مع بدايات عملي بائعا للكتب القديمة في سوق ديانا كان لزاما عليّ توفير مصادر للكتب إلى جوار مكتبتي الشخصية؛ مؤكد ستنتهي يوما وحينها سأحتاج إلى مصدر آخر للاستمرار في عملية البيع دون توقف، إنها تجارة في النهاية وقد ارتضيت المسألة عملا –بشكل دائم– لذلك بدأت في السعي بحثا عن أشخاص يرغبون في بيع مكتباتهم. وبدأت الرحلة.
هاتفني أحدهم وانتقلت إلى شقته في منطقة المعادي، وهناك أدركت أن المسألة لن تتوقف عند بيع وشراء الكتب وفقط؛ فقد كان بين الكتب مجموعة كبيرة من الأسطوانات والتي تضم تسجيلا كاملا للقرآن الكريم بصوت الشيخ محمود خليل الحصري.
عالم الاسطوانات السحري
سألت التجار في السوق من يشتري مثل تلك الأشياء، ومن هنا تعرفت إلى الشاعر سيد التوني والجاليري الخاص به ومقره في شارع جانبي متفرع من شارع البرازيل في حي الزمالك، لأكتشف عالما سحريا من الأسطوانات وأشرطة الكاسيت والكتب واللوحات وأجهزة الفونوغراف والمسجل والصور الفوتوغرافية. بمرور الوقت صارت صداقة، وفي واحدة من تلك الزيارات للمكان اشتريت أكثر من 100 صورة فوتوغرافية، تاريخ التقاطها ما بين 1957 و1970.
عشت مع تلك الصور فترة وأصبح هناك عشق آخر إلى جوار الكتب والخطابات القديمة؛ عشق الصورة الفوتوغرافية. تلك التي أقرأ من خلالها تاريخ آخر للعالم.
أول صورة شمسية في القارة
عرفت الصورة طريقها إلى مصر بعد اختراع آلتها بأسابيع قليلة؛ فقد اخترع “جاك مانديه داغير” آلة التصوير الشمسي عام 1839، وفى الرابع من نوفمبر 1839 بعد أقل من شهرين على ذلك الاختراع ومن مدينة الإسكندرية التقطت أول صورة شمسية في قارة إفريقيا؛ داخل قصر محمد علي باشا.
ثم أسس بعد ذلك “غابرييل ليكيجيان” صاحب التوقيع الأشهر في عالم الفوتوغرافيا “ليكيجيان G. Lekegian” أول ستوديو فى مصر عام 1887 بالقرب من فندق شبرد، تلاه ستوديو المجري “بيلا” بمنطقة عابدين عام 1890.
قدوم المصور الأرميني “ليكيجيان” إلى مصر والذي أتبعه قدوم المصور الأرميني “ألبان” مصور العائلة المالكة البلجيكية ثم قيام مصور أرميني أخر “أرمنياك أرزوروني” والشهير بـ”أرمان” بفتح ستوديو بميدان مصطفى كامل كان له الأثر الأكبر في تغيير مسار الصحافة المصرية وبروز الصورة فاعلا أساسيا في الخبر الصحفي.
كانت السيطرة للمصور الأرمني تحديدا حتى افتتح المصور “رياض أفندي شحاتة” ستوديو خاص عام 1907 ليكون أول مصري يقدم على هذه الخطوة، ثم تعلم التصوير فتى آخر لا يقل أهمية وشهرة، وهو المصور محمد يوسف، الذي بدأ التصوير الصحفي عام 1933 بمجلة روز اليوسف ثم انتقل إلى دار الهلال ليعمل في مجلة الإثنين من إصدارات الدار برئاسة تحرير مصطفى وعلى أمين، لكنه انتقل معهما حين أسسا أخبار اليوم عام 1944، وكان ثالث الرواد رشاد القوصي المصور الصحفي في “الزمان”، والذي صاحب محمد حسنين هيكل في رحلة صحفية إلى فلسطين وقت معركة 1948، ثم رابعهم محمد صبري، الذي رفض أن يعمل تابعا لـ محمد يوسف في الأخبار فأصبح منافسا قويا له في مؤسسة دار الهلال لعقود امتدت بعد ذلك.
محمد صبري.. تاريخ خاص للفوتوغرافيا
محمد صبري هو الابن الأصغر للمستشار أحمد محمد صبري أحد المحققين في قضية (ريا وسكينة) الشهيرة عام 1920. والدته جميلة حكمت محمد أغا الأرناؤوطي، وشهرتها جميلة صبري إحدى رائدات الحركة النسائية، وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة في عام 1920 كانت رفيقة درب هدى شعراوي في مشاريع النهوض بالمرأة.
تعرفت إلى محمد صبري عام 2017 في أثناء إجراء حوار صحفي -بتكليف من رئيس تحرير الهلال الأستاذ خالد ناجح- مع مؤسس قسم التصوير في المؤسسة، وقتها كان صبري في الرابعة والتسعين من عمره، وفي المقابلة حدثني عن بداياته مع تعلم التصوير، يقول: “أهديت إحدى لوحاتي إلى شقيقتي الكبرى والتي علقتها على جدران فيلتها، وعندما أرادت بيع الفيلا، كان المشترى هو المصور الشهير “ألبان” مصور العائلة المالكة في بلجيكا والذى توقف عند اللوحة كثيرًا وسأل عن مصدرها وقد أبدا دهشته؛ فهو يعرف جميع الرسامين ولا يتذكر لمن ترجع هذه اللوحة! فأجابته إنها لشقيقي الأصغر، في هذه اللحظة طلب ألبان رؤيتي”.
عندما التقى محمد صبري المصور ألبان أثنى على لوحاته ونصحه بتعلم فن التصوير الفوتوغرافي وتنبأ له بأنه سيكون إضافة حقيقية لهذا الفن.
لم يكن ألبان هو الأرميني الوحيد الذي داعب أحلام الشاب محمد صبري، هناك أيضا “أرمان” الذي تعلم على يديه التصوير، وهو أيضا الذي رشحه إلى إميل زيدان ليؤسس قسم التصوير بالمؤسسة، ربما ترشيح أرمان هو الذي شجع زيدان أن يسند هذه المهمة لشاب في ذلك السن.
في بداية رحلته للعمل كمصور صحفي ذهب صبري إلى “أخبار اليوم” والسبب صداقة جمعت بين أخيه الكبير المهندس سيد صبري ومصطفى أمين. يستكمل صبري حديثه متذكرا ذلك اللقاء: “عرفت بعد مقابلة مصطفى أمين أنني سأعمل تحت رئاسة المصور محمد يوسف، إلا أنني رفضت أن أكون مجرد “صبي” تحت رئاسة أحد فخرجت من أخبار اليوم ولم أعد إليها مرة أخرى، ثم رشحني أرمان لـ إميل زيدان والذي طلب تأسيس قسم للتصوير أكون مسئولا عنه، وكانت المؤسسة قبل ذلك تتعامل مع مصورين أجانب لهم ستوديو خاص دون أن يكونوا تابعين للمكان”.
يمسك صبري بعصا يتكئ عليها ثم يعتدل في جلسته وهو يبتسم حين تذكر رئاسته للقسم: “كان في المؤسسة مصورون أقدم وأكبر سنا، وكانت مسألة مرهقة أن يتأقلموا على الوضع الجديد، لذلك طلبت في البداية أن يخفي عليهم زيدان مسألة أننا نسعى لتأسيس قسم للتصوير وأنني رئيسه، حتى أشاهد المعمل وأستعد للمسئولية جيدا، لكنني لم أطق صبرا إذ عاملوني باعتباري “صبي” فطلبت من زيدان إعلان الخبر، وكانت مفاجأة للجميع، واستلزم مني الأمر أن أتعلم الفرنسية لأقرا كل ما هو جديد في عالم التصوير والمعامل ليكون قسما مميزا بين أقسام التصوير في الصحف المصرية ذلك الوقت”.
في نهاية اللقاء دعاني محمد صبري لزيارته متى شئت، كان بشوشا ودودا يفتح صدره للجميع، بيد أن الحياة لم تعد قابلة لبقاء مثل تلك النماذج؛ فبعد مرور عام بالضبط رحل محمد صبري في أكتوبر 2018، عندما علمت بخبر رحيله حزنت بشدة، وما زاد حزني أنني لم أعرف إلا بعد رحيله بعامين، فلم أكن على قدر ذلك الحب، ولم أبادله شغف الصورة في حياته، وربما ما أمر به الآن هو حق الزيارة الطيبة التي استقبلني خلالها المصور الكبير محمد صبري؛ فإن كان سيصل إليه كلامي بأي طريقة كانت – إن وجدت مثل تلك الطريقة – يجب أن تعلم أنني جمعت مئات الصور الفوتوغرافية خلال عام كامل من أسواق الكتب والمقتنيات القديمة والمستعملة، وأنني أفرزها الآن باحثا عن تاريخ آخر غير الذي نقرأ في الكتب!
إضافة للحكاية باشوفها مهمة، عرفتها من خلال عملي كجرافيك ديزاينر مع الأرمن،
– المُصور اللي إلتقط أوّل صورة في قصر الخيديوي محمد علي، كان أرمني برضو (يُعتقد إن اسمه “جارو”)
– نتيجة للصورة، أعجب بها الخيديوي جدا، وطلب من “جارو” أن يتمنى أي أمنية يشاء ليحققها له.
– تمنى “جارو” في هذه اللحظة، أن تحصل الجالية الأرمينية في مصر، على الجنسية المصرية.
– تم تحقيق طلبه، ومن ساعتها تم منح الأرمن الجنسية المصرية، وسمح بأن يتجندوا داخل الجيش الوطني بعدها.
– جزء من قرار “تجنيس” الأرمن، كان سياسي، ومتوافق مع رغبة محمد على في الاستقلال بمصر عن الخلافة التركية.
ليه؟
– لأن سبب دخول الأرمن مبكرًا لمجال التصوير الفوتغرافي، هو سبب قومي، لتوثيق الأرمينيان-جينوسايد (مذابح الأرمن التي تعرض لها الأتراك)
– حتى وقت قريب، جميع ستوديوهات التصوير الأرمينية في العالم كله، في يوم 1 إبريل من كل عام، والموافق يوم الحداد الأرمني على ضحايا الجينوسايد، بتضع صور فوتغرافيّة نادرة توثّق الاضطهاد التركي للأرمن.
– نتيجة علاقات تركيا المعاصرة بالاتحاد الأوربي، تتدخل الحكومات لمنع هذه الصور والتشكيك فيها، معرضّة الأستوديوهات الأرمينية للإغلاق وسحب تراخيصها.
شكرًا أستاذ سامح على اختيار الموضوع، وسلاسة العرض، وأتمنى إني اكون ضيف خفيف على شهرزاد.
إضافة حضرتك مهمة جدا وافادت الموضوع بالفعل .. شكرا لك