاب إلهي لشخص حاول التمرد على الموت. عن لعنة الخلود حين يتحول إلى عذاب أبدي.

أي أن الدنيا بكل مدركاتها الحسية قد تضللنا عن ذواتنا، أو تضللنا أهدافُنا الخادعة فيها، أو تضللنا حواسُنا نفسها.

متاهة- صورة تعبيرية

تكرر القصص الثلاث فعلًا عبثيًا، قابلًا للامتداد إلى ما لا نهاية، لتعميق شعور الإنسان بالضآلة والبؤس والاغتراب والعذاب. كلها عن ذلك الوعي الناقص والمشوه والعاجز عن بلوغ الاستنارة والسعادة. يجري في مكانه، يكدح ويشقى، يصعد ويهبط، حاملًا صخرته إلى الأبد.

حبل إنقاذ

كانت كل قصة بحاجة إلى حبل إنقاذ من خارجها. احتجنا أنا و”حسن” إلى دليل في الصحراء يعرف دروبها أفضل منا، ولو كانت ماتيلدا أقل غطرسة وتفاخرًا وأكثر صدقًا لعلمت منذ البداية أن “العقد” مزيف ووفرت على نفسها تعب السنين، ولو ارتضى سيزيف بالموت لما حكم عليه بلعنة الصعود بالصخرة إلى الأبد.

نحتاج إلى شيء من خارج “الوعي”، والحواس، والمحسوسات، يساعدنا لبلوغ الوعي الخالص. نحتاج إلى مرجعية عليا تمنحنا الرحمة لا اللعنة.

لذلك، إذا كان التفسير الوجودي للأسطورة يشير إلى عبثية الحياة، فاللجوء إلى الرب يمنح الحياة معنى، ويبرر لنا جدوى الكدح فيها، ويلهمنا صوت الرب في داخلنا بوصلة النجاة حين نضل في دروبها.

بوصلة- صورة تعبيرية

الوعي الخالص

في كتابه “التصوف والفلسفة” يتحدث ولتر ستيس عن “التصوف الإنطوائي”، ويقصد به أن تنغلق الذات على نفسها، فيستبعد الوعي كل الصور الحسية، والأفكار المجردة، والاستدلال العقلي، وينفتح على تجربة باطنية عميقة تصله بالواحد اللامتناهي. فلا يكون هناك إلا الفراغ والخلاء من كل الصور والرغبات. وإذا ما تحقق ذلك الاتصال يكون “الوعي الخالص” و”السعادة القصوى”. فالذات عندما لا تكون منشغلة بموضوعات مادية وذهنية، فإنها تكون على وعي بذاتها.

إحدى اللوحات المعروضة بجاليري ساتشي في لندن- بعنوان “الأفق”

 

ثمة طريق طويل من اختبار تلك الفكرة سار فيه فلاسفة ومفكرون ومتصوفة، فالفيدانتا الهندية ترفض “الثنائية” وترى أن الذات الفردية والكلية ليستا موجودين منفصلين وإنما يتحدان في هوية واحدة، واليوجا كعبادة تأملية تسعى لهذا التفريغ السعيد لتحرير الذات من رغباتها وقيودها، والصلاة في المسيحية ليست من أجل العطايا، وإنما تدريب لبلوغ تجربة مباشرة مع الله، فالراهب الكاثوليكي روز بروك يتحدث عن “الرجل الذي يعاين الله.. يستطيع دائمًا أن يدخل عاريًا غير مثقل بالصور، إلى ذلك الجزء العميق من روحه، وسوف يجد أنه اكتشف النور الأزلي”.

لوحة تصور النور الأزلي اللامتناهي بداخل الروح

 

والمعنى نفسه يكرره يوحنا حامل الصليب: “لابد للروح أن تفرغ كل ما فيها من كل تلك الصور والأشكال”.

بطبيعة الحال تعود جذور الفكرة إلى فلسفة أفلوطين في عدم التمييز بين الرؤية والرائي، ففي الانفصال توجد الثنائية.

تعاود الفكرة حضورها لدى متصوفة المسلمين؛ فالشيستري يقول “في ذلك الحضور لا توجد “أنا” و”نحن”، والغزالي يتحدث “عندما تُحذف الكثرة تقوم الوحدة”.

وقد أصل فلاسفة مثل هيجل وسبينوزا لهذا التصور الذي اشتهر باسم “وحدة الوجود” أو “الحلول” حيث يعتبر الله والطبيعة حقيقة واحدة، فالعالم بكل تجلياته ما هو إلا صورة له تعلن وجوده، وليس لها وجود قائم بذاته. ومن غير المنطقي هنا فصل الذات الإنسانية عن “الكلية” وإخضاع الأخيرة لمنطق عقلي جامد. وإنما الأفضل أن تتحرر “الذات” من كل حواسها ومحسوساتها، في رحلة عودة تنتمي فيها إلى “الذات” الكلية وتذوب في أنوراها.

صورة تعبيرية

جملة قتلت الحلاج

نُسبت إلى الحلاج تهم شتى، منها أنه يتلون ولا يثبت على معتقد، ووصفت أقواله بالزندقة والهرطقة أشهرها “ما في الجبة إلا الله” فقد فسر بعض الفقهاء جملته بوصفها “ادعاء الربوبية” وحكم عليه بقطع رقبته.

ثمة من حاول تفسير المقولة على المجاز، فالقصد أن الله هو الحقيقة المطلقة وما عداه مجرد عدم لا وجود له، بما في ذلك الحلاج نفسه جسدًا وروحًا.

ليس التأويل بعيدًا عن إقرار التصوف الانطوائي بأن الله وحده هو الحقيقة المطلقة، لكن ـ في ظني ـ أن الحلاج لم يقصد فقط ذلك الإقرار، ولا دلالته المجازية، وإنما يشير إلى مسلك صوفي وفلسفي، يتطلب تدريبًا روحيًا طويلًا وعميقًا، يشترك ـ بغض النظر عن تباين الأديان والفلسفات ـ في ثلاث سمات: الأولى: عنصر الغبطة، والسلام، والنشوة، والتحرر، والثانية: غياب الاقتناع الكامل بالواقع الموضوعي (المحسوسات/المدركات العقلية)، والثالثة: أن التجربة لم تعط أي شعور بمعنى الحياة (الفراغ). فقد أراد الحلاج أن يتصل اتصالًا مباشرًا بالذات الكلية، بلا دليل ولا نص ولا عقل، ولا رغبات ولا خوف من عقاب.

الرحلة والمتاهة

إن القصص الثلاث ترمز جميعها إلى “رحلة” ما، تتحول بنا إلى “متاهة” وبحث عن خلاص. يكمن ذلك الخلاص في حبل إنقاذ ما، قد يقودنا عبر الحواس، المنطق العقلي، الكدح والشقاء، الحدس الباطني، اليوجا، الصلاة والتضرغ، التحرر من كل الرغبات والأهداف الزائفة، بلوغ الوعي الخالص.. قد يقودنا ذلك كله إلى الاقتراب العميق من “الذات الكلية” بدرجة أو أخرى. وكل ما فعله الحلاج أنه أعلن عن اقترابه حد التماهي، حتى فنيت الصورة الخادعة في الأصل الخالد. أراد الحلاج أن يخبرنا بأنه قد عبر “المتاهة” وأدرك الخلاص وبلغ وعيه الخالص.

والله سبحانه وتعالى يدعونا جميعًا أن نقترب، فلا ألوم أحدًا على محاولته ولا على طريقته في الدنو والاقتراب.. مع اعترافي بأن بعض الطرق أشد وعورة مما يحتمله عقول وقلوب معظم البشر.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *