أحدث الحكايا

د. هيثم الحاج علي يحكي: حكاية جابرييلا أندرسون.. حين يكون اليأس خطيئة

في عام 1984 كنا في طفولتنا على موعد مع حدث مهم هو أولمبياد لوس أنجلوس، وكانت أهمية الحدث تكمن في أنها المرة الأولى التي يتم فيها نقل الألعاب الأولمبية على الهواء استغلالا لعمل الأقمار الصناعية الأمريكية الحديثة، فكانت تلك هي الفرصة الأولى لنا للتعرف على كثير من الرياضات التي لم نكن على علم بها أصلا.

كنت أجلس مشدودا أمام الشاشة –تليفزيون إن إي سي ملون 16 بوصة– قبل طلوع الفجر بقليل لأشاهد ألعابا لم أسمع بها من قبل ولم أشاهدها، مندهشا مما يفعله هؤلاء الناس، ألعاب القوى حيث الأسرع والأعلى والأقوى، مسابقات القفز والرمي والعدو بأنواعها الكثيرة، والجمباز والرياضات القتالية والتنافسية.

رأيت للمرة الأولى كيف علّم محمد رشوان بطل الجودو المصري العالم الأخلاق الرياضية حين تجاهل متعمدا إصابة خصمه الياباني في قدمه ولم يلعب مستغلا إياها ليخسر ذهبية اللعبة، ويكتفي بفضية مصرية وحيدة في الأولمبياد، لكنه يكسب احترام العالم كله، ويعرف بأنه المصري النبيل، ويتم تكريمه بطلا للروح الرياضية على مستوى العالم وفي اليابان.

أول ماراثون للسيدات

وسط كل هذه الألعاب التي بدأت معرفتها في تلك الدورة يتم التركيز على أول ماراثون للسيدات في التاريخ، حيث إن أقصى مسافة كان مسموحا بها للسيدات قبل لوس أنجلوس هي العدو ألف وخمسمائة متر، وكانت تتم داخل مضمار ملعب كرة قدم، فلم يكن مسموحا للنساء بممارسة الجري في الشوارع كما ينص سباق الماراثون، الذي تبلغ مسافته ما يزيد عن واحد وأربعين كيلومترا، فيما عدّه الكثيرون في ذلك الوقت خطوة كبيرة نحو المساواة.

لتجد نفسك إذن وسط كل ذلك تراقب دخول المتسابقات واحدة تلو الأخرى لتدخل أولًا الأمريكية جوان بينوت أول فائزة في التاريخ بالماراثون ويتبعها باقي المشاركات.

العداءة الامريكية جوان بينوا الفائزة بأول مارثون للسيدات في الاوليمبياد

 

لكن بعد أن انتهى الجميع يتم تركيز الصورة على آخر متسابقة والتي أتت بعد فترة طويلة جدا تزيد عن نصف الساعة، وهي تدخل مترنحة ليستقبلها الجمهور أولا بالاستهجان، فهي لا تبدو من الوهلة الأولى رياضية جيدة، وبعد قليل يتم كشف الأمر، فالمتسابقة هي جابرييلا أندرسون المولودة في زيورخ بسويسرا، عام 1945، والتي تقيم بولاية أوهايو الأمريكية لكنها شاركت بجنسيتها الأصلية السويسرية، وهي تناهز التاسعة والثلاثين عاما.

بدأت جابرييلا السباق بصورة طبيعية بل إنها كانت في معظم مراحله من المنافسات الأوائل، ربما تكون قلة الخبرة بهذا النوع من المسابقات الذي يعتمد على قياس قوة التحمل وعدم تقديرها لحرارة الجو وقتها كانا السبب.

جابريلا اندرسون مترنحة في ماراثون السيدات

سعي نحو الفوز

كانت تجري دون النظر للوراء أو جوانب الطريق فلم تلاحظ النقاط المعدة لكي يتناول المتسابقات المياه فيها للمحافظة على نسب الماء في أجسادهن داخل جو تعادل درجة حرارته 32 درجة مئوية ورطوبة تعادل نسبتها 90 في المائة، حيث لم يكن مسموحا تناول المياه سوى من هذه النقاط.

جابريلا اندرسون خلال الماراثون

 

بدأت جابرييلا تشعر بالإعياء لكن إصرارها جعلها تتجاهل هذا الإحساس تماما، ليبدو واضحا عليها حين دخولها مضمار الملعب، لكنها تقول إن ضجة الجماهير التي بدأت في سماعها بدت كأنها المكافأة الأهم التي لن تتنازل عنها، تلك الجماهير التي قابلتها في البداية باستياء لكنها حين لاحظت أنها تبطئ من سرعتها لتتحول من الجري إلى المشي ثم ترنحها، بدأ التشجيع يعلو باسمها.

“كنت أعلم أنني لو توقفت أو جلست أو تلقيت أي مساعدة من أي نوع فستكون تلك هي النهاية، وكنت أرى المكان الذي يجب أن أذهب إليه”..

لذلك فعندما بدا أنها غير قادرة على المشي اقترب منها اثنان من الطاقم الطبي يعرضان المساعدة، فابتعدت عنهما خطوة دون أن تتوقف، خطوة كانت كفيلة بجعلها لا تسير إلى الأمام بل بشكل قُطري، لتعاني بصورة أكبر لكي تعود إلى خط سيرها الأصلي، كان جسدها يعاني من الإجهاد الحراري وتبدو على حافة الانهيار التام لكنها رأت خط النهاية فقاومت المساعدة كما قاومت الانهيار حين قالت إنها شعرت إن كبرياءها على المحك.

اقتراب الطاقم الطبي من جابريلا

 

وصلت جابرييلا إلى خط النهاية بالفعل وانهارت بعد خطوة واحدة منه، ليتم حملها على عربة إسعاف لتتلقى العلاج، وتشفى بعدها لتشارك في عديد من المسابقات التالية، وقد وضعها زمنها في المرتبة السابعة والثلاثين من إجمالي أربع وأربعين متسابقة أنهين السباق.

 

لكن ما فعلته جابرييلا كان جديرا بالتذكر ربما أكثر من الفائزة الأولى في هذا السباق، كانت تجربة تعلمنا أن الصبر على أهدافنا إذا حافظنا عليه ربما يؤدي إلى أكثر مما نهدف إليه، خاصة إذا كنا بالفعل قد قطعنا شوطا في الطريق إلى هذا الهدف.

لقد علمتني تلك السيدة التي تلح صورتها على ذهني بين الحين والآخر على مدار أربعين عاما أن اليأس خطيئة كبرى.

جابريلا اندرسون

عن د. هيثم الحاج علي

شاعر وناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان. شغل سابقا العديد من المناصب في وزارة الثقافة المصرية مثل: رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، له العديد من الكتب النقدية والإبداعية.

2 تعليقان

  1. عصام السيد عبد الفتاح السيد

    بالطبع أذكر هذه الواقعه وكان عمرى وقتها ٩ سنوات وأذكر أيضا حديث والدى رحمة الله عليه عنها وعن إصرارها رغم ما كانت عليه من إعياء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *