أحدث الحكايا

إبراهيم عبد الفتاح يحكي: مثلث برمودا

كان على يونس أن يتدبر عملا ليوفر مصاريف ذهابه للندوات، وكذلك ليتمكن من شراء كتب خارج المنهج. في سبيل ذلك التحق بأعمال كثيرة من بينها ورشة نجارة وأخرى لصناعة الأحذية ومكبسة أزرار ومحل حلاقة ثم طابونة بحي السيدة زينب، فكان أقسى مشهد تعرض له في حياته.

يومها لمح والده برفقة زميله ورئيسه في العمل أستاذ عبد المجيد وضاح، فشاء أن يتفادى لقاءهما وهو يحمل قفص الخبز على رأسه محاولا عبور الطريق نحو الرصيف الآخر، لكن أيوب اعترض طريقه مفاخرا: “هذا ابني يونس”. وأضاف: “ما الذي تصنعه يا شاعر؟” قال يونس: “أدافع عن اختياري!” قبل أن ينصرف مكملا طريقه.

صافحه أستاذ عبد المجيد وهو يشد على يده: “هذا عنواني ورقم هاتفي، لدي مكتبة كبيرة كلها لك ورهن إشارتك متى تشاء، يمكنك أيضا أن تهاتفني وسأبحث لك عن عمل يليق بك”.

 

هناك حيث تنفلت الأيام مثل الماء بين الأصابع وتمر السنوات كما لو كانت غيما ذوبته الشموس المتعاقبة، كيف لها الأيام تمر بطيئة هكذا بينما ينقضي العمر في لمح البصر؟

 

أخيرا عثر يونس على عمل بمكتب لإحدى الصحف الخليجية فتوفر له عائد شهري مكنه من الاستقلال بحياته، رغم درايته بأن الصحافة مقبرة الأدباء لكن لا بأس، قال لنفسه: شر لا بد منه.

زار السادات جامعته وانفجرت مظاهرات عنيفة في وجهه فغادر غاضبا وملوحا بقمع كل من يتجرأ رافضا سياساته، كتب يونس قصيدة على لسان أم عواد كان عنوانها “ورقة من الماضى البعيد”، يوم ألقاها بمقر حزب التجمع قُبض عليه ضمن اعتقالات مارس 81 وقضى قرابة الشهر مسجونا، السجن الذي خلف جرحا غائرا برأسه حين اعترض صفعة من أحد الضباط فانقض عليه عدد من المخبرين وأوسعوه ضربا، وغرز أحدهم كتف بندقيته الحديدي أعلى جبينه، وظل على إثره رهين الفراش حتى شفي تماما.

أن تحتسوا نبيذاً معتّقاً بالحبّ والفنّ والأدب... هنا القاهرة، هنا "ريش" -  رصيف22
عرف الطريق لمقاهي وسط العاصمة والتي تعج بمختلف أجيال الأدب والمسرح والتشكيل والموسيقى والسينما

 

قرّبته الصحافة خطوة جديدة وكبيرة من دوائر أهل الفن والفكر وعرف الطريق لمقاهي وسط العاصمة والتي تعج بمختلف أجيال الأدب والمسرح والتشكيل والموسيقى والسينما، هناك حيث التقى وجوها طالما سمع بها وقرأ عنها ولها، بل وبعض من كان يتلقف كتبهم سرا في منزل الكسبانية، تلك الكتب التي كانت تأتي مهربة كما لو كانت مخدرا محظورا إبان القطيعة التي فرضتها بعض الدول العربية في أعقاب كامب ديفيد.

هناك حيث تنفلت الأيام مثل الماء بين الأصابع وتمر السنوات كما لو كانت غيما ذوبته الشموس المتعاقبة، كيف لها الأيام تمر بطيئة هكذا بينما ينقضي العمر في لمح البصر؟

 

هكذا الطبيعة لا تكف عن إرسال إشارات قد نلحظها ولا نتوقف عندها كلما أردنا أن نمضي قدما صوب مجهول قد يمنحنا دهشة عابرة حتى ولو كبدتنا بعض الخسارات.

 

كتب لصديقه الجنوبي سمير دهشان رسالة مطولة ردا على رسالة الأخير حين قرر القدوم إلى القاهرة، محذرا إياه من المصير الذى ينتظره، لكن الرسالة وصلت بعد أن غادر سمير للتو، لولا أن نهض شقيقه يوسف وناولها له في اللحظة الأخيرة عبر نافذة القطار وهو يبدأ في التحرك من رصيف أسوان منطلقا في رحلته الطويلة صوب القاهرة.

 

طوى سمير الرسالة مؤقتا حين قفزت سيدة أربعينية بصحبة رضيعها الذي حملته على كتفيها كقدر لا فكاك منه بينما تعلقت في يمينها حقيبة يبدو من هيئتها أنها أُعدت على عجل. تشبثت بيمينها الحرة بمقبض العربة الأخيرة بإصرار من يود الهرب في ذات اللحظة التي هبطت سيدة أخرى كأنما ركبت القطار الخطأ.

كانت الشمس تنحسر رويدا كأنما ستسقط في هوة عميقة مخلفة إحمرارا تدرجت ألوانه حتى الرمادي وسرعان ما قطعه سرب طيور بيضاء تباطأ آخر طائر فيه وانثنى كاشفا مرة أخرى كبد السماء عاقدا العزم على العودة وحيدا كأنما أراد أن يقول شيئا ما. هكذا الطبيعة لا تكف عن إرسال إشارات قد نلحظها ولا نتوقف عندها كلما أردنا أن نمضي قدما صوب مجهول قد يمنحنا دهشة عابرة حتى ولو كبدتنا بعض الخسارات.

 

كومة من أصوات اختلطت في هذه اللحظة في ضفيرة غرائبية بين اصطكاك عجلات القطار بالقضبان وصفاراته المتقطعة كالنعيق وبقايا أصوات المودعين ونظرة يوسف الأخيرة وانسحاب النخيل والأشجار من خلف زجاج غائم تجمعت عليه زفرات المغادرين. “سأكون بخير”، قالها سمير لنفسه وهو يفتح الرسالة مرة أخرى ويدس رأسه في سطورها التي تتأرجح مع حركة القطار. يقرأ:

“هنا الوقت يمضي كسلحفاة في الخريف من عمرها، تسير فوق أرض مغطاة بحطام زجاجات لزجة، هنا نحيا كأننا نحيا، ونعمل كأننا نعمل، ونكتب كأننا نكتب في حياة من الاستعارات الدائمة، وفي مدينة بلا ملامح لا يستطيع قلبي أن يطمئن لنبضه ولا تستطيع روحي أن ترضخ لدهشتها ولا أستطيع أن أنتمي إلى جدار، هنا يقتسم الناس أحلامهم وهمومهم وقروشهم الزهيدة“.

 

رفع سمير عينه عن الرسالة فاتحا حقيبته ثم أخرج منها جهاز تسجيل صغير قبل أن يضع على أذنيه سماعة، ربما فكر في قطعة موسيقية تساعده على التركيز في سطور الرسالة أو في أقل تقدير ستعزل بعض الصخب.

 

أخبره علي أن المخرج شادي عبد السلام بحث عنه طويلا حتى أنه اتصل بماسبيرو طالبا أي معلومة عنه. مضيفا: “لكنهم أخبروه أن لا عنوان لك، هذا عنوان مكتبه ورقم هاتفه فاحرص على أن تتصل به، هو يرشحك لدور مهم بفيلمه الجديد”.

 

في القاهرة الصاخبة وفي هذه اللحظة بالذات كان يونس يمشي كعادته بلا هدف يقول: “كل الجهات صالحة لوحيد لا أحد ينتظره هنا أو هناك”. لم يكن يعرف أين يهرب من شمس النهار القاسية التي تحتل كل شيء. فكر في أن يمر بصديقته سهام والتي تعمل بإحدى المجلات على مقربة من مبنى ماسبيرو. حين وصل لمدخل البناية وقبل عبوره بوابتها صادفه على موسى خارجا فاستوقفه الأخير: “أينك يا رجل؟ أبحث عنك قرابة الشهر، سألت عنك في كل الأماكن التي ترتادها ولم أحصل على جواب”.

“ألم بي ألم أقعدني بعض الوقت”. قال يونس، وأضاف: “هأنذا على أية حال”.

مبنى الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو) قديما

 

أخبره علي أن المخرج شادي عبد السلام بحث عنه طويلا حتى أنه اتصل بماسبيرو طالبا أي معلومة عنه، مضيفا: “لكنهم أخبروه أن لا عنوان لك، هذا عنوان مكتبه ورقم هاتفه فاحرص على أن تتصل به، هو يرشحك لدور مهم بفيلمه الجديد”.

شكره يونس وأكمل طريقه صاعدا للدور الرابع حيث مكتب سهام التي استقبلته مرحبة ثم استفسرت عن غيابه، فأخبرها أنه استيقظ في أحد الأيام على ورم بخصيته اليمنى سرعان ما خلف ألما في قدميه فلم يستطع الحركة. عنّفته سهام على إهماله في صحته وقبل أن يشرب قهوته كانت لملمت أوراقها ودستها بحقيبتها وأمرته أن ينهض مسرعا وصحبته إلى معهد الأورام بشارع قصر العيني.

خضع يونس للكشف هناك وطلب الطبيب أشعة وبعض تحاليل كي يتمكن من تشخيص الورم وما إذا كان حميدا أم خبيثا. في طريق عودتهما للمجلة شددت سهام عليه أن يلتزم بإجراء التحاليل قبل أن تخبره أنها على موعد وبعض الأصدقاء الآن بمكتبها.

 

تعرف المقاعد أصحابها، فهذا كرسي فهيم فهمي والذي يشبه تمثال طلعت حرب الذي إن لم تجده ستضل طريقك للميدان المعروف باسمه، نعم فإن لم تجد فهيم فهمي فأنت بأي مكان آخر غير زهرة البستان.

 

مقهى زهرة البستان بمنطقة وسط البلد

 

كان القطار الذي يستقله سمير قد عبر محطة نجع حمادي للتو، جذب ستارة نافذته ليخفف من حدة الشمس قبل أن يعود لقراءة الرسالة:

“هنا حيث يتبادل الجميع فعل الاستدانة بدءا من ساندويتش الفول وانتهاء بسعر زجاجة خمر رديئة تنتهي مع مرارتها ليلة ثقيلة، هنا حيث لا يحصنك غياب مؤقت على منضدة مجاورة من التقولات والاتهام بالتجسس أو بالعمالة، هنا حيث التشويه فعل يومي ينال من الجميع حتى تتساوى الرؤوس فينتفي الحساب. تعرف المقاعد أصحابها، فهذا كرسي فهيم فهمي والذي يشبه تمثال طلعت حرب الذي إن لم تجده ستضل طريقك للميدان المعروف باسمه، نعم فإن لم تجد فهيم فهمي فأنت بأي مكان آخر غير زهرة البستان، الكرسي الذي احتمله لسنوات واقتسم معه آماله وآلامه، الكرسي هو كل شيء؛ المكتب والسرير والحبيبة والصديق. يحمل شيكا لم يصرف أبدا، يلوح به في وجوه الديانة أو من سيشرع في الاستدانة منهم. فهيم فهمي الذي كتب عشرات القصص البديعة عن القاهرة التي يعرفها شارعا شارعا ويحفظ أرصفتها ومقاهيها ولم تشأ أبدا أن تتعرف إليه، بل قهرته وأنكرته وحاصرته كفأر مذعور من جميع الجهات بالجوع والمرض فمات بداء السل على سرير اقتسمه معه مايكل والذي كان يعمل بالمقهى قبل أن ينفد بجلده ويتعلم مهنة سبك الفضة وتصنيعها، والذي ضجر من ورثة فهيم في بحثهم عن أمواله ولم يشغلهم أبدا ما تركه من أعمال أرقى وأبقى من أي مال. الورثة الذين رأيناهم لأول مرة في السرادق الذي تطوع به صاحب المقهى تكريما لفقيدهم.. ظل كرسى فهيم شاغرا وكأنه كرسى القصبجي الشهير في تخت سيدة الغناء..”

توقف سمير برهة لالتقاط الأنفاس كما فكر في البحث عن فنجان قهوة يعينه على مقاومة النوم الذي بدأ يغالبه، بينما كان يونس يضع فنجان قهوته على طرف مكتب سهام وبدأ في إلقاء قصيدة تلبية لرغبة بعض الحضور، حين فرغ من القراءة حياه الحضور الذين يعرفهم جميعا باستثناء مصطفى محجوب الذي بادره قائلا:

– “أنت متأثر كثيرا بعمنا فؤاد حداد”.

فزع يونس من رأيه محتجا: “كيف أتأثر بشاعر لم أقرأ له؟”

– تكتب العامية ولم تقرأ لحداد؟! هذه جريمة لا أسامحك عليها.

لكن المفاجأة كانت حين أخبره يونس أنه لم يقرأ من العامية سوى لبيرم التونسي.

عندما انتهى اللقاء اصطحبه مصطفى لمكتبة مدبولي واشترى له الأعمال الكاملة لفؤاد حداد وأهداها له قائلا: “هذا عربون صداقة بيننا”.

عندما وصل القطار لفرشوط كان سمير قد فرغ من قهوته، شرد ذهنه لحظات ثم عاد لاستكمال الرسالة لكن هذه المرة وهو يتخيل المكان والأشخاص:

“على الكرسي المواجه لفهيم داخل المقهى يجلس مجنون سعاد حسني فارشا صورا من مختلف مراحل عمرها، يطلب لها ما يطلبه لنفسه ويتبادل وإياها أطراف الحديث الذي لا يخلو من شجار وعتاب رقيق وأحضان وبكاء. يجلس أيضا المخرج التلفزيوني رجاء والذي ينتظر المراكب وما تحمله من خيرات، لكنها لا ترسو بمينائه أبدا. أما هنا على رصيف المقهى جهة اليمين يجلس الروائي النوبي الكبير عباس ممدوح ليلعب الطاولة مع شخص متخيل على المقعد الشاغر أمامه وعادة ما تنتهي المباراة بهزيمته فيدعو الفائز لزجاجة بيرة بالبار القريب وهو يبكي في آخر كل ليل. يبكي متذكرا حادثة انتحار ابنه أمام عينيه حين قفز من شرفة الدور الرابع بمستشفى العباسية للأمراض النفسية. يقول: مات الولد مرة واحدة وتركني أموت عشرات المرات في كل ساعة، يضيف: طوبى لمن مات مرة واحدة!”

عن إبراهيم عبد الفتاح

شاعر ومؤلف مسرحي، درس الفلسفة، كتب العديد من كلمات الأغاني لأصوات مصرية وعربية ومقدمات العديد من المسلسلات وأغاني الأفلام والأوبريتات. رئيس تحرير "أصوات أدبية".

تعليق واحد

  1. ما كل هذا الجمال رغم أنى اعرف كل من حكيت عنهم الا أننى كانى أراهم للمرة الأولى تسلم يا صديقى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *