أحدث الحكايا

د. برلنت قابيل تحكي: هل تشعر بالتوحد مع عملك؟ اقرأ قبل أن تذهب إلى الطبيب النفسي

يعرف بعض أصدقائي المقربين أنني مررت بتجربة سيئة وصعبة خلال فترة عملي في الأمم المتحدة بروما، حيث وقعت تحت براثن مديرة نرجسية، حولت حياتي إلى جحيم، دون أن تقوم بأي خطأ مباشر تجاهي، كانت بارعة في امتصاص طاقة من يعملون معها، والخروج من أي مواجهة معها بلعب دور الضحية ببراعة.

ولم أكن الوحيدة التي تعرضت لهذا الأذى منها، وإنما كل الفريق بلا استثناء، دون أن يتمكن أحد من إيقافها عند حدها.

صورة تعبيرية

 

وعندما فكرت في اللجوء لشؤون العاملين بالمنظمة الكبيرة التي كنت أعمل بها، وفي منصب متميز جداً، ظناً مني أن الأمم المتحدة لديها من القوانين ما يحفظ حقوق موظفيها، فوجئت بالموظفة المختصة تنصحني بقراءة كتاب “المتنمرون في العمل – The Bully at Work”[1]، الذي يتضمن نصائح وإرشادات عن كيفية التعامل مع المتنمرين، واستعادة الكرامة في بيئة العمل.

 

“لطالما كان السؤال حول الهوية والعمل مصدر جدل، ففي عالم اليوم سريع الوتيرة ، من السهل الانغماس في العمل الجاد، مما يطمس الخطوط الفاصلة بين من نحن وماذا نفعل، فهل وظائفنا هي التي تحدد من نحن؟”

 

المضحك أنها اعتذرت لي عن عدم توافر أي نسخ لديها، حيث نفذت جميعاً، ونصحتني بشراء الكتاب.

غلاف كتاب المتنمرون في العمل

 

الفأر المذعور

عرفت بعد ذلك من صديقة مقربة في العمل أنها مرت بنفس التجربة وأنها كانت أسعد حظًا مني حيث حصلت على نسخة من الكتاب من نفس الموظفة، ولم تضطر إلى شراء الكتاب.

طلبت مني الموظفة المختصة، إذا رغبت في رفع الشكوى لمستوى أعلى، أن أعمل تجميع أدلة ضد مديرتي بالتواريخ والإثباتات مع توثيق كامل لكل ما تقوم به ضدي وضد زملائي من إيذاء نفسي، في إجراء يحتاج إلى شهور طويلة للانتهاء منه، قبل أن يتم رفع الأمر للجنة الشكاوى.

صورة تعبيرية

 

ونصحتني بالطبع بالتوجه للمستشار النفسي الذي لم يضف جديداً لكل ما قالته، سوى أن زاد من شعوري بأنني كالفأر المذعور الموضوع في زاوية الحجرة في انتظار انقضاض القط عليه في أي لحظة.

 

اكتشفت من هذه التجربة أن بذل الكثير من الجهد إلى درجة التماهي مع العمل هو أمر شديد الخطورة.

 

كانت هذه التجربة واحدة من أسوأ تجارب العمل التي مررت بها، فها أنا ذا أحصل على وظيفة هي حلم للكثيرين، وخطوة مهمة في مشواري المهني، وظيفة مرموقة في الأمم المتحدة، وصلت إليها من خلال عملية تنافسية وصعبة جداً، وخضتها بنجاح، وانتقلت بأسرتي كلها إلى قارة أخرى سعياً وراء بداية جديدة في الحياة والعمل، لأجد نفسي عالقة في فخ لا أستطيع الخروج منه.

لن أطيل عليكم أكثر في التفاصيل، حيث تمكنت بحمد الله في الخروج من هذه الدائرة العصيبة إلى وظيفة أخرى وبلد آخر، لأثبت مقولة إننا لا نترك الوظيفة، وإنما نترك المدير السيئ.

صورة تعبيرية

 

هل يحدد العمل هوية الإنسان؟

أشارككم هذه القصة لأنها كانت بداية تفكيري في سؤال مقال اليوم. هل يحدد العمل هوية الإنسان؟ وإلى أي مدى يجب أن نسمح للعمل بأن يؤثر في حياتنا؟

على مدار حياتي المهنية تنقلت بين وظائف متعددة، وكنت محظوظة أنني في أغلب الأوقات أعمل لدى جهات أؤمن بأهمية ما تقدمه، وأشعر بالانتماء إليها، وأقدر مهمتها التي تحدث فرقاً بشكل أو بآخر في العالم، وكان مجال عملي هو ما أحبه وفي مجال تخصصي دوماً، مع ما أضافته لي سنوات الخبرة من آفاق أرحب للعمل على تطوير ذاتي في مجالات وطرق عمل جديدة. ولكن ظل التساؤل الملح والتحدي لدي هو أن أجد لنفسي تعريفاً، وتحققاً كفرد خارج هذه المؤسسات وخارج ما يمثله العمل لي.

 

ولكن كيف يمكننا حل هذه المعضلة، إذا كنا بالفعل نحب ما نعمل؟ وكيف نجد الشغف في عملنا، ونحقق التوازن مع حياتنا الشخصية في ذات الوقت؟

 

وقد كان لهذه التجربة الصعبة التي مررت بها، والتي امتدت لخمس سنوات، أثرها على كل شيء في حياتي، ودفعتني منذ ذلك الوقت إلى التساؤل عن مدى الارتباط بين عملي من ناحية، وبيني كشخص أو كيان من ناحية أخرى،  واكتشفت من هذه التجربة أن بذل الكثير من الجهد إلى درجة التماهي مع العمل هو أمر شديد الخطورة.

لطالما كان السؤال حول الهوية والعمل مصدر جدل، ففي عالم اليوم سريع الوتيرة ، من السهل الانغماس في العمل الجاد، مما يطمس الخطوط الفاصلة بين من نحن وماذا نفعل، فهل وظائفنا هي التي تحدد من نحن؟

مما لا شك فيه أن عملنا يصقل مهاراتنا ومعرفتنا، والوظائف التي نشغلها تصقل قدراتنا وتشكل خبراتنا. يبني الطبيب قاعدة معرفية محددة، بينما يطور الفنان مهارات إبداعية فريدة.

وبما أننا نقضي الجزء الأكبر  من ساعات يقظتنا في العمل، فإن التجارب التي نمر بها في العمل تشكل شخصياتنا وكيف نتفاعل مع العالم إلى حد كبير. وبالتالي يمكن أن يكون العمل مصدرًا للهوية والهدف، كما يمكنه أن يوفر شعورًا بالإنجاز ويساهم في إحساس الشخص بذاته.

أكثر من مجرد وظائف

على الجانب الآخر، نحن أكثر من مجرد وظائفنا، فحياتنا مليئة بالعلاقات والهوايات والتجارب خارج العمل. وهذه الجوانب تساهم بشكل كبير في تكوين شخصيتنا.

العمل يمكن أن يكون عابراً، فالوظائف تتغير، والشركات تنهار، وربط الهوية بالعمل فقط هو سلوك محفوف بالمخاطر، والتركيز على العمل يؤدي حتماً إلى الإرهاق، والإفراط فيه يؤدي إلى الاحتراق  الوظيفي، الذي يسبب الأرق، والقلق، والاكتئاب. كما أن الهوس بالعمل يؤدي إلى إهمال جوانب أخرى من الحياة، مما يضر في النهاية برفاهيتنا العامة، وبصحتنا النفسية بشكل عام.

ولكن كيف يمكننا حل هذه المعضلة، إذا كنا بالفعل نحب ما نعمل؟ وكيف نجد الشغف في عملنا، ونحقق التوازن مع حياتنا الشخصية في ذات الوقت؟

 

Balancing your professional and personal life can be challenging, but it's  essential. Here's how to improve

 

إن الإجابة على هذا السؤال معقدة، وربما يكون الحل لإيجاد التوازن بشكل ما من خلال تنمية الشغف تجاه العمل، مع وضع حدود صحية تمكننا من تحقيق حياة مُرضية تمتد إلى ما هو أبعد من جدران مكاتبنا.

ينبغي أن نحاول دوماً أن نستكشف قيمنا، وما الذي يهمنا حقاً، فالمواءمة بين العمل والقيم الشخصية تؤدي إلى خلق شعور بتحقيق الهدف والرضا، ولكن على الجانب الآخر ينبغي أن نطور هوايات واهتمامات أخرى خارج إطار العمل، حتى لا يكون لدينا اعتمادية كاملة على العمل طوال الوقت. بمعنى أن نجد نشاطاً يُشعرنا بالإنجاز، والتحقق خارج العمل، حتى إذا ما أصابنا إحباط ما في العمل، نكون قادرين على استيعاب ذلك الإحباط بالجوانب الأخرى التي نشعر فيها بالتحقق.

 

الهوس بالعمل يؤدي إلى إهمال جوانب أخرى من الحياة، مما يضر في النهاية برفاهيتنا العامة، وبصحتنا النفسية بشكل عام.

 

ثم تأتي الحدود الواضحة التي تميز بين وقت العمل والوقت الشخصي، والتي يجب أن نهتم بوضعها طوال الوقت، بما يسمح لنا بالحضور بشكل كامل في  جانبي الحياة.

 

أدرك صعوبة ذلك بشكل كبير في الوقت الحالي، حيث نضطر في الكثير من الحين إلى العمل لساعات طويلة، وبعضنا يعمل في أكثر من وظيفة لمواجهة تكاليف الحياة المرتفعة، وليست لدينا دائماً رفاهية الاختيار في هذه الأمور، ولكن في كل الأحوال يجب أن نتذكر دوماً أن  العمل مجرد جزء من حياتنا، هو جزء مهم ، لكنه لا يحددنا كأشخاص.

أتمنى أن نتمكن جميعاً من تحقيق بعضٍ من هذا التوازن يوماً ما.

ودمتم بخير.

* The Bully at Work: What You Can Do to Stop the Hurt and Reclaim Your

عن د. برلنت قابيل

د. برلنت قابيل أكاديمية وإعلامية مصرية، انضمت لكلية الإعلام، جامعة القاهرة كعضو هيئة تدريس فور تخرجها منها. حصلت على الماجيستير والدكتوراه في الاتصال والرأي العام من نفس الجامعة. شغلت منصب المسؤول الاقليمي للاتصال في مكتب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، بالقاهرة، ثم عملت كمدير للترويج والتواصل في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (لاحقا هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة). انضمت للأمم المتحدة مرة أخرى في منصب خبير التوعية والتواصل في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في مقرها الرئيس بروما. وتعمل حاليا كمديرة للبرامج في مركز أبوظبي للغة العربية.

4 تعليقات

  1. عبد العاطي قابيل

    افادت التجربه الشخصيه للدكتوره برلنت في تقريب المفهوم العام للموضوع وتنوع خبراتها افادت في جعل الشرح موضوعي ومفيد من الناحيه العمليه والشخصيه

    • برلنت قابيل

      شكراً جزيلاً عمي العزيز. حاولت أن أوضح الموضوع من خلال تجربتي الشخصية، وأرجو أن أكون قد وفقت

  2. عبد العاطي قابيل

    افادت التجربه الشخصيه للدكتوره برلنت في تقريب المفهوم العام للموضوع وتنوع خبراتها افادت في جعل الشرح موضوعي ومفيد من الناحيه العمليه والشخصيه.

  3. أتفق معك في ضرورة تحقيق هذا التوازن الصعب الذي يحتاج إلى وعي وجهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *