أحدث الحكايا
صورة للموسيقار الألماني يوهانس برامز

محمد صالح يحكي: “يوهانس برامز” أحد بناة الأهرامات الموسيقية

سأطلب منك عزيزي القارئ طلباً قد يكون غريباً بعض الشيء. أرجو منك أن تنتقل عبر هذا الرابط للاستماع إلى الحركة الثالثة من السيمفونية الثالثة ليوهانس برامز مصنف 90 في سلم فا الكبير (وسلم هذه الحركة سلم دو الصغير، هي تفصيلة موسيقية بسيطة، قد لا تحمل معنى كبيراً بالنسبة للمستمع العادي، إلا أنها هامة لجمهور المتخصصين في المجال).

لتصدح الموسيقى بينما تقرأ هذه الكلمات.

الموسيقار الألماني يوهانس برامز

 

في زمن بعيد، حينما كنت في بداية مشواري الفني، وحينما كنت أدرس الهندسة الميكانيكية بكلية الهندسة جامعة عين شمس، بميدان عبده باشا في القاهرة، وكانت الموسيقى هواية لطيفة، أستطيع فيها بمشقة وعناء شديدين أن أقرأ النوتة الموسيقية، إلا أن معظم استيعابي وإدراكي للموسيقى كان من خلال الأذن لا من خلال القراءة. كانت الموسيقى حلماً بعيداً لا أعرف ما إذا كان سيتحقق أم لا.

موسيقى برامز العصية!

في ذلك الزمن، قابلت عازفاً لآلة الكلارينيت، وهي آلة نفخ خشبية في الأوركسترا، كان يعزف في أوركسترا القاهرة السيمفوني، وكان ولا يزال موسيقياً لامعاً ومرموقاً. قال لي حينها صاحبنا إن لبرامز عملين لآلة الكلارينيت مع البيانو مصنف 120 رقم 1 و2، الأولى في سلم فا الصغير، والثانية في سلم مي بيمول الكبير، وهمّ عازف الكلارينيت بإطلاعي على النوت الموسيقية لهذين العملين، فطالعت النوت الموسيقية، ووجدت أشكالاً معروفة، وظننت حينها أن بإمكاني -وأنا أجهل من دابة- أن أعزف هاتين السوناتتين، قلت في بالي: ربما يتطلب ذلك مجهوداً أكبر، ووقتاً أطول، إلا أنها لا شك مهمة ممكنة وغير مستحيلة. عرضت على عازف الكلارينيت أن أعزفها معه!

ما أود الاعتراف به هنا، هو أنني لم أعزف أيا من هاتين السوناتتين في حياتي، وإنما تطرقت لحركات منهما أثناء دراستي وعملي معيداً بجامعة كونيتكت بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت حينها قد تخرجت بالفعل من كونسيرفتوار بطرسبرج الحكومي في روسيا (وقد درست هناك 6 سنوات)، إلا أن تلك الحركات التي عزفتها كانت صعبة أيما صعوبة.

بعد الولايات المتحدة، عدت إلى مصر، وعملت عازفاً لآلات المفاتيح (البيانو والتشيليستا والأرغن والهاربسيكورد) بأوركسترا القاهرة السيمفوني، وحينها عزفت برامز مع زملائي الأعزاء من الأوركسترا، وفهمت حينها أن برامز شديد الصعوبة من حيث الفكر الموسيقي والنفاذ إلى عمق النص الموسيقي، وعلى الرغم من الصعوبات التكنيكية التي يواجهها العازف في عزفه لبرامز، إلا أن الصعوبة الحقيقية تظل في فهم النص، والقدرة على التعبير عن تعقيده وعمقه.

الكاتب الفنان محمد صالح أثناء عزفه
احتفال جوجل بذكرى ميلاد برامز

برامز.. جوهر الموسيقى الحقيقي

برامز هو جوهر الموسيقى الحقيقي، لب الحضارة الموسيقية الغربية البشرية العامة، التي نمتلكها جميعاً. ربما تظن، عزيزي القارئ، أن موتسارت بألحانه الشجية، وبساطته، بل سذاجته الموسيقية المبهرة هو منتهى العبقرية، إلا أن ما تلمحه في موتسارت هو ما يبدو منه ومن موسيقاه وكأنها آتية من علٍ. وكأن قوى إلهية ملائكية تمليه ما يكتب، فيكتب دون أن يفكر مرتين، قالب واحد يصب من المرة الأولى دون أي تعديلات. كل شيء في مكانه من اللحظة الأولى لكتابة النص.

الموسيقار الألماني موتسارت
يوهانس برامز

 

أما برامز، ومن قبله باخ وبيتهوفن، فذلك هو المثلث الألماني المبني على الأفكار والقوالب والقواعد، هم عقل الموسيقى الأكاديمية الكلاسيكية الغربية، هم صانعو هذه الثقافة بالعرق والكد والعمل المضني عبر سنوات وتراكم ثقافي استمر قروناً. هؤلاء هم بناة الأهرام الموسيقية التي لم تكن لتوجد من دونهم.

وعودة لبرامز، ستجد أن الفكرة لديه قد تبدو بسيطة، إلا أنه وعندما تفكر في كيفية “خلق” هذه الفكرة بهذه البساطة، وهذه السلاسة، وفي نفس الوقت هذا العمق، وانتقال الفكرة من آلة لآلة، وتحوّر الإيقاع لهذه الفكرة، والتحوّر اللحني، والتحور الهارموني، والبوليفوني، وكيف أن انتقال هذه الفكرة هو ما يخلق لديك إحساساً بحركة الموسيقى في الأبعاد الثلاثة، وكأنما تشاهد “مجسّماً موسيقياّ”، إنه براح الفكرة الموسيقية.

إنك تحس مع برامز أن بحثه المضني حقيقة هو عن الفكرة، وتحديداً فإنه يحاول إيقاظ الفكرة الجامدة من سباتها، إنه يركّب فكرته الموسيقية حتى تصبح جسداً حياً قادراً على الحركة والحياة باستقلالية وتفرّد.

يوهانس برامز أثناء شبابه

 

يستطيع برامز أن يقنعك بأن البطل في الموسيقى هو الفكرة الموسيقية، وأن كل الأشياء جوهرها الواحد الصحيح، وأن هذا الجوهر، يمكن أن يكون حياً لو استطعنا أن ننفخ فيه من روحنا، التي هي بالتبعية روح المطلق بداخلنا، فتتحرك هذه الفكرة/الجوهر الحي ويلد أفكاراً أخرى تتفاعل فيما بينها في انشطار عنقودي.

إنك تحس مع برامز أن بحثه المضني حقيقة هو عن الفكرة، وتحديداً فإنه يحاول إيقاظ الفكرة الجامدة من سباتها، إنه يركّب فكرته الموسيقية حتى تصبح جسداً حياً قادراً على الحركة والحياة باستقلالية وتفرّد.

هي الفكرة القادرة على أن تصنع حركة كاملة، أو ربما حتى سيمفونية، إنها حرفية ما بعد الموهبة، جهد وعمل مضني على مدار عمر بأسره. فكرة تحس معها بأن كل شيء في مكانه وبإيقاعه ولا يمكن تخيله على نحو مختلف. برامز يعرف جيداً ما الذي يريده، وكيف يصل إلى تجسيد فكرته، وهنا جوهر صنعته.

يوهانس برامز

 

إن مجرد القدرة على الاستمتاع بذلك من خلال القراءة للمدونة الموسيقية يحتاج إلى سنوات طوال، ومن المؤكد أن العودة لبرامز في أوقات مختلفة من عمر الإنسان، تجعله يفهم برامز وأفكاره الموسيقية على نحو مختلف.

وحينما أتذكر تلك اللحظة الساذجة والسطحية حينما قلت يوماً لصديقي عازف الكلارينيت إنني “قادر” على عزف سوناتات برامز، فإني أتوارى خجلاً، وأفكّر داخلي حول عجز الإنسان عن تقدير إمكانياته وقدراته في المراحل المختلفة من مراحل نضجه.

الفنان والكاتب محمد صالح
مقبرة الموسيقار الألماني يوهانس برامز بفيينا

عن محمد صالح

موسيقي وكاتب ومترجم. تخرج من كونسيرفاتوار بطرسبورج الحكومي (روسيا) عام 1996، عمل بأوركسترا القاهرة السيمفوني – دار الأوبرا المصرية في الفترة من 2000-2017. يعمل محررا بالموقع العربي لقناة "روسيا اليوم" من 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *