أحدث الحكايا
صورة تعبيرية

شريف صالح يحكي (على باب الله): أن تربي أفعى في حجرك

اشتريتُ مأكولات خفيفة استعدادًا للذهاب مع بنتي وابني إلى معرض الكتاب. ثم فوجئتُ بابني حسين ينبهني إلى أهمية “مقاطعة” شركات أغذية تدعم حرب الإبادة في غزة.

كان ينظر بمنطق أنهم أخوتنا في الدين والعروبة، فقلتُ له: هذا تحيز مفهوم لكن المفترض أن ننصر القضايا لأنها عادلة لا أن ننصر من ينتمون إلينا.. ومثلما نطالب بحق الطفل الفلسطيني في الحياة.. علينا أن ندافع عن الحق نفسه للطفل الفلبيني والإفريقي.

أطفال من أفريقيا

 

فأحيانًا يكون “الانتماء” فخًا، جدارًا تبينه بينك وبين سائر البشر، بمنطق التعالي. فالناس يتفاخرون في تشييد القصور والقبور على السواء.

بالتالي تنطوي النظرة إلى الآخر على الازدراء والاحتقار، والحكم عليه بأنه “مالوش عازه”، “نكرة”، “أغيار”، “برابرة”، كي يبرر هذا الحكم العدوانَ عليه وقتله وإبادته، وترسيخ صورة نمطية عنه بوصفه “العدو”.

يحدث هذا بين البلدان والشعوب، مثلما بين الأفراد. فلا فكاك بعد التمايز والتعالي والتصنيف، من ازدراء الآخر وكراهيته والعدوان عليه.

التنافس أصل الشر

يتصرف الإنسان بذلك الشعور أنه سيد الأرض، مُكرم على الضفادع والسحالي والتماسيح وشجر السرو والسلمون والحشرات والفراشات.

مثلما يتصرف الثري، والجنرال، والعالم، والأمريكي، والرجل الأبيض، والذكر، أنه سيد مُكرم على الفقير، والجندي، والجاهل، والعربي، والرجل الأسود، والأنثى.

ينقلب شعور التمايز والجدارة، ومبدأ التصنيف، إلى حلبة “تنافس”، توظف فيها أدوات الكراهية والعنصرية وأساطير تحقير “الآخر”.

وحسب التراث التوراتي بدأ التنافس بقصة الأخوين”هابيل وقابيل”، وهي قبل أن تكون أول جريمة قتل، كانت أول تنافس.

هابيل وقابيل- صورة تعبيرية

 

كان هابيل راعيًا تقرب إلى الله بقربان (أضحية) من الغنم والضأن، فنظر إليه الرب وبارك محبته كابن بار له. أما قابيل فكان مزارعًا وتقرب بالثمار، فلم ينظر إليه ولم يتقبل قربانه. لأن من يحب الله حقًا يتقرب إليه بأعز ما لديه. وأضحية الدم أكثر قيمة من “الثمار”.

قد تفسر القصة بطور انتقال البشرية من الرعي إلى الزراعة، أو تفسر بحيل الكهنة لدفع المؤمنين لتقديم القرابين والنذور باهظة الثمن من الحيوانات والمجوهرات. وقد تُقرأ وفق تطور علاقة البشر بالرب والانتقال من الأضحية البشرية إلى الحيوانية.

 

في كل قصص التنافس الأليمة، وآلاف الحروب وملايين القتلى، يقول شعب للآخر أنا أقوى وأنت عبدي وأسيري، أنا مستحق للمال والزرع والغنم والذهب والنفط والبحار والجبال، أكثر منك، أنا مفضل عند الرب وشعبه المختار وليس أنت.

 

صورة تعبيرية

 

إنها قصة ذات مسارين: الأول يتعلق بعلاقة الإنسان بالرب، ما يقبله منه وما لا يقبله، فلا يجوز خداعه وإرضاؤه بما هو بخس لا قيمة له. أما المسار الآخر فيتعلق بالعلاقة بين البشر أنفسهم، ببذرة التنافس، والشعور الوهمي بالتمايز.

فقد تضايق قابيل لشعوره أن الله اصطفى أخاه وميزه عليه، وأنه مميز في نفسه أكثر، فقام إليه في الحقل وقتله.

هنا تحدث إليه الرب غاضبًا: “قابيل أين هابيل أخوك؟” قال: لا أعلم؛ أحارس أنا لأخي؟! فقال: ماذا فعلتَ؟ صوت دم أخيك صارخ من الأرض. فالآن، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك.. متى عملْت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض”.

هابيل وقابيل- صورة تعبيرية

 

هكذا حُكم على الإنسان باللعنة، أو حكم هو على نفسه بلعنة أن يعيش تائهًا هاربًا، بسبب التنافس وشعوره أنه “أفضل” من غيره.

ما حدث مع الأخوين، تكرر مع يوسف وأخوته، وشعورهم أن أخاهم الأصغر سنًا مفضل عند الرب والأب، فلن يفوزوا بالحب مثله.

أي أن التنافس لا يكون في الغنم فقط، وإنما في المشاعر أيضًا. ففي كل قصص التنافس الأليمة، وآلاف الحروب وملايين القتلى، يقول شعب للآخر أنا أقوى وأنت عبدي وأسيري، أنا مستحق للمال والزرع والغنم والذهب والنفط والبحار والجبال، أكثر منك، أنا مفضل عند الرب وشعبه المختار وليس أنت. كأن الرب هبط من عليائه فقاس الأرض ووزعها على هؤلاء وحرم منها أولئك!

النشاط الأناني

يتحدث كريشنامورتي عن “النشاط الأناني” النابع من مركزية الذات، وكيف أن الأديان، وحتى السجون ومعسكرات التعذيب، قد سعت إلى تعديله وتغيير مجراه.

الكاتب الهندي كريشنامورتي

 

نحن منذ الطفولة نحاول الاستئثار بثدي الأم، وخطف ألعاب أخوتنا. وقد نمارس هذا النشاط باسم الرب، والوطن، والقبيلة. وباسم كل صيغ التماهي مع ما يُعظم “الذات” ويمايزها ويضاعف مكاسبها ووهم استحقاقها.

نضيف الألقاب إلى الآخرين مثل: البيه، والباشا، وصاحب السعادة والمعالي، والزعيم، والكبير.. طمعًا في أن يردوها بالمثل.

 

بلوغ السعادة مرهون بالتحرر من جينة النشاط الأناني، وبذرة المنافسة، ومركزية الذات نفسها بكل أوهامها، ومن سيرورة الزمن نفسه. بمعنى آخر، ستتوقف الكراهية، والحروب، والقتل، فقط لو تجاوز الإنسان “أناه” كذات مستحقة ميزها الرب عن غيرها.

 

وبالعودة إلى مورتى فهو يحلل ذلك النشاط باستنارة عميقة؛ فإما أن نراه في الآخرين وننتقده، بينما لا نراه في الذات، وإما أن تكون “الأنا” مدفوعة بتحقيق “نتيجة”، أو تعي أن “المتعة انتهت” وترغب في المزيد. حتى ملاحقة “الفضيلة” بوعي ليس فضيلة. لأنه لا أحد يسعى وراء “التواضع” مثلًا.

فهل يمكن أن نتحرر من كل هذا الإرث؟ وذلك النشاط الأناني المدمر والمعيق للسعادة والحب؟ إجابة مورتى أن هذا ممكن، ويحدث في لحظات نادرة، شريطة أن تمارس الفعل غير واع، وغير قصدي، وغير هادف.

فبلوغ السعادة مرهون بالتحرر من جينة النشاط الأناني، وبذرة المنافسة، ومركزية الذات نفسها بكل أوهامها، ومن سيرورة الزمن نفسه. بمعنى آخر، ستتوقف الكراهية، والحروب، والقتل، فقط لو تجاوز الإنسان “أناه” كذات مستحقة ميزها الرب عن غيرها.

أحبوا أعداءكم

نحن لا نريد قتل أحد لكن ماذا لو هجم علينا مجنون بسكين؟ أليست هناك معارك تفرض علينا؟ أليس من حقنا أن نحمي “الذات” من شرور الآخرين؟ أليس التنافس سبب استمرار وجودنا الإنساني، حيث البقاء للأغنى أو الأقوى أو الأذكى أو الأكثر خبثًا؟

لاشك أنها مسألة عصية على الفهم، فلا يعقل أن نقول لمن يغرق استسلم ولا تقاوم الأمواج، مع ذلك، لنفكر قليلًا.. هل السعادة “أنانية”؟ الإجابة لا، هل الحب “أناني”؟ الإجابة: لا.. فطالما هما كذلك فلا يمكن الوصول إليهما عبر نشاط أناني “مدمر” للذات، والآخر.

جاء في الإنجيل: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (مت 5: 44)

بأي منطق نحب أعداءنا؟ ولماذا لم يطبق المسيحيون أنفسهم تلك الآية بين بعضهم البعض بدل الحرب العالمية الأولى والثانية؟ وبدل صناعة وامتلاك القنابل الذرية وضرب الآخرين (الأعداء) بها؟

قرأت مرة في مذكرات غاندي المتأثر بالروحانيات المسيحية والبوذية والإسلامية عن أهمية محبة “العدو/ الآخر” مع رفض ما يسيء (قولًا وفعلًا) سلميًا، وهو ما طوره وفق مبدأ “السّتياغراها” أي “المقاومة اللاعنفية” والتمسك بالحق.

المهاتما غاندي

 

أراد غاندي مقاومة الشر، لكن ليس بأدوات الشر، ليس بالعنف والكراهية. وربما هذا يفسر مقولة الإنجيل “أحبوا أعداءكم”، وآية القرآن:  ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة/6)

 

ربيت أفعى في حجري، ولم أكن أعلم أنها أفعى، أطعمتها وراعيتها على مر الأيام، إلى أن نمى نابها، فعضتني عضتين لم أبرأ منهما.

 

قصة أخرى عن الأفعى

عندما تحارب الشر بالشر بدهيًا ستصبح شريرًا، وعندما تتورط في دائرة الأنانية والتنافس والكراهية ستصبح عنيفًا، قابيل آخر من ملايين “القابابيل”. ولن تنتبه لمقولة نيتشه الشهيرة: “ليحذر ذلك الذي يحارب الوحوش من أن يتحول هو ذاته إلى وحش” و”عندما تحدق في الجحيم طويلًا، فإن الجحيم سيحدق فيك”.

صورة تعبيرية

 

عشتُ تجربة صعبة في حياتي أنني ربيت أفعى في حجري، ولم أكن أعلم أنها أفعى، أطعمتها وراعيتها على مر الأيام، إلى أن نمى نابها، فعضتني عضتين لم أبرأ منهما. قد تكون هذه التجربة مجرد كابوس، أو قصة رمزية عن شريك أو صديق أو زوج أو رفيق سفر.. لكنها تحدث أن تولد الكراهية والعنف من أقرب الناس إلينا. ولعل هذا سبب القول المأثور: “اتق شر من أحسنت إليه”.

فماذا نفعل حين يمد قابيل يده إلينا بالسكين؟

دعوني أروي لكم قصة أخرى قرأتها في كتاب “أجمل حكايات الزن”، كان هناك طبيب طيب القلب أغرق طوفان بلدته فتعلق بلوح خشبي، ثم لمح ثعلبًا يقاوم الغرق فمد إليه يده، فشكره الثعلب ووعده برد الجميل له، وفجأة رأى أفعى تغرق فمد يده لإنقاذها. فغضب الثعلب وقال له: هل جُننت يا سيدي؟! دع هذا الزاحف المرعب يغرق! اللوح لن يسعنا نحن الثلاثة.. لكن الطبيب أصر وأنقذ الأفعى. وبعدما انحسر الطوفان، مضى كل في طريقه، ومرت ثلاث سنوات حقق فيها الطبيب نجاحًا عظيمًا وأحبه الجميع ما عدا زميله الحقود الذي وشى به لدى حاكم المدينة، وقال إنه مشعوذ رأيناه مسافرًا يوم الطوفان مع ثعلب وأفعى. ولأن الحاكم كان حذرًا صدق الوشاية وألقى بالطبيب في السجن ثم نسيه.

وصلت أخبار المسجون إلى الثعلب في الغابة فأحس بالحزن، وبحث عن الأفعى التي كانت قد كبرت وأصبح طولها أمتارًا.. وحين أخبرها قالت له: “أيها الثعلب، سننقذه، ولو كلفني ذلك أن أخنق بين حلقاتي نصف سكان المدينة”.

وفي الليل تنكر الثعلب في عباءة كأنه طبيب، وولجت الأفعى سرًا إلى فراش الحاكم فلدغته، وتجمع الأطباء وعجزوا عن شفائه، فتقدم الطبيب المتنكر وأخبرهم أن الدواء لا يعرفه أحد إلا طبيب مسجون، فأخرجه الحاكم وأطلعه الصديقان القديمان على السر، فعالجه. وهنا رد له الحاكم اعتباره بينما عاد صديقاه إلى الغابة.

يُقال إنهم يغنون في أديرة الزن: “أيًا كان عدد الكائنات الحية، أعاهد نفسي أن أنقذها جميعًا، ذلك هو نَذر الرحمة”.

عن شريف صالح

‎كاتب وصحفي مصري، درس في دار العلوم في جامعة القاهرة. كما نال دبلوم النقد الفني، ودرجتي الماجستير والدكتوراة في النقد الأدبي من أكاديمية الفنون. له العديد من المؤلفات الأدبية، وحصل على عدة جوائز أبرزها جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة «مثلث العشق»، وجائزة دبي الثقافية عن مجموعة «بيضة على الشاطئ»، وجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان «أيام المسرح للشباب» في الكويت عن مسرحية «مقهى المساء»، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عن الإصدار الأول لمسرحية «رقصة الديك».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *