أحدث الحكايا

د. زين عبد الهادي يحكي: كيف خاض الموسيقيون السود حروبهم الثقافية الخاصة في الولايات المتحدة؟

إذا تركت الامر لشهرزاد، وسأدعي أنها وصلت لنيويورك بالولايات المتحدة وتعرفت على حي برونكس معقل الأمريكان الافارقة، وهو حي ضمن خمسة أحياء تتكون منهم نيويورك، وكانت شهرزاد تعتقد أن هؤلاء السود ليسوا أكثر من عبيد وفق منظورها التاريخي والثقافي، لتفاجأ بأنهم أحرار ما زالوا يخوضون حروبًا من أجل الاعتراف بفلسطين وغزة، كما أنهم مبدعون وأصحاب مواهب نادرة في مجالات فنية متنوعة وخلابة.

ستكتشف شهرزاد كيف قلبت موسيقى حى برونكس الفقير الطاولة على رأس صانعي الثقافة الموسيقية البيض في الولايات المتحدة، وكيف خاضوا كموسيقيين سود حروبهم الثقافية الخاصة والتي تعد موسيقى الهيب هوب واحدة من هذه الحروب التي انتصروا فيها مؤخرا.

والهيب هوب لمن لا يعرف ظهر عام 1970 في نيويورك تحديداً في حيّ برونكس، وهو أحد الأحياء الخمس لمدينة نيويورك ولم يعرف بوجودها إلا في عام 1979 جرّاء عائق الفقر والتهميش الذي لم يساعد في انتشار هذه الثقافة بسرعة، والتي ظهرت كرد فعل لما تعرضوا له من عنصرية وكنوع من التعبير عن الذات ضد المشاكل المجتمعية مثل الفقر والبطالة والظلم، ليصبح الهيب هوب ثقافة وفنا مستقلا فيما بعد.

وهكذا يمكن لشهرزاد أن تستريح بعد أن تقرأوا معها هذه المقالة التي كتبها الدكتور تود بويد  وترجمتها لتعرفوا كيف يمكن بناء الحلم وكيف تُخاض الحروب سواء حروب الموسيقى أو حروب أطفال غزة الآن.

ماذا يعني فوز كندريك لامار بجائزة بوليتزر للموسيقى الأمريكية؟

بقلم: الدكتور تود بويد *

عندما وصف (ناز) ** نفسه بأنه “الفائز بجائزة بوليتزر الأكثر استحسانًا، الراوي الأفضل، الراوي السفاح، صاحب أعظم الأساليب الموسيقية”، في أغنيته “اكرهني الآن – Hate Me Now”(1999)، كان يتنبأ بشيء هائل في الأفق.

نصير بن أولو دارا جونز المعروف باسمه الفني “ناز”

 

تعتبر جائزة بوليتزر للموسيقى واحدة من أبرز وأرفع الجوائز في البلاد. تم منحها لأول مرة في عام 1943، تكريمًا لمن قالت عنه البوليتزر “الأمريكي صاحب التأليف الموسيقي” والذي تم عرضه في حفل صخم لأول مرة في الولايات المتحدة خلال العام.

وخلال الأعوام الثمانين الأولى من عمر الجائزة، كانت جائزة الموسيقى تُمنح سنويًا باستثناء أربع مناسبات (أعوام 1953 و1964 و1965 و1981) حيث قررت لجنة التحكيم أنه لا يوجد عمل منفرد يستحق هذه الجائزة. ومع ذلك، في عام 1965، أوصت لجنة التحكيم بمنح تقدير خاص لإدوارد كينيدي “ديوك” إلينجتون لكامل أعماله. يمكن القول إن إلينجتون هو أعظم ملحن في الولايات المتحدة وأحد أهم الشخصيات في تاريخ الموسيقى الأمريكية.

ديوك إلينجيتون

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من توصية لجنة التحكيم بالإجماع، رفض المجلس الاستشاري لبوليتزر تأييد الاقتراح وقرر عدم منح أي جائزة في ذلك العام. مما دفع اثنان من أعضاء هيئة المحلفين للاستقالة في النهاية احتجاجًا على ذلك.

وعندما أبلغ مجلس الإدارة إلينجتون بالرفض، رد بطريقة إلينجتونية خاصة، حيث قال عبارته الشهيرة:

“لقد كان القدر لطيفًا معي. القدر لا يريدني أن أكون مشهورًا جدًا في سن مبكرة جدًا”.

وكان عمره آنذاك سبعة وستين عاماً. وفي حديثه بمزيد من التفصيل في مقال نشرته مجلة نيويورك تايمز في 12 سبتمبر 1965، سلط إلينجتون الضوء على التحيز الكامن في النوع الموسيقي الذي اختاره:

“أنا بالكاد مندهش من أن هذا النوع من الموسيقى الخاص بي لا يزال لا يحصل على الشرف والاعتزاز اللذين يليقان به في المنازل الأمريكية. ولا يزال معظم الأميركيين يعتبرون أن الموسيقى الأوروبية — الموسيقى الكلاسيكية، إذا صح التعبير — هي النوع الوحيد المحترم حقًا”.

ولكن يتغير كل ذلك عام 1997 عندما أصبح وينتون مارساليس أول فنان جاز يفوز بجائزة بوليتزر للموسيقى عن عمله الملحمي “دماء في الحقول” “Blood on the Fields” مع موسيقى الجاز في لينكولن سنتر أوركسترا. ومن المفارقات أن خطاب مارساليس، مثل قدر كبير من عمله مع الأوركسترا، كان مستوحى إلى حد كبير من إلينجتون.

فوز وينتون مارساليس بجائزة البوليتزر

 

منعطف مفاجئ

اتخذت جائزة بوليتزر منعطفًا مفاجئًا عندما أُعلن في عام 2018 أن مغني الراب كندريك لامار سيحصل على جائزة الموسيقى عن ألبومه (اللعنة) عام 2017. وقد كان كندريك أول فنان موسيقي من نوع آخر غير موسيقى الجاز أو الموسيقى الكلاسيكية ينال هذا التكريم. لذا، في حين أن إعلان “ناز” عن “الفائز بجائزة بوليتزر” قد يبدو ببساطة مثل تبجح الهيب هوب على عالم الموسيقى إذ كانت الهيب هوب تعد نوعا من الموسيقى الشعبية والمبتذلة إلا أن الطريق كان قد أصبح ممهدا لتحقيق ما يبدو أنه كان مستحيلا.

كندريك لامار

 

رحلة شاقة

كانت الرحلة طويلة ومتعددة الطوابق من حفلات غرف الترفيه السكنية في برونكس إلى جوائز بوليتزر، والبيت الأبيض، وبطولة السوبر بول. في حين أن إهانة إلينجتون كانت مؤشرًا على العنصرية والتحيز الثقافي الذي كان موجودًا في الستينيات، فإن الاعتراف بعمل كندريك جعل مجلس إدارة بوليتزر يبدو منفتحًا ومتصلًا ثقافيًا.

تشترك موسيقى الجاز والهيب هوب في بعض أوجه التشابه من حيث كيفية رفض كلا النوعين في نقاط مختلفة، وتجاهلهما، وتهميشهما، وتصويرهما في قوالب نمطية، واعتبارهما تهديدًا للموسيقى الكلاسيكية، قبل إثبات خطأ كل هذا التاريخ السلبي والتجاهل لها من خلال نجاحاتهما الفردية.

الفرق هو أن موسيقى الجاز، على عكس الهيب هوب، حققت نجاحًا ثقافيًا أكثر من كونها نجاحًا تجاريًا، وأصبحت مرتبطة بالفن الرفيع وذروة التطور الموسيقي. كان إلينجتون رجل دولة كبير السن، وقد تعرض للتشويه بعد إصداره مجموعة رائعة من الأعمال على مدار مسيرة مهنية امتدت لعدة عقود. أما كندريك، فهو فنان معاصر حصل على جائزة بوليتزر في وقت مبكر نسبيًا من حياته المهنية. وهذا ليس استخفافًا بموسيقى الجاز: فقد كانت الموسيقى دائمًا فوق رؤوس الجماهير، جاذبة للرقص، والمرح، وتدعو الناس للتجاوب معها، في حين تهمش عند منح الجوائز. وبدلاً من ذلك، فهي شهادة على مدى التحول الذي حققته موسيقى الهيب هوب، حيث تمكنت من الحفاظ على شعبيتها بينما حققت في النهاية أيضًا أوسع إشادة من النقاد.

في ضيافة الرئيس

قبل ثلاث سنوات من حصول كيندريك على جائزته التاريخية، أعلن الرئيس باراك أوباما أن أغنيته المفضلة لهذا العام هي أغنية “كم تكلفة الدولار”، من الألبوم الحائز على جائزة جرامي. وأعقب ذلك دعوة لمغني الراب الشهير، من كومبتون، كاليفورنيا، للقاء الرئيس في البيت الأبيض.

باراك أوباما وكندريك لامار

 

وذكرت فاليري جاريت، كبيرة مستشاري أوباما، أن الرئيس قال للفنان الشاب:

“هل تصدق أننا نجلس في المكتب البيضاوي؟”

في هذا البيان كان يعترف بالآثار التاريخية لكونه أول رئيس أسود للبلاد وأن ثقل تأثيره وقدرته على تشكيل الثقافة أدى بشكل مباشر إلى احتلال هذين الرجلين السود مساحة كانت تعتبر في السابق بعيدة المنال.

إن اعتراف أوباما وتقديره لشخصية متطورة مثل كندريك لامار يدل على كفاءة ثقافية لم يسبق لها مثيل بالبيت الأبيض أو بالسياسة بشكل عام. وفي مجتمع تخدم فيه الثقافة مثل هذا الغرض المهم، فإن الافتقار إلى الاحترام الرسمي لهذا الغرض غالبا ما يكون مخيبا للآمال.

ولهذا السبب على وجه التحديد، مارس العملاق الموسيقي الأسطوري كوينسي جونز ضغوطًا على أوباما لتعيين سفير للفنون، ووزير للثقافة. ورغم أن هذا لم يحدث، فإن انخراط أوباما الثقافي المستمر، طوال فترة رئاسته وما بعدها، يشير إلى أن مثل هذه الاعتبارات تستحق الاهتمام بكل تأكيد.

كوينسي جونز

 

بينما أصبح كندريك أول مغني راب يفوز بالجائزة المرموقة في الأدب الموسيقي فإن صدح صوت الهيب هوب، بالنسبة لهذه القصة، حدث خلال عرض نهاية الشوط الأول في إنجليوود في استاد السوبر بول، ملعب صوفي بكاليفورنيا في 13 فبراير 2022، بقيادة دكتور دري، ويضم أيضًا المطربين سنوب دوج، وماري جي بليج، وإيمينيم، و50 سنت، وكيندريك، يمثل الأداء التاريخي سابقة أخرى – أول سوبر بول في التاريخ يركز حصريًا على الهيب هوب. لم يكن من الممكن أن يُتاح للدكتور دري وسنوب دوج فرصة الأداء على مسرح السوبر بول في عام 1993.

من حفل سوبر باول – هاف تايم شو

 

كانت موسيقى الراب مرتبطة ارتباطا مباشرا بالعصابات في الشوارع، مثيرة للجدل للغاية لدرجة أنه لم يُسمح لها بالمشاركة في مثل هذا الفضاء الثقافي السائد، ولكن مع نمو حلم الهيب هوب وتطوره، في نهاية المطاف وعلى الرغم من كل الصعاب التي وصلت إلى نقطة الهيمنة الثقافية، تراكم ما يكفي من النفوذ لتكون قادرة على إعادة مزج الحلم الأمريكي على النحو الذي أدى إلى خلق نسخة جديدة لأولئك الذين حرموا منه ذات يوم.

* عن المؤلف

الدكتور تود بويد هو رئيس برايس لدراسة العرق والثقافة الشعبية وأستاذ دراسات السينما والإعلام في جامعة جنوب كاليفورنيا. ظهر الدكتور بويد، المعلق الإعلامي والمؤلف والمنتج والمستشار، في أفلام وثائقية مثل The Last Dance (ESPN، 2020) ومحمد علي (PBS، 2021) من إخراج كين بيرنز. تتضمن مجموعة أعماله سبعة كتب وقد ظهرت مقالاته في نيويورك تايمز، ولوس أنجلوس تايمز، والجارديان.

** عن ناز

نصير بن أولو دارا جونز (بالإنجليزية: Nasir bin Olu Dara Jones)‏ (14 سبتمبر 1973) المعروف باسمه الفني ناز هو مغني راب وممثل أمريكي من أصل نيجيري مولود في مدينة نيويورك من أب نيجيري كان يشتغل عازف جاز.

عن د. زين عبد الهادي

باحث وروائي مصري، نشر له العديد من الأعمال العلمية والإبداعية، أستاذ علم المكتبات والمعلومات جامعة حلوان، المشرف العام على مكتبة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، رئيس تحرير مجلة عالم الكتاب التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وزارة الثقافة (سابقا).

9 تعليقات

  1. مقال مهم
    شكرا جزيلا

  2. دائمًا نلتمس الثقافة الرفيعة والمعلومات القيمة من أحاديثك وكتاباتك دكتور زين الأستاذ والمبدع والإنسان النادر

  3. مقال رائع يادكتور زين، ربما يوضح أن لابد للكفاح والصبر من نتيجة نهائية رائعة.. تحياتي وتقديري

    • شكرا جزيلا د. ايمان الصديقة العزيزة والكاتبة الرائعة.. خالص المحبة والامتنان

  4. مقال رائع جدا ..
    تحياتي لقلمك المبدع استاذي الفاضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *