أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: أحمد باشا كمال.. أول مصري يقتحم علم المصريات

في عام 2005، وحين كنت أقوم بالتدقيق اللغوي لبعض الوقت بالمشروع القومي للترجمة، كانت الصديقة شهرت العالم تتيح لي أحيانا اختيار العناوين التي أعمل عليها، مما جعل الأمر في كثير من الأحيان متعة كبيرة، تتمثل في أن تقرأ ما تحب ويكون ذلك ضمن عملك.

وكان من ضمن اختياراتي كتاب كان قد ورد حديثًا ترجمه واحد من كبار أساتذة التاريخ المصريين، بل ونموذج للأستاذ الجامعي هو الدكتور رؤوف عباس، وكان عنوان الكتاب في ترجمته العربية هو “فراعنة من؟” بصيغة السؤال. وتخيلت أن الكتاب في تاريخ مصر القديمة، وهو لمؤرخ أمريكي يدعى دونالد مالكوم ريد، لكنك ستُفاجأ منذ العنوان الفرعي أن الكتاب يتحدث عن الآثار المصرية والمتاحف والهوية الوطنية المصرية منذ الحملة الفرنسية حتى قيام الحرب العالمية الأولى.

كتاب «فراعنة من؟» ترجمة د.رؤوف عباس

 

وجدت بالفعل في هذا الكتاب كنزًا كبيرًا لمعرفة علم المصريات، الذي اختص مصر وحدها وتاريخها وآثارها، وكيفية نشأة هذا العلم على يد الفرنسيين ثم تحوله لواحد من أهم العلوم التاريخية الخاصة، وهو الأمر الذي دعاني في المرة الوحيدة التي قابلت فيها د. رؤوف عباس قبل وفاته بقليل عام 2008 أن أشكره جزيلا على تلك الفائدة الكبيرة التي قدمها للقارئ المصري والعربي المهتم بهويته وتاريخه.

العثور على أحمد باشا كمال

كان من أهم اكتشافات هذا الكتاب اسم أول عالم مصري في ذلك العلم، أحمد باشا كمال، المولود بالقاهرة عام 1851 والذي بعد أن أتم تعليمه الأولي في الكتاب ومكاتب المبتديان، اختار أن يلتحق بمدرسة الدراسات الأثرية بالقاهرة فور افتتاحها عام 1869 على يد العالم الأثري الألماني هنري بروكش، وعندما تخرج أحمد كمال في هذه المدرسة كان حلمه الالتحاق بمصلحة الآثار، ولكن ذلك لم يحدث فقد حيل بينه وبين العمل بالمصلحة التي كان يحتكر الأجانب العمل بها بسبب منع المصريين من العمل بالمصلحة في عهد رئيسها مارييت لمحاولة ضمان استمرار السيطرة على هذا العلم.

أحمد باشا كمال

 

من أهم إنجازاته في هذا المجال تأليفه لمعجم اللغة المصرية القديمة، وهو المعجم الذي استطاع الربط فيه بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات التي ظهرت بعدها ومنها اللغة العربية، ويعد هذا المعجم أهم ما كتبه أحمد باشا كمال من مؤلفات وأعظمها شأنا.

 

عمل أحمد كمال بوزارة المعارف معلما للغة الألمانية بإحدى المدارس الأميرية بالقاهرة، ثم تركها وعمل مترجما للغة الفرنسية في وزارة المالية، ولكن شغفه بالآثار جعله يترك تلك الوظيفة عندما حانت أول فرصة للعمل بمصلحة الآثار، والتحق في وظيفة كاتب بعد أن تظاهر بعدم معرفته بالآثار لينال الوظيفة، ثم لم يلبث أن شغل وظيفة مترجم ومعلم للغات القديمة بالمتحف المصري.

ولما خلت وظيفة أمين مساعد بالمتحف المصري تمكن من الفوز بها في سنة 1873؛ فكان أول مصري يتقلد هذا المنصب، بعد أن سمح ماسبيرو الرئيس الجديد للمصلحة له فقط من ضمن المصريين بالعمل في هذا المجال.

إسهاماته في علم المصريات

كان أحمد كمال يجيد اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية، ويعرف قليلاً من القبطية والحبشية، كما يقرأ الهيروغليفية ولغات سامية أخرى مثل العبرية، وكانت له منذ أن التحق بهذا العمل إسهامات كبيرة منها إسهامات عملية في الاكتشاف والتنقيب وأهم الكشوف التي أسهم فيها كشف المومياوات في البر الغربي بالأقصر، وهو الكشف الذي خلده الراحل شادي عبد السلام في فيلم المومياء، وكان هو العالم المصري الوحيد في ذلك الحين، بالإضافة إلى إسهاماته الأكاديمية وسعيه لوزارة المعارف لبدء الاهتمام بعلم الآثار المصري، مما كان له عظيم الأثر في إنشاء المدرسة الأثرية المصرية التي كان من أهم علمائها سليم حسن.

أحمد كمال أفندي كما صوره شادي عبد السلام في فيلم المومياء

 

ومن أهم إنجازاته في هذا المجال تأليفه لمعجم اللغة المصرية القديمة، وهو المعجم الذي استطاع الربط فيه بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات التي ظهرت بعدها ومنها اللغة العربية، ويعد هذا المعجم أهم ما كتبه أحمد باشا كمال من مؤلفات وأعظمها شأنا، وكان مخطوطا يقع في 22 مجلدا، ويجمع مفردات اللغة المصرية وما يقابلها بالعربية والفرنسية والقبطية والعبرية، وقد تم طباعة المخطوط في 23 مجلد بواسطة المجلس الأعلى للآثار عام 2002 في شكل تصوير شمسي بخط المؤلف بعد جمع نسخ المخطوط من الورثة.

معجم اللغة المصرية القديمة من أبرز مؤلفات أحمد كمال باشا

 

بالإضافة إلى عدد كبير من الأبحاث والدراسات له ما يزيد عن أربعة عشر كتابا في علم المصريات. لكن أهم ما فعله أحمد كمال هو فتحه الباب للمرة الأولى للمصريين لكي يتخصصوا في علم الآثار على الرغم من المحاولات الكثيرة التي دأب عليها العلماء الأجانب العاملون في مصلحة الآثار المصرية طوال القرن التاسع عشر وبدايات العشرين لمنع أي مصري من دراسة هذا العلم! لأسباب تتعلق بسيطرتهم عليه وعلى ما يتم اكتشافه وتأويل ما يستخرج من معلومات لصالح أغراضهم الاستعمارية الخاصة، وربما يدلنا الحوار الدائر بين أحمد كمال في نهايات حياته وبين مسيو لاكاو مدير مصلحة الآثار الفرنسي عام 1922، أي قبل وفاته بأقل من عام، حين اقترح كمال فتحت الباب للمصريين للانضمام والتدرب في المصلحة فرد عليه لاكاو بأنه لم يقابل من المصريين من يهتم بهذا العلم، فيرد عليه كمال قائلا: نعم يا مسيو لاكاو، خلال الخمس وستين عاما التي أدرتم فيها المصلحة ما الفرص التي أتحتموها لنا؟

ربما يكن هذا السؤال تحديدا هو العنوان الذي كان يمثل طريق أحمد كمال في طول حياته فاستطاع به أن يفتح للمصريين طريقا لكي ينشئوا علم المصريات المصري بعد أن كان حكرا على الخواجات.

99 عامًا على رحيل أول مؤرخ عربي للآثار المصرية.. حكاية أحمد كمال باشا والخبيئة| صور - بوابة الأهرام
خبر وفاة أحمد باشا كمال بجريدة الأهرام قبل حوالي 100 عام

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *